الدعم السريع يقتل 4 مواطنين في حوادث متفرقة بالحصاحيصا    زيادة كبيرة في أسعار الغاز بالخرطوم    قرار من "فيفا" يُشعل نهائي الأهلي والترجي| مفاجأة تحدث لأول مرة.. تفاصيل    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    كاميرا على رأس حكم إنكليزي بالبريميرليغ    الأحمر يتدرب بجدية وابراهومة يركز على التهديف    عملية منظار لكردمان وإصابة لجبريل    بيانٌ من الاتحاد السودانى لكرة القدم    الكتلة الديمقراطية تقبل عضوية تنظيمات جديدة    ردًا على "تهديدات" غربية لموسكو.. بوتين يأمر بإجراء مناورات نووية    مستشار رئيس جمهورية جنوب السودان للشؤون الأمنية توت قلواك: كباشي أطلع الرئيس سلفا كير ميارديت على استعداد الحكومة لتوقيع وثيقة إيصال المساعدات الإنسانية    لحظة فارقة    «غوغل» توقف تطبيق بودكاستس 23 يونيو    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يحوم كالفراشة ويلدغ كالنحلة.. هل يقتل أنشيلوتي بايرن بسلاحه المعتاد؟    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    تشاد : مخاوف من احتمال اندلاع أعمال عنف خلال العملية الانتخابية"    دول عربية تؤيد قوة حفظ سلام دولية بغزة والضفة    وزير الداخلية المكلف يقف ميدانياً على إنجازات دائرة مكافحة التهريب بعطبرة بضبطها أسلحة وأدوية ومواد غذائية متنوعة ومخلفات تعدين    صلاح العائد يقود ليفربول إلى فوز عريض على توتنهام    الفنانة نانسي عجاج صاحبة المبادئ سقطت في تناقض أخلاقي فظيع    وزيرالخارجية يقدم خطاب السودان امام مؤتمر القمة الإسلامية ببانجول    (لا تُلوّح للمسافر .. المسافر راح)    وزير الخارجية يبحث مع نظيره المصري سبل تمتين علاقات البلدين    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    برشلونة ينهار أمام جيرونا.. ويهدي الليجا لريال مدريد    وداعاً «مهندس الكلمة»    وفاة بايدن وحرب نووية.. ما صحة تنبؤات منسوبة لمسلسل سيمبسون؟    الجنرال كباشي فرس رهان أم فريسة للكيزان؟    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة لها مع زوجها وهما يتسامران في لحظة صفاء وساخرون: (دي محادثات جدة ولا شنو)    شاهد بالصور والفيديو.. رحلة سيدة سودانية من خبيرة تجميل في الخرطوم إلى صاحبة مقهى بلدي بالقاهرة والجمهور المصري يتعاطف معها    الأمعاء ب2.5 مليون جنيه والرئة ب3″.. تفاصيل اعترافات المتهم بقتل طفل شبرا بمصر    دراسة تكشف ما كان يأكله المغاربة قبل 15 ألف عام    مستشار سلفاكير يكشف تفاصيل بشأن زيارة" كباشي"    نانسي فكرت في المكسب المادي وإختارت تحقق أرباحها ولا يهمها الشعب السوداني    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة حديثة تعلن بها تفويضها للجيش في إدارة شؤون البلاد: (سوف أسخر كل طاقتي وإمكانياتي وكل ما أملك في خدمة القوات المسلحة)    الأمن يُداهم أوكار تجار المخدرات في العصافرة بالإسكندرية    العقاد والمسيح والحب    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التصدي للإنهيار القيمي و الأخلاقي في السودان
نشر في الراكوبة يوم 31 - 01 - 2014


د. عمر بادي / عمود : محور اللقيا
كنت قد كتبت في مقالتي السابقة عما يدور في سودان اليوم , و أجبت من سألني : (كيف وجدت السودان؟ ) بأنني ( وجدته سمحا بناسه و وجدته لا يطاق جراء الغلاء الفاحش ) ! كنت في هذه المقالة أود أن أتطرق إلى ما وعدت به القراء الكرام في مقالتي السابقة بخصوص التجاوزات المالية و ما عرف بالتجنيب بشيء من التفصيل خاصة في قطاع الكهرباء الذي يخصني كثيرا , لكن على ضؤ فيديو فتاة الواتساب الإباحي الشهير و فيديو الفتى الشاذ على حفرة الدخان فقد تأكد لي أن مجتمعنا السوداني في خطر من التحولات السالبة الكبيرة التي تمر به و أنه لا بد من دق ناقوس الخطر و دعوة الإخوة الكتاب و المسؤولين و منظمات المجتمع المدني لدراسة هذا الوباء الذي تفشى و إيجاد الحلول الناجعة و العمل بها . كلنا نعلم بأمراض مجتمعنا