لعل هذا الموضوع من اكثر المواضيع المثارة في الصحافة العربية على ضوء ما نشهده من استفتاء لاهالي جنوب السودان وهو استفتاء يعرف الصغير والكبير مسبقا ان نتائجه ستقود إلى انفصال يقود إلى تأسيس دولة مستقلة في جنوب السودان في حوالي ثلث مساحة السودان الحالية. اذن هذا المقال سيسعى لمحاولة فهم دوافع انفصال الاعراق بقصد فهم افضل لتكوينه وتطوره وذلك عبر استقراء نماذج الانفصال التي حصلت في التاريخ الحديث منتهيا بالنموذج السوداني. وبهذا المعنى فان ظاهرة الانفصال ظاهرة تاريخية حصلت في العديد من المجتمعات وليس في المجتمع العربي فقط. حيث تسود الان لغة "الحنين الاندلسي" معظم الكتابات العربية حول السودان الذي كان للاسف حتى وقت قصير من اقل الدول العربية حضورا في دائرة الاهتمام العربي. علما ان المتتبع لاوضاع السودان سواء على مستوى التخبط الداخلي وحجم التدخلات الدولية سيقدر منذ سنوات طويلة ان الامور تتجه نحو الانفصال. لمناقشة اشكالية الانفصال لا بد لنا من تحديد اطار نظري نتمكن من خلاله من تحديد الانفصال كمفهوم نظري. بالانفصال اعني قيام مجموعة عرقية او دينية بالتمرد بقصد الانفصال على الدولة الجامعة بقصد تأسيس كيان سياسي مستقل. وهذا التمرد كما عرف تاريخيا لا يأتي فجأة بل يكون له مقدمات يمكن لصناع القرار السياسي او العاملين في مراكز البحث معرفتها او تقديرها على الاقل. فعلى سبيل المثال سبق انفصال المستوطنين الاوروبيين الذين اسسوا الولاياتالمتحدة (وكانوا في معظمهم من اصل انكليزي) ظهور ثقافة خاصة بالمستوطنين تم التعبير عنها بالثقافة وخاصة بالادب الذي بدأ يأخذ خطوات مستقلة عن الادب الانكليزي في الوطن الام حتى ان شاعرا اميركيا قام بانتقاد الشعراء الاميركان الذين يكتبون شعرا عن القبرة وهو طائر انكليزي وليس اميركيا متسائلا لماذا يكتب شاعر عن طائر لا يعرفه. يلاحظ المفكر اللبناني غسان سلامة ان الهوية العرقية تبني على اساسيين، الاول التركيز على خصوصية الهوية الخاصة بالمجموعة العرقية والثانية التركيز على الغيرية اي على الفروقات ما بين ثقافة هوية الجماعة الثقافية والثقافة الاساسية. ولذا فان من الممكن القول ان الغالبية الساحقة من حالات الانفصال السياسي في التاريخ كان يسبقها انفصال ثقافي ونفسي وسعي لابراز هوية غيرية عن الهوية الجامعة. وفي الزمن الحاضر هناك العديد من الاعراق التي تفكر او تسعى او تشعر ان من حقها الانفصال مثل التاميل في سيريلانكا والاكراد والباسك في شمالي اسبانيا والكاثوليك في ايرلندا الشمالية بل هناك من تجده في اسكتلندا ممن يفكر بهذا الامر. وفي تاريخنا العربي الحديث نشأت الجمعيات الثقافية في العهد العثماني التي ركزت على الخصوصية العربية خاصة في حقلي اللغة والثقافة والتي بدأت تنشر الوعي بالهوية الذاتية للعرب كقومية منفصلة. وهذا التأكيد على الثقافة العربية كان احد الاسلحة المستخدمة خاصة وان الغالبية من العرب والاتراك تتشارك الدين الاسلامي لذا بات من الضروري البحث عن الاسلحة الفكرية التي تمايز العرب عن الاتراك حتى ان الشريف حسين اعلن "اننا عرب قبل ان نكون مسلمين". وهو تعبير لو قيل الان سيثير على الارجح ردود فعل واسعة من طرف التيار الديني. لكنه بلا ادنى شك كان يعكس مناخات تلك المرحلة عندما بدا العرب يشعرون بذاتهم القومية بعدما كانوا قد "استقالوا" من التاريخ وسلموا امر بلادهم للفرس وللمماليك والاتراك السلاجقة والعثمانيين لحول الف عام. دعني اولا اسعى لفهم ظاهرة الانفصال عبر مناقشة اهم النظريات السياسو انثروبولوجية التي تسعى لفهم اسباب الانفصال ودوافعه واليات عمله. من اهم النظريات التي تسعى لتفسير ظاهرة الانفصال نظرية الاضطهاد. تعتبر هذه النظرية الاضطهاد بانواعه سواء كان على المستوى العرقي او الديني او الاقتصادي من اهم الاسباب التي تشجع على الانفصال. ولذا فبغض النظر ان نجح الانفصال او لم ينجح والامر غالبا ما يكون متداخلا مع ضغوطات وتدخلات دولية الا ان هذا يعكس على الاغلب توترات مجتمعية داخلية يسودها التوتر خاصة ما بين المجموعة الراغبة في الانفصال والدولة الجامعة. فالدول الكبرى لا تخترع الخلافات والتمايزات الدينية او القبلية او سواها انما تغذيها وتلعب عليها بما يخدم مصالحها. وسياسة الامبراطور الروماني جوليوس قيصر "فرق تسد" لم تزل امضى الاسلحة بيد القوي الكبرى للعبث بنسيج مجتمعاتنا واضعافها. و اذا ما عدنا للقرن العشرين وحده فسنجد العدد الكبير للدول التي انفصلت عن الامبراطورية النمساوية الهنغارية والامبراطورية العثمانية والاتحاد اليوغوسلافي والاتحاد السوفياتي وتشيكوسلوفاكيا. كانت الشيوعية تملك خطابا فوق قومي قد نجحت باستخدام اساليب متعددة بما فيها العنف في جمع هذه المجموعات في بوتقة الاتحاد السوفياتي او الاتحاد اليوغوسلافي لكن ما ان انهارت الشيوعية حتى بدت كل مجموعة ثقافية في البحث عن ذاتها. طبعا لا نبتغي هنا مناقشة تفاصيل كل هذه الانفصالات لان هذا موضوع طويل اكبر من امكانية المقال الا ان مسالة الاضطهاد او الخوف من الاضطهاد من قبل الاكثرية كما في حالة تكوين باكستان ومسائل تتعلق بالضغوطات المختلفة على الهوية الدينية او العرقية قد تكون القاسم المشترك لمعظم حالات الانفصال. لذا فمشكلة الانفصال مشكلة عالمية ولا تختص بشعب من الشعوب لكن بطبيعة الحال لا بد من التفريق ما بين الانفصال الذي يجد شرعية شعبية والانفصال المفروض بالقوة كا حصل في سايكس بيكو حيث تم تقسيم المشرق العربي (سوريا الجغرافية باقاليمها الاربعة المعروفة ببلاد الشام سوريا الحالية والاردن ولبنان وفلسطين اضافة للعراق) بين بريطانيا وفرنسا التي خلقت هويات مصطنعة باتت للاسف من الحقائق السياسية الموجودة. وكذلك في منطقة الخليج حيث تم بتشجيع من الدول الغربية ايجاد هويات مصطنعة اقيمت على اساسها كيانات سياسية باتت امرا واقعا. والسؤال الذي يطرح نفسه هل من الممكن لنظرية الاضطهاد ان تكون كافية لتفسير الانفصال؟ من الصعب الاجابة على هذا السؤال لانه في عصر العولمة راجت فكرة مفادها ان العولمة ستساعد الشعوب على التعايش بسبب سرعة الانتقال والاتصال لكن اتضح فيما بعد ان ذلك الطرح كان موغلا في التفاؤل اذ ظلت مسالة العرقيات مسالة مطروحة على مستوى الدراسات السياسية والانثروبولوجية. هناك من الامثلة ما يثبت ان نظرية الاضطهاد لا تكفي وحدها لتفسير الانفصال ولذا دعنا نطل على حالة الباسك في شمالي اسبانيا الذي يطالب بالاستقلال. فمنطقة الباسك تتمتع بحكم ذاتي اي انها لا تعاني اي اضطهاد من حكومة المركز كما كان الامر في الماضي اضف انها منطقة صناعية من اغنى مناطق اسبانيا لكن رغم ذلك لم يزل قسم كبير من سكانها يأمل بالانفصال عن اسبانيا بل وتمارس منظمة الايتا العنف لهذا الغرض. كيف يمكن تفسير ذلك؟ من الصعب اعطاء جواب قاطع على هذا السؤال لان نظرية الاضطهاد قد لا تتمكن من تفسير هذه الحالة. لكني ربما يكون الشعور التاريخي بالاضطهاد الذي بلور هوية الباسكيين عبر الاجيال احد العوامل التي تدفع بهذا الشعور. بمعنى اخر لقد انتهى الاضطهاد كفعل مادي لكنه بقى في الشعور حيث يتغذى من التعليم والتراث والفولكلور سواه من مصادر المعرفة. ومن علم النفس نعرف مدى ترابط ثلاثية التفكير والشعور ومن ثم السلوك. اي ان التفكير بالاضطهاد التاريخي هو الذي يولد شعورا بالاضطهاد ومن ثم يحدد طبيعة السلوك. اما في الحالة السودانية فاني اعتقد ان نظرية الاضطهاد تقدم تفسيرا جزئيا للمشكلة. وحسب اعتقادي يمكن تفسير الانفصال السوداني بثلاثة عوامل اساسية. العامل الاول هو عدم قدرة الحكومات السودانية المتعاقبة من تقديم نموذج سياسي يراعي فيه التعددية السودانية الامر الذي ساهم للاسف في اضطهاد مناطق الجنوب اقتصاديا وثقافيا. ومن المهم التأكيد ان هذا العامل هو الذي فسح المجال للقوى الكبرى والصهاينة للتدخل. وقد اشار لهذا الامر الاستاذ سعد محيو في مقال في "التجديد العربي" بتاريخ 10 من الشهر الحالي حول المشروع الاميركي لتقسيم المنطقة. العامل الثاني هو نجاح النخب الجنوبية في الاستفادة من المناخ الغربي المعادي للعرب والمسلمين مقدمة نفسها كحركة تحرر وطني تناضل للتحرر من "الاحتلال العربي الاسلامي!" وهو خطاب يتناسب بدقة شديدة مع الرؤى والمشاريع الامبريالية والصهيونية. وهذا ما يفسر قدرة الحركة الشعبية على الحصول على دعم لتمويل جيش يعادل قوة الجيش السوداني. العامل الثاث هو التدخل الاجنبي من الدول الكبرى بدفع ودعم من الصهيونية التي لعبت على ايجاد هوية جنوبية مصطنعة. فجنوب السودان يتألف من قبائل مختلفة منها حوالي 50 بالمائة مسيحيون و30 بالمائة وثنيون و20 بالمائة مسلمون. اي انه لا يوجد حالة عرقية محددة كما في الحالة الباسكية او الحالة الكردية على سبيل المثال. لكن التهميش الذي تعرضوا له ربما ساعد على تشكيل هوية جنوبية باتت مرتبطة بالاضطهاد الامر الذي تعزز عبر النفخ الاجنبي. و اذا ما قارننا الوضع في السودان بالوضع في اثيوبيا التي تحكم من قبل نخبة من قبيلة التغراي وفي ظل تهميش كامل للارومو والامهرة إلى ما هناك من عرقيات متعددة تصل إلى ما فوق الاربعين حيث تختفي الضغوط الامبريالية والصهيونية، ندرك عندها مدى ما تعرض له السودان من ضغوط امبريالية وصهيونية للوصول إلى ما وصلنا اليه وهي تدخلات عقود من الزمن وليست ابنة الامس. لكن من المؤكد ان المسؤولية الاولى تكمن في التقصير العربي وفي مقدمته تقصير النخب السودانية الحاكمة منذ الاستقلال حتى الان في وصول البلاد إلى ما وصلت اليه من وضع مفكك و ما يحصل في دارفور يعطي مثلا اضافيا لهذا التقصير. د. سليم نزال مؤرخ عربي فلسطيني كتاباته وابحاثه مترجمة إلى اكثر من عشر لغات