(1) ما قبل الخطاب سبق إلقاء الخطاب ما يسبق إذاعة البيان الأول لإنقلاب عسكري. فكان أن حرص كل الشعب السوداني تقريبا على سماعه على الهواء مباشرة. وإتسعت دائرة التكهنات والتمنيات إبتداءا بما يتعلق بزوجة الرئيس ولا إنتهاءا بحل البرلمان أو تنحي الرئيس لنائبه الجديد بغية تكوين حكومة إجماع وطني تتولى فترة إنتقالية سابقة لإنتخابات نزيهة. تندر العديد من الظرفاء بفكرة أن يعلن رئيس ما أنه بصدد إعلان مفاجأة ما. ولعمري أنها سابقة تحسب للبشير ضمن سوابق أخرى أشد غرابة فصارت (مفاجأة_البشير) ومن ثم (خطاب_البشير) كلمات مفتاحية للضحك والتندر عليه في مواقع التواصل الإجتماعي. من جانب المؤتمر الوطني، فقد تم عمدا إستبعاد تحالف قوى الإجماع الوطني من الحضور، خوفا، ربما، على المستوى الأدنى، من تكرار حادثة عرجة، وعلى المستوى الأعلى، من من الإضطرار إلى تسليمهم نسخة من الخطاب أو إطلاعهم على ما ينوي الرئيس قوله وكلاهما أصعب من الثاني. وفي هذا ما يقلل من القيمة المعنوية للمحور الرئيس (المفاجأة) للخطاب كما سنأتي إليه لاحقا. في ذات الوقت، فقد تم تمييز الأجسام ذات الميول الدينية بإطلاعها على فحوى الخطاب فحرصت على الحضور، بينما لا يُفهم حضور منصور خالد إلا ربما من زاوية تخصه هو وجمال الوالي فقط. من جانب المعارضة، فقد أعلن تحالف قوى الإجماع الوطني عقب إجتماعه ذات يوم الخطاب مقاطعته حضور إلقاء الخطاب (باستثناء الشعبي والعدالة). بينما غاب حزب الأمة، كما هي عادته دائما في الملمات والمنعطفات التي يعوَّل عليها، عن حضور الإجتماع المفاجأة. الفاجعة أن المعارضة ناشدت الشعبي ليعدل عن قراره بالحضور. (2) حول الخطاب واضح أن الخطاب فيه من اللغة الرفيعة ما يستعصي تماما على شخص بإمكانيات البشير قراءةً وفهما. المشكلة أن نص الخطاب المكتوب ذاته يحتوي على أخطاء لغوية شنيعة ولم تتم مراجعته بالمستوى اللائق بمراسم رئاسة أي دولة كانت، وكان عبارة عن ملهاة لغوية فيها من الأخطاء النحوية والإملائية وأخطاء الصياغة ما يسخر منه طالب الأساس في السلم التعليمي الإنقاذي، حوى الخطاب مصطلحات ربما تفهم من السياق وليس من القراءة مثل (تقبض، إدالة، الأباعد، الأندغام، قلَّهمُّ، إجتراح، إعتساف، ...إلخ)، وجاء فيه من الأخطاء الإملائية مثل (بهذ، عنند، الايديو لوجية، قُلْوسيلة، مبدأ اً، السيرورات، تدبرمآلاتهاوإستلهام، يُقّدَّر، مُقِرُّبأن، وغيرها مما هو عصي على الحصر في صفحات الخطاب العشر). أما تقعير وتعقيد العبارات والصياغة فيكفينا منها "إن التنوع والتمازج يجب ألا تكون شعارات غير مُسَتشَعرة، لأنها لو ظلت كذلك فلن تعدو أن تكون أحابيل مثل التي بثها الاستعمار في حياة أمتنا وليست هي مناقضة لوحدة الأمة" و "إذ أنه بدون الإدعاء أنْ ليس في السودان فقرٌ، إلا أن فقر المجتمع السوداني بالمقياس المطلق، ليس أشد من فقر الماضي، ولكنه بمقياس مستوى المعيشة الراهن والمأمول أظهر". وزاد البشير الطين بلةً حين قرأها (بدعوى) بدلا عن (بدون الإدعاء). خلا الخطاب تقريبا من النقاط وعلامات الترقيم ناهيك عن تشكيل الحروف ولو بغرض تسهيل القراءة على فخامته فقط، والكلمات التي تم تشكيلها فقد تمت (سواطتها) كما في الأمثلة أعلاه. فكانت القراءة معضلة على القارئ وكان الفهم مستحيلا دون قراءة النص المكتوب (بعد التكهن والتخمن بالطبع). ففي قراءة البشير جاء أن (السلام يُعلَى عليه)، وببساطة أصبحت (بوساطة)، الإلزام صار (الإلتزام)، إدالة تحولت ل (إدانة)، ولكن صارت (ولكي)، بينما فلا بديل أصبحت (فلا بد)، بدون صارت (بدعوى)؛ رفع المنصوب وجر الفاعل فدخلت جُملٌ في أخرى وإلتبست على المسكين المعاني ولجأ في كثير من الحالات إلى قريحته (التي نعرف) لمعالجة هذا الأمر فكانت الطامة الكبرى: خرج الخطاب من بين شفتيه الغليظتين كاللغة الهريوغليفية المترجمة إلى الصينية أولا ثم بعدها إلى السواحيلية ومنها إلى العربية. هذا عن إخفاقات