الناتجة عن الفقر المدقع الذي أودى بالناس إلى العجز عن تلبية أساسيات الحياة و الإكتفاء بوجبة واحدة في اليوم , بعد أن إنهارت الطبقة الوسطى و إزداد الفقراء فقرا و بقي القليلون من أهل الحظوة يزدادون غنى على غناهم , و لم تعد الإختلاسات و السرقات عيبا بل ( شطارة ) فظهر رأسماليون لم يكونوا شيئا مذكورا في سابق عهدهم , و انهارت مؤسسات كثيرة كانت عونا للسودان في إنتاجه و تطوره و أدى ذلك إلى تفشي البطالة . هذا بجانب الحروب الأهلية التي طالت البلاد في كل الإتجاهات و التي تكلف الدولة ما يعادل الأربعة ملايين دولار يوميا . لقد كتبت في مقالتي السابقة عن المستجدات السالبة في الحياة المجتمعية في السودان و التي تمثلت في إختطاف الأطفال و إختفاء و ( طفش ) الكبار و إزدياد حوادث الإغتصابات و إستفحال تعاطي المخدرات و إزدياد معدل الإصابة بالإيدز و تفشي البطالة و إنتشار عصابات النهب و سرقة المقتنيات الشخصية مع التاثير الواضح بثقافة أفلام الآكشن الأمريكية و مقاطع الفيديوهات الإباحية . هكذا هو الوضع المجتمعي الراهن , فكيف يتم تجاوزه ؟
من المؤكد أن التدهور الإقتصادي المستفحل في السودان قد طغى بجحافله على كل معاقل الأخلاق و القيم و المثل الرفيعة فأصابها بالتضعضع ولم ينج إلا من أنشأوا بنيانهم على قواعد عميقة و ( مسلحة ) , و صار حال هؤلاء المتمسكين بها كحال الممسكين بالجمر ! يقول الشاعر أحمد شوقي :
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا
لقد كان الفقر موجودا على مر الأزمان , و العين كانت ( مليانة ) و الزهد كان فضيلة لردع النفس الأمارة بالسوء , و الحياة في بساطتها كانت لا تتطلب الكثير من الضروريات . في زماننا هذا إزدادت ضروريات الحياة العصرية و توزعت ما بين التعليم و المسكن و المأكل و الملبس و الترحيل و الصحة و الكهرباء و الماء و الغاز , أما قديما فإن ما وجد من هذه الضروريات كان مجانيا في البادية و بأقل تكلفة عند أهل الحضر . لذلك فإن ضيق ذات اليد صار وقعه أكبر في زماننا هذا . هنالك فتيات و نساء تضطرهن ظروف التعليم و إعالة الأطفال إلى التضحية بأنفسهن عند عدم وجود من يسد متطلباتهن المادية سواء كان أبا أو أخا أو إبنا مغتربا أو عند عدم توفر العمل أو قلة عائده , فيلجأن إلى إتخاذ ( الأخدان ) الذين يسدون لهن ( حوجتهن ) المادية , و معظم هذه النوعية من النساء يتعللن ب ( الحوجة ) في ما يفعلن , و قد وضعت مفردة ( الحوجة ) بين قوسين لأن المفردة العربية الصحيحة هي الحاجة و هذا خطأ شائع . لذلك فقد ضاقت دار المايقوما لإيواء المواليد مجهولي الأبوين على سعتها من كثرة النزلاء بها . لا أود أن أطيل في وصف الحال المائل في السودان , و لكن سوف أتصدى للإنهيار القيمي و الأخلاقي عن طريق طرح حلول هي بمثابة خارطة طريق يجب العمل بها في شكل ترتيب زمني :
أولا : يجب إغلاق منافذ التسلل من دول الجوار فورا و مطاردة المتسللين بواسطة شرطة الجوازات و شرطة النظام العام و قوات الأمن العام و إعادتهم من حيث أتوا , و التدقيق في هويات الأجانب غير المسجلين إن تمت معرفتهم , أو التدقيق العشوائي في الهويات و الإقامات كما يحدث في دول عدة و إبعاد المخالفين لقوانين الهجرة و العمل , و عمل فحوصات طبية للأجانب القادمين بطرق شرعية للأمراض المعدية الفتاكة كالإيدز و إلتهاب الكبد الوبائي و السل و هي امراض منتشرة في دول الجوار جنوب الصحراء و يجب توفير الإعتمادات المالية الكافية حتى يتسنى القيام بهذا الواجب على أحسن وجه . يردد المسؤولون من خلال أجهزة الإعلام أن حالات الإيدز المكتشفة في السودان تعادل 18 ألف حالة و أن عدد الحالات المتوقعة يعادل 70 ألف حالة بنسبة تعادل أقل من 0.2 % من عدد السكان . إن الكثير من الدول خاصة العربية لا تظهر إحصائيات الإيدز فيها على حقيقتها و بكثرة كما هو عندنا في السودان , و هذه الصراحة الزائدة قد جلبت للمغتربين السودانيين مضايقات عدة في إعادة فحوصات الأمراض المنقولة جنسيا عند إجراءات تجديد الإقامات .
