في الاسابيع القليلة الماضية أثار السيد سالفاكير النائب الاول لرئيس الجمهورية السودانية، رئيس حكومة الجنوب، لغطا كثيرا بالقائه خطابا انفصاليا جريئا في احدى كنائس العاصمة الجنوبية جوبا، حرّض فيه المصلين بصورة غير مباشرة بأن يصوتوا لصالح انفصال الجنوب عن الشمال في الاستفتاء المصيري المزمع في عام 2011م. وقال السيد كير لمستمعيه انهم اذا كانوا يريدون ان يعيشوا كمواطنين من الدرجة الثانية في السودان الموحد، فعليهم اذن ان يصوتوا للوحدة. هذا خطاب ليس فيه لف او دوران سياسي لمن ألقى السمع وهو شهيد. وليس فيه ذرة من المراعاة السياسية لمشاعر السودانيين الشماليين الذين خرجوا بالملايين لاستقبال قادة «الحركة الشعبية» الذين عادوا الى الوطن في معية زعيمهم قرنق ماسحين من نفوسهم كل اثر من آثار الشحناء والبغضاء التي توسدت نياط القلوب على مدى خمسة عقود من الزمن السوداني الكئيب. ان دعوة السيد كير المغلفة للانفصال لا يحتاج فهمها الى درس عصر. اذ لا احد يريد ان يعيش كمواطن من الدرجة الثانية في بلده. كثيرة هي مداورات السيد سالفاكير حول قضية الوحدة والانفصال في ماضيه وحاضره. وكثيرة هي الاخبار التي تحدثت عن خلافاته السرية مع الدكتور جون قرنق رفضا لمشروع الوحدة الذي يؤمن به قرنق ايمانا عميقا. المتسرب من تلك الاختلافات يقول ان الرجل يقف في صف الانفصال بحزم عكس موقف قائده قرنق المتحمس للوحدة بحزم. ولكن غياب الدكتور قرنق المفاجئ وضع الرجل في موقف لا يحسد عليه. وألزمه باخفاء ما لا يمكن التصريح به في ذلك الوقت العصيب. وجعله يمتهن اللعب بغير ذكاء على كل الحبال. فهو حينا مع الوحدة قلبا وقالبا. ومتحمس لتطوير علاقاته مع شركائه الانقاذيين الى ابعد الحدود. وفي حين آخر هو مع الانفصال قلبا وقالبا باعتباره الضمانة الوحيدة لأن يعيش انسان الجنوب كمواطن من الدرجة الاولى في الجزء الخاص به من هذا المد الجغرافي المترهل الذي اسماه الجغرافيون العرب بالسودان. وهكذا اعتمر الرجل المواقف المائعة في قضية الوحدة وهي قضية لا تحتمل ذرة من الميوعة السياسية. ولكن جديد الرجل هذه المرة هو انه حرّض اهله السودانيين الجنوبيين على التصويت لصالح الانفصال بقوة وصراحة وجرأة. الامر الذي يضع مصير مشروع «السودان الجديد» الذي ابتدعه الراحل جون- على محك البقاء أو الفناء. صحيح ان مشروع «السودان الجديد» قد تعرض من قبل لتحد خطير من قبل القيادات الانفصالية التي انشقت عن قرنق وشكلت «مجموعة الناصر»، ودخلت في صدام مسلح عنيف ضد مجموعة قرنق الوحدوية في عام 1992 بقيادة الدكتورين لام اكول ورياك مشار الرافضين لمشروع «السودان الجديد». ولكن المشروع صمد وبقي وزاد قوة بفعل ديناميكية الدكتور قرنق. ولكن شاءت الاقدار ان يموت جون قرنق في حادث جوي مأساوي بعد اسابيع قليلة من استقبال الشعب السوداني له في العاصمة القومية استقبال الفاتحين، وقبل ان يضع اللمسات الاخيرة لمشروعه الوحدوي مع شركائه الجدد الممثلين في حكومة الانقاذ، ليدرك الشعب السوداني بعد فترة ليست طويلة ان الحادث المأساوي الذي أودى بحياة الدكتور جون قرنق، قد اودى كذلك بمشروع «السودان الجديد» الذي اوقف له الدكتور جون قرنق حياته كلها. لقد وضح للشعب السوداني بعد رحيل الدكتور قرنق ان مشروع «السودان الجديد» كان له خصوم جنوبيون كثيرون وسط المجموعة القيادية التي تحلقت حول الزعيم الكارزمي ولكنها لم تجد الجرأة التي تكشف بها عن وجهها الحقيقي مخافة أن يجرفها عباب التيار الوحدوي الجارف الذي يقوده الدكتور قرنق بتصميم حاسم. حتى اذا قضى قرنق قبل أن تورق اغصان المشروع، اخرج المتوارون اعناقهم من تحت الترب، وصاروا يهيلون التراب على مشروع سودان قرنق الجديد بصور مباشرة احيانا، وبصور غير مباشرة احيانا اخرى. وقد اعتمد المتوارون على اللف والدوران والمواربة واللعب على كل الحبال مفترضين الغباء والغفلة الزائدة عن الحد لدى الطرف الآخر. مواقف السيد سالفاكير المتعددة والمتناقضة آزاء الوحدة اصبحت عبئا ثقيلا على جزء من الشعب السوداني الشمالي في الوقت الحاضر باستثناء قبائل اليسار الشمالي بكل مسمياتها التي يصدق عليها وصف عين الرضا التي لا ترى غير المحامد. ولعله من الطرافة بمكان أن يفوق حماس جماعات كثيرة في السودان الشمالي لمشروع «السودان الجديد»، حتى حماس الجنوبيين انفسهم لذات المشروع الذي يلزم السودان الشمالي بما تنوء بحمله الجبال الراسيات من الاصلاحات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية التي تصب في صالح الجنوب الامر الذي كان من المفترض ان يجعله اقرب الى قلوب الجنوبيين. ولكننا لا نرى ولها جنوبيا بمشروع «السودان الجديد» يوازي الوله بمشروع الانفصال. لقد كتبت وقلت ذات مرة انه قد يكون هناك مثقفون جنوبيون يؤمنون بالوحدة ولكنني لم اقابