الخرطوم (رويترز) - أتذكر صرخة "من سينقذنا الان.." المدوية التي أطلقها اهل الجنوب في السودان حدادا على زعيمهم الراحل جون قرنق وترن في أذني اليوم مثلما حدث في 2005 عندما دفن السودان وحدته مع قرنق. ومثلت وفاة قرنق في تحطم طائرة هليكوبتر بعد مجرد أسابيع من تسلمه منصب نائب الرئيس نقطة تحول في تاريخ السودان. والان يصوت الجنوبيون في استفتاء لانفصال عن الشمال مع دخول اتفاق السلام الذي أنهى أطول حرب أهلية في افريقيا أيامه الاخيرة. أتذكر جيدا الجو المشحون الذي عم بعد عودة قرنق الظافرة الى الخرطوم... ومن بوسعه أن ينسى.. كانت الشوارع تموج بالملايين من أهل الجنوب الذين كانوا يخافون دخول منطقة وسط المدينة وتوقفت حركة المرور وانهارت مبان بسبب أعداد الناس الكبيرة بل أن البعض فقد حياته في ظل الفوضى. شاهدت الموقف من أعلى مبنى متداع بينما مضت جحافل من الناس لرؤية زعيمهم حتى أنهم دهسوا نظام الصوت فلم يتمكنوا من الاستماع اليه. انتهت الحرب وانتهت معاناتهم وأصبح السودان أخيرا بلدا يمكنهم أن يقولوا انه بلدهم وهتف الشبان الجنوبيون في الشوارع "هذه هي مدينتنا الان" وساروا في الطريق الرئيسي بوسط الخرطوم. وشهد السودان نهضة حيث رفعت حالة الطواريء وأزيلت كل نقاط التفتيش العسكرية من كل مكان وتدفقت الاستثمارات الاجنبية وافتتح أول مطعم أجنبي للوجبات السريعة مما اعتبر دليلا على التقدم. وتحدى أفراد في الحركة الشعبية لتحرير السودان التي كان يرأسها قرنق الشريعة الاسلامية وجلسوا على الطريق الرئيسي يحتسون زجاجة من الويسكي في وضح النهار. وبدأت قوات الامن السودانية فجأة تخاف الجنوبيين بعدما ظلت لسنوات تثير الخوف. كان سودانا جديدا بحق. تحدثت مع قرنق كثيرا عبر الهاتف لكنني التقيته شخصيا للمرة الاولى يوم توليه منصب نائب رئيس السودان. وبعد ذلك بثلاثة أسابيع فقط مات وتغير كل شيء. وكان قرنق الرجل الوحيد الذي يعتبر شخصية وطنية في الشمال والجنوب وبعدما اختفى من الساحة وخفتت الصدمة فقد السودانيون الامل والرغبة في العمل من أجل الوحدة. وعند سماعه خبر وفاة قرنق سألني صديق من شمال السودان في رسالة نصية بائسة عبر الهاتف قائلا "هل نحن أمة ملعونة.." وفتح النبأ طوفانا من الكراهية تحول الى أسوأ أشكال العنف. وبدأ الجنوبيون الذين يعتقدون أن الخرطوم قتلت بطلهم في قتل الشماليين وحرق المتاجر والسيارات وكل ما هو أمامهم. ولم تتدخل قوات الامن السودانية لايام فيما حدث وشكل شبان مسلحون بكل ما تقع أيديهم عليه عصابات وقاموا بدوريات ليلا لحماية أحيائهم. كان الجميع يحملون السلاح. وانتقلت الحرب الى الخرطوم للمرة الاولى ولا يمكن لاحد أن ينسى. ومع تراجع القتل أدى سلفا كير نائب قرنق اليمين الدستورية لتولي منصب رئيس جنوب السودان في ظل مراسم كئيبة. ونحا بي وزير شمالي كبير جانبا وسألني أثناء المراسم "من هو هذا الرجل.. ما هي طبيعته.." ويوضح هذا ضالة معلومات الشمال عن المتمردين الذين حاربهم لسنوات. وتفاوض كير في أمر بروتوكول ماشاكوس الذي بشر باتفاق السلام عام 2005 . وكان المسؤول نفسه قد دعا العائلات الشمالية قبل عودة قرنق لشراء الاراضي بسرعة "لان الجنوبيين قادمون." ولم يستمر الامر فكير ليس رجل دولة مثلما كان قرنق كما أنه وجد أن ادارة الجنوب الذي كان رئيسه أيضا مهمة منهكة لذا سرعان ما كسب لقب النائب الغائب في الشمال. وكافح وزراء جنوبيون جدد لشق طريق لهم في أروقة حكومة الخرطوم التي يسيطر عليها الشمال وفقد معظمهم الامل مما يعني أن الشماليين والجنوبيين الذين تمنوا أن يغير السلام حياتهم أصيبوا بخيبة أمل كبيرة. وحاولت الخرطوم تأخير تنفيذ معظم أجزاء الاتفاق. ولا يمكن أن يرقى المتمردون السابقون في الجنوب الى السياسيين المخضرمين نظرائهم في الشمال. لكن لم تكن الاحزاب في الشمال والجنوب هي فقط التي خذلت السلام فالشعب أيضا خذله لانه مازال يطبق الافكار القديمة فيما يتعلق بالقبلية وعائلات النخبة في الخرطوم. ففي الخرطوم دفعت مالا لطفل جنوبي حتى يذهب الى مستشفى خاص ويعالج جرحا كبيرا في رقبته. ورفض حرس المستشفى ادخاله على الرغم من امتلاكه المال الى أن أتيت وأدخلته بنفسي. مازلت أسمع كلمة "عبد" تستخدم لوصف الجنوبيين ولا يزال تقدم مسلمين من الجنوب للزواج من نساء شماليات يثير أزمات عائلية وما زالت البنات الجنوبيات محرومات من لقب "بنت الناس." ومازال الاعتقاد هو أن البشرة الفاتحة دليل على الجمال بخلاف البشرة الداكنة. وتوجد المعتقدات نفسها على جانب الجنوبيين. ولعق زعيم قبلي في ولاية واراب الجنوبية ذراعي للتعبير عن اعجابه ببشرتي الفاتحة وعرض على زميلتي عددا من الابقاء ليتزوجها. ويصف الجنوبيون الشماليين بأنهم "غلابة" وهو الوصف الذي يعود لايام تجارة العبيد. وقالت الشرطة لصديق لي سرقت سيارته في الخرطوم وعثر عليها في جوبا انه يجب أن يدفع 5000 ألف جنيه (ألفي دولار) لاسترجاعها لانه "عربي" غني. هل كانت هذه الافكار ستتغير لو كان قرنق قد عاش.. أود أن أجيب على هذا السؤال بنعم. يعطيني الجيل الجديد الامل. ففي الجامعات بالخرطوم يختلط أبناء الشمال والجنوب بحرية بدون مشاكل في الفصول وأثناء الغداء. لكن مع اقتراب انفصال الجنوب ومع الزخم الذي يكسبه التهديد بعزل الجنوبيين عن الشمال أخشى ألا يتمكن الجانبان من الاختلاط مجددا