ثانيا : تضمين الثقافة الجنسية و نشر الوعي الصحي في مقررات التربية الوطنية في المدارس و الجامعات و أن تساهم منظمات المجتمع المدني في نشر الوعي بإقامة الندوات للشباب , خاصة عن الأمراض المنقولة جنسيا و كيف يمكن تجنبها و توفير الواقي الذكري و الأنثوي في الصيدليات و بأسعار زهيدة كما هو الحال في كل دول العالم دون تمييز , و أن الوطن في حاجة إلى شباب أصحاء مربين على حب الوطن و الإعلاء من شأنه و العمل على صون ممتلكاته العامة و الخاصة و الذود عن حياضه . بعد ثورة أكتوبر 1964 تقرر تدريس مادة التربية الوطنية في المدارس الثانوية و لكن إنتهت تلك التجربة مع إنتهاء العمل بمباديء تلك الثورة نفسها !
ثالثا : محاربة الأفلام و مقاطع الفيديو الإباحية التي تروج لإشاعة الفاحشة عن طريق إنتهاج طرق مغايرة لأسلوب حجب تلك المواقع لأن الحجب صار غير مجدٍ مع البرامج التي تبطل مفعول الحجب و التي يمكن الحصول عليها بسهولة من الإنترنت . لذلك الأجدر التقليل من تأثير تلك الأفلام و مقاطع الفيديو عن طريق تعزيز مفهوم العيب في المجتمع , و كما هو معروف فإن العيب يلتقي عليه كل أفراد المجتمع رغما عن تبايناتهم العقيدية , فالتلفظ بالكلمات النابية باللغة الإنجليزية كما ترد في الأفلام و مقاطع الفيديو من شاكلة ما تتم ترجمته على الشريط بالعربية ب ( تبا لك ) و ( يا إلهي ) و هي ترجمات تراعي ثقافتنا رغما عما بها من إيحاءات جنسية و لكنها لا تسمح بترجمة تلك الألفاظ حرفيا . يشمل العيب أيضا ممارسة الجنس على مرأى و مسمع من الآخرين و المشاركة في ممارسته بالتناوب و تصويره ! إن مفهوم العيب يتم غرسه في الطفل غرسا منذ أن يعي توجيهات والديه و هو في المهد حتى يحكم تصرفاته الطائشة , و عند دخوله إلي المدرسة يتكفل مدرسوه بغرس مفهوم العيب عنده . هذا الدور التربوي أراه قد إختل مع مشاغل الوالدين و المدرسين مع متطلبات الحياة المعيشية التي تعقدت كثيرا , و لا بد من العودة إليه . لقد كانت للمدرس مسؤولية كبيرة تجاه تلاميذه حتى خارج سور المدرسة و كان على صلة بأولياء أمور التلاميذ حتى يتضامنوا في تربية التلاميذ . في ذلك يقول الشاعر أحمد شوقي :
إذا رشد المعلم كان موسى و إن هو ضلّ كان السامريا
و كان التلاميذ يبجلون مدرسيهم عملا بقول الشاعر أحمد شوقي :
قم للمعلم وفه التبجيلا كاد المعلم أن يكون رسولا
رابعا : العودة إلى إحياء التعاليم الدينية و القيم المجتمعية مع تنشئة الطفل حتى وصوله إلى سن الرشد , و تربيته على أن الحلال بيّن و الحرام بيّن و أن الخير فيه الثواب و الشر فيه العقاب و كل نفس بما كسبت رهينة , و لذلك فإن مخافة الله و إتقائه خير رادع للإنسان من عمل الموبقات . من المؤكد أن كل الشباب قد تعلموا التعاليم الدينية منذ صغرهم , لكن قد غلبت عليهم شقوتهم و هم في سن المراهقة بفعل قوة مجتمعية دخلت عليهم و لم يستطيعوا منها فكاكا و هي قوة الشلة أو الشللية ! فكيف يتم لنا ردع تأثير الشلة ؟ يتم لنا ذلك بمراقبة الأبوين لأبنائهم و بناتهم مراقبة لصيقة عند سن المراهقة في كل ما يخص دخولهم و خروجهم و الإصرار لمعرفة أفراد شللهم و إبداء الرأي فيهم إن علموا بسوء مسلك البعض منهم , و يجب على الآباء فرض قراراتهم تلك بكل حزم , لأن أصدقاء السوء يحرضون الأبناء كي لا ينصاعوا لوالديهم .
