ليس هذا "موسم الهجرة الى الشمال" وهو العنوان الذي اختاره الكاتب السوداني الطيب الصالح لروايته الرائعة. انه "موسم الهجرة من الشمال"، موسم انفصال الجنوب. الجنوب السوداني الذي يطلق الآن رياحا انفصالية مقلقة في طول المنطقة وعرضها. هناك اسباب كثيرة للتحسر والألم، لكن الرئيس البشير لم ينس امس عصاه المرصعة بالفضة والعاج، عندما ذهب الى جوبا في الجنوب في زيارة وداعية، عشية استفتاء يوم الأحد المقبل، الذي تؤكد كل التقارير انه "سيكون حماسيا تاريخيا مفعما بالعاطفة" لان نسبة الذين سيصوتون الى جانب الانفصال ستصل الى 99 في المئة... لكن كل هذا لم يمنع الرئيس السوداني من ممارسة عادته المعروفة التلويح بعصاه والاغراق في الضحك، وان كانت دولة الوحدة في السودان مذبوحة من الالم. *** ولكن ما قبل الانفصال شيء وما بعده شيء آخر. ربما يكون اكثر اثارة من الانفصال بعينه. ذلك انه من الواضح تماما، ان الجنوب الذي سيصير جمهورية مستقلة، مساحتها نصف مساحة السودان، الذي تبلغ مساحته خمسة اضعاف مساحة فرنسا مثلا، هذا الجنوب سينكبّ على اقامة دولة قد تصبح قادرة على ان تقف على رجليها وان تتقدم الى الامام بسرعة، قياسا بمدى الاستعدادات الخارجية "الحماسية" لمساعدتها بما يزيّن لكثيرين ان مساوئ الانفصال هي ام الحسنات في هذه المنطقة العربية التاعسة النائمة على احلام ثعالب انفصالية كثيرة وليس من حراس او نواطير! وذلك ان الشمال الذي فقد نصفه سرعان ما سيتحول من "نزف" الجنوب، الى نزف في الداخل. يكفي في هذا السياق التوقف امام اعلان حزب المؤتمر الشعبي بزعامة حسن الترابي رسميا، خيار اطاحة حكومة عمر البشير عبر انتفاضة شعبية منظمة. فقد اختتم الحزب اجتماعا استمر لمدة ثلاثة ايام، وانتهى باعتماد جملة من القرارات تتمثل في دعم خيار قوى الاجماع الوطني على اطاحة النظام عبر الثورة الشعبية بالوسائل السلمية: "ونحن مع فقه الجهاد بقوة الشعب ضد قوة البندقية"! وقد ساق حزب الترابي مجموعة من الاتهامات لحكم البشير، يبدو بعدها ان لا مفر من وقوع مواجهة، عندما قال ان النظام فقد الشرعية السياسية عبر تزوير الانتخابات وانه جوّع الشعب وتسبب بانفصال الجنوب وبأزمة دارفور، وانه يمارس الارهاب ضد المواطنين عبر الامن والشرطة و"الحكم العسكري"! وهكذا في حين يتجه الجنوب الى بناء دولة جديدة، يسرع الشمال الخطى على طريق انهيار ما تبقى من الدولة. فليس سرا ان ازمة دارفور تغلي، وان هناك مناطق واقاليم اخرى في هذا البلد المترامي تتحرك فيها النار تحت الرماد. واذا كان شر البلية، ان ربع قرن من سياسات الهيمنة والتسلط وقمع طموحات المواطنين هي التي اوصلت الى انفصال السودان، فان ما يضحك الآن هو طمأنة الجامعة العربية للناس الى ان الانفصال سيكون مخمليا. *** نقلت احدى الوكالات كلاما تناهى الى منزل حسن الترابي، منسوبا الى الرئيس عمر البشير يقول انه سيبقى في الكرسي حتى ولو بقيت جزيرة توتي وحدها في السودان، وهي جزيرة صغيرة في الخرطوم. نعم، انها الرياح السودانية الحارقة تهب من جوبا وتندفع شمالا، لتصل حتى الى ما بعد اسلام اباد في شمال شرق باكستان مرورا بأمكنة كثيرة في هذه المنطقة تدفعها الانظمة العمياء والحمقاء الى الحلم بقيام كيانات على طريقة "جمهورية توتي"!. راجح الخوري