الحروف وما يعنيها؛ أما إذا ما حاولنا أن نصل إلى ما قصد أن يفاجي به الشعب السوداني، فقد ذكرنا سابقا أن الغير مفاجي في الأمر أنه لن يأتي بمفاجأة، وقد كان! ما قاله حول محاور الخطاب الأربعة: السلام، المجتمع السياسي، الفقر، ورابعا وأخيرا، "الهوية السودانية التاريخية، التي تعيش التاريخ، تحترم أبعاضها وتتوحد بهم"؛ كان إجرائيا للغاية ولم يأتِ بجديد البَتَّة! وإذا ذهبنا لتفسير الماء بالماء، فقد أكد سيادته، كمجرم حرب ومطلوب بتهمة الإبادة العنصرية، حرصه وحرص حزبه على السلام، مُشرعِناً في ذات الوقت الحروب القائمة بدعوى أنها من أجل السلام.. عجبي!! حول (التراتبية) السياسية، فقد أوضح، ضمنيا، بعض التراخي في ما يتعلق بتعديل الدستور وقانون الإنتخابات، داعيا كل القوى إلى "إجماع" و "عقد" وطنيين (وفي التسمية دلالات سَيِّديَّة)، ولكنه وللأسف، أعلن أن "الذين سوف يترددون في الريب، يستقيلون عن فرصتهم في رفد المناظرة الوطنية برؤاهم "، وهو ما يسعى إليه ملقياً بوِزره على الرافضين. أما حول النهضة الإقتصادية التي "كان لبعض النفر عليها تحفظات نفر قريب ونفر غريب"، فقد تحدث عن "القريب" عانيا به المعارضين ولكنه أغفل عمدا عن "النفر الغريب" مشيرا إليه إشارة خافتة في "حق السودان في اعفاء دينه السيادي ورفع عقوبات جائرة متنوعة والشراكات الاستثمارية والتكامل الاقليمي ...الخ"، وهنا فقط يحضر للذهن إرتباط كارتر والبنك الدولي بهذه المفاجأة. ما بين هذا وذاك عن مشروعات التنمية في البنية التحتية والنهضة الزراعية وفرص عمل الشباب وغيرها، ما يُذكِّر بأحمد منصور في بلا حدود حين قاطع النائب الأول (السابق) علي عثمان طه قائلا " متى سيتم ذلك؟ هل ستبدأون وضع الخطط لتحقيق الإكتفاء الذاتي بعد 25 سنة من الحكم!!؟" وكان علي عثمان حينها يقول أنهم "في طريقهم لإقامة منشآت وخطط في الزراعة وفي الصناعة"!!. أما حول وزارة المالية وتقوية وضع البنك المركزي فكأن البشير لا يعلم أن هناك شهود عيان على الأموال التي تذهب لمؤسسات المؤتمر الوطني مباشرة من مطابع السودان للعملة ولا تمر على ببنك السودان وبالتالي لا يعلم المراجع العام عنها شيئا. في المحور الرابع إعترف بشة أن للهامش حق في السلطة والثروة، و"إن التنوع والتمازج يجب ألا تكون شعارات غير مُسَتشَعرة"، وأن أحابيل المستعمر ونشوة الإستقلال هي السبب الرئيس في وصول الهوت دوق والبيتزا للسودان في أواخر عهد الإنقاذ وليس قبل ذلك! ولكنه ودون وعيٍ منه وقع في خطأين أولهما أنه أعطى الشرعية لحملة السلاح بينا هو يحاول أن يبرر حفاظه على السلام بالقوة فقد قال "إن السلام غاية مبتغاه، لايأتي إلا بجهد أكبر من جَهد العراك، وقد يستوجب عراكاً، أو معارك، فإذ يتبنى كل السودانيين السلام اساساً، يكون قرار هذه المعارك قراراً موحداً، لأنها يستوجبها السلام، لا لأنها خروج على السلام، وفي هذا تحرير لمفهوم الحرب العادلة". ثانيهما أنه أعلن أن المؤتمر الوطني مؤسسة غير ديمقراطية (قل غير شورية) يأتي القرار فيها مخالفا لأمر الشورى "الظرف الداعي لتعطيل ركن هام يُقّدَّر بقدره". (3) أشياء غريبة: 1- خلا الخطاب تماما من أي آية قرآنية!! 2- التكبيرة الوحيد كانت باهتة خجولة وقبل بداية الخطاب. 3- كل الوجوه التي مرت عليها الكاميرا كانت (مندهشة). 4- لم أعرف ما إذا كانت الضحكة (أو التكشيرة) التي جاد بها بشة علينا مع نهاية الخطاب؛ تدل على أنه يرغب وبشدة في الذهاب للحمام أم أنه يشبه الشخص الخارج لفوره من الحمام. (4) أسئلة: 1- أين تاج الدين عرجة؟ وماذا حدث لعرجة الثاني الذي قال "حسبنا اله ونعم الوكيل" مرتين بعد أن قال البشير "فإن إبتدار النهضة، لايمكن تصوُّره إلا بجعل السلام أولوية غير تالية"!!؟ 2- هل هناك أي علاقة بين حضور منصور خالد وبين اللغة العالية (جضن) لهذا الخطاب؟ أم أن كاتبه هو أمين حسن عمر و(جغمسهُ) بشة كما يتردد؟!! هشام جودة [email protected]