خامسا : الخروج من إحباطات التردي الإقتصادي و البطالة و قتامة المستقبل , و كما هو معروف فإن جل المظاهر المجتمعية السالبة تعتبر من إفرازات الإحباطات الآنفة , فالسلبية و اللامبالاة هي مؤشرات لرفض الواقع المجتمعي عند إنتفاء القدرة على تغييره بعد أن فرض فرضا على الناس , و هذا العجز يصل بالبعض إلى حالة من اليأس تؤدي إلى الخروج و ( الطفش ) أو إلى سد الأذنين بطينة و عجينة - كما يقال عندنا – و ترك أفراد الأسرة يعيشون حياتهم كما يشاؤن ! هذه الحالة من الإحباط تجعل الشباب مهيئين نفسيا للإهتمام بسفاسف الأمور كالإهتمام بالقنوات الرياضية و الألعاب الإلكترونية كالبلي ستيشن و الإكس بوكس و متابعة الأغاني الهابطة و ( سك ) المناسبات و الحفلات و تعاطي المحظورات و الخمول التام و الإكثار من النوم . الخروج من هذه الإحباطات أراه حاليا في الخروج من السودان نفسه و لا ارى حلا آخر في الوضع الراهن مع إنعدام فرص العمل و قلة دخل الأعمال الحرة الهامشية . كان من الممكن إيجاد حلول إسعافية و إدغامها في الخطة قريبة المدى للدولة مع وضع الميزانية اللازمة لها , كخلق فرص جديدة للعمل مع إزدياد مشاريع التنمية و زيادة صادرات السودان حتى ترتفع قيمة الجنيه السوداني و تنخفض الأسعار , لكن لا أرى بصيصا من أمل حاليا .
سادسا : القضاء على ظاهرة إنتشار المخدرات أو التقليل منها مرحليا . في سودان ما بعد الإستقلال كان البنقو هو المخدر الوحيد المعروف في السودان , و للدكتور التيجاني الماحي رائد الطب النفسي في السودان ورقة كتبها عن البنقو و إعتبره من فصيلة القنب الهندي و أن تاثيره أخف من الحشيش , لكن رغم ذلك فإنه ربما يقود إلى فقدان العقل . أما عن المخدرات المصنعة كالهيرويين و الكوكايين و الكراك التي تستعمل بالشم و المورفين الذي يستعمل بالحقن و ما إليه فقد دخلت إلى السودان أخيرا و تأثيرها أشد دمارا بالجسم و تقود إلى الإدمان القاتل . لدي مقالة كنت قد كتبتها قبل خمسة أعوام كعرض لرواية كانت قد ظهرت في مصر في ذلك الوقت و كانت بعنوان ( ربع جرام ) لمؤلفها عصام يوسف و هي عن شاب أدمن المخدرات حتى كادت تودي بحياته ثم أهّل نفسه و أقلع عنها , و بما أن تجارب المخدرات واحدة فسوف أنقل إليكم بعضا مما ورد في مقالتي تلك . تعاطي المخدرات ينتج عن دور ( الشلة ) و أصدقاء السوء في جذب الضحايا الشباب الي الإدمان , سواء في الزمالة الدراسية في المدرسة أو في الأندية و الأحياء , و يزداد نتيجة لبُعد الأبوين و إنشغالهما عن مراقبة و رعاية الأبناء سواء بضغوط العمل في الداخل و الخارج أو بمساهمتهما الإجتماعية . تكون البداية دائما بإتباع السلوك الموصل الي الإدمان بأنواعه ... إبتداء بتدخين السجائر في الخفاء أثناء الطفولة , ثم يأتي تأثير أصدقاء السوء في تجربة تدخين البنقو و إستعمال الحبوب المخدرة , ثم الإنتقال الي شم الهيرويين و الكوكايين و الحقن بالمورفين ...
إن الأفكار التي يروجها متعاطو المخدرات و مروجوها بين الشباب لجذبهم لها تنطوي علي مغريات بان المخدرات افضل من غيرها من المسكرات في أنها لا تظهر علي متعاطيها و لا تؤثر كثيرا في سلوكه و يمكن له الإقلاع منها متي قرر ذلك . كل ذلك محض إفتراء و مجاف للحقيقة , لأن المخدرات مع التعود عليها تقود الي تزايد الجرعات و الي التحول الي الأنواع الأقوي منها حتي يتم للمفعول تأثيره , و بذلك تتحول الي عادة و إدمان لا فكاك منه , دون أن يدري المدمنون بذلك , و دون أن يعترفوا أنفسهم بأنهم مدمنين و بذلك تودي به إلى الموت عند تعاطيه لجرعة زائدة ( أوفردوز ) . يصير المدمن في سبيل حصوله علي المخدر مستعدا لعمل أي شيء ليتحصل علي النقود سواء عن طريق السرقة و التي تصل الي سرقة مقتنيات البيت و بيعها , و ربما تصل الي الولوج الي عالم الجريمة و الي مصيدة المروجين و عصابات الإجرام بل و الي عالم العمالة الأجنبية .
يكون الأمل في إسعاف المدمنين عن طريق مستشفي إعادة التأهيل , و هي نوع من المستشفيات صار معروفا في معظم البلاد كمستشفى التيجاني الماحي عندنا . هنا لا بد من الأخذ بيد هؤلاء المدمنين الضحايا و إعتبارهم مرضي و ليسوا مجرمين يحاسبهم القانون , حتي يعودوا مواطنين صالحين في المجتمع . في مستشفي إعادة التأهيل تلقى عليهم محاضرات و تنظم لهم حلقات حوار تتركز في أشياء ثلاثة : الأمانة و التفتح الذهني و النية . الأمانة في أن يكون المريض أمينا مع نفسه في كل متطلبات الأمانة حتي في تناول الدواء , و التفتح الذهني في الصفاء في التفكير و في الإستفادة من درس التعاطي و في العودة الي الإيمان و قوته , أما النية فبدونها لا يصمد المدمن علي ترك التعاطي و إنما يعود إليه بعد خروجه من المستشفي . لذلك كانت النية بالشفاء و عدم العودة تتم بمساعدة متطوعين كانوا في الأصل مدمنين و تخلصوا منه و قد كونوا أفرعا لجمعية عالمية لها برنامج معروف ببرنامج المدمنين المجهولين و الذي يحتوي علي برنامج الإثني عشر خطوة .
المدمنون المجهولون هي جمعية عالمية تكونت بعد نهاية الحرب العالمية الثانية من مجموعة من المدمنين القدامي علي الخمور الذين تعافوا منها , ثم صارت الجمعية تهتم بكل أنواع المؤثرات العقلية و أضافت المخدرات اليها . للجمعية أفرع في 127 دولة و لها إجتماعات أسبوعية تصل الي 43 ألف إجتماع في كل تلك الدول أسبوعيا , و لها برنامج مكون من إثنتي عشرة خطوة يتبعها المدمنون المرضي الذين ينوون الإقلاع . تضم هذه الخطوات الآتي : الإعتراف بالضعف تجاه الإدمان , الإيمان بأن هنالك قوة أعظم من أنفسنا بإستطاعتها أن تعيد المدمن الي طبيعته , إتخاذ القرار بتفويض الله في أمرنا و إرادتنا , الرجوع الي النفس و محاسبتها أخلاقيا , الإعتراف لله و لأنفسنا و لشخص نثق في مساعدته بأخطائنا , سؤال الله أن يخلصنا من نقائصنا الشخصية , تحديد الأشخاص الذين آذيناهم للإعتراف لهم , الدعاء الي الله و التأمل في حالنا , الوصول الي الصحوة الروحانية ....
يعدد الشاعر أبو العتاهية أسباب الإنحراف في بيت مشهور بقوله :
إن الشباب و الفراغ و الجِدة مفسدة بالمرء أي مفسدة
و الجدة هي بحبوحة العيش و الرغد , لكن حسب وضعنا الإقتصادي المتردي فإن الشباب و الإعالة و المسغبة هم المفسدة !
سابعا : تعزيز دور المنظمات الشبابية في ربط الشباب بقضايا الوطن و تنظيمهم و تأسيس كيان يجمعهم . معظم الشباب كانوا لا يضعون السياسة في إهتماماتهم , و لا يقرأون في الصحف إلا الصفحات الرياضية , لأن إهتماماتهم كانت تنصب كما ذكرت آنفا في سفاسف الأمور ربما نتيجة لإتساع الفجوة بينهم و بين جيل آبائهم بسبب التكتيم الإعلامي و تضييق الحريات و قطع الصلات بما سبق بعد تغيير المناهج الدراسية و إتباع إعادة صياغة الإنسان السوداني . زد على ذلك إحباطات الوضع الإقتصادي المتردي و البطالة و الشعور بالعجز أمام تغيير الواقع خاصة للذين خاضوا تجارب مطلبية في التجمعات الطلابية في الجامعات و كانوا تحت رحمة الأجهزة الأمنية . رغما عن ذلك ظهرت منظمات شبابية سعت إلى نقل الربيع العربي إلى السودان و نزلت إلى الشوارع و الميادين و لكنها لم تجد السند الكافي من الشباب الآخرين و كانوا تحت رحمة الأجهزة الأمنية . لكن مع إزدياد الوعي و مع صعوبة الحياة بعد الزيادات الأخيرة في سبتمبر الماضي تقدم الشباب و المواطنون و خرجوا في تظاهرات هادرة و كان تصدي القوات الأمنية و المليشيات لهم بإطلاق النار عليهم في مقتل فاستشهد ما يقارب المئتين ! و كان ذلك بمثابة دعوة إيقاظ جعلت اللامبالين من الشباب يلتفتون إلى ما يدور في الوطن و يهتمون بتاريخه السياسي و بثورة 21 أكتوبر 1964 و إنتفاضة 6 أبريل 1985 , و هأنا أرى الشباب كلهم يهتمون هذه الأيام بخطاب الرئيس البشير الأخير و يملأون الواتساب و الفيسبوك بالتعليقات و المداخلات و الكاريكاتيرات !
يقول الشاعر أحمد شوقي :
شباب قنّع لا خير فيهم و بورك في الشباب الطامحينا
و أيضا يقول شوقي :
زمان الفرد يا فرعون ولّى و دالت دولة المتجبرينا
و أصبحت الرعاة بكل أرضٍ على حكم الرعية نازلينا
و يقول شوقي أيضا :
و للحرية الحمراء باب بكل يد مضرجة يدق
إنني أعتبر الشاعر أحمد شوقي شاعر الحكمة الثاني بعد المتنبي و يعجبني قوله في حب الوطن :
وطني لو شغلت بالخلد عنه نازعتني إليه في الخلد نفسي
أخيرا أكرر و أقول : إن الحل لكل مشاكل السودان السياسية و الإقتصادية و الإجتماعية يكون في العودة إلى مكون السودان القديم و هو التعايش السلمي بين العروبة و الأفريقانية و التمازج بينهما في سبيل تنمية الموارد و العيش سويا دون إكراه أو تعالٍ أو عنصرية . قبل ألف عام كانت في السودان ثلاث ممالك افريقية في قمة التحضر , و طيلة ألف عام توافد المهاجرون العرب إلى الأراضي السودانية ناشرين رسالتهم الإسلامية و متمسكين بأنبل القيم , فكان الإحترام المتبادل هو ديدن التعامل بين العنصرين العربي و الأفريقاني . إن العودة إلى المكون السوداني القديم تتطلب تغييرا جذريا في المفاهيم و في الرؤى المستحدثة و في الوجوه الكالحة التي ملها الناس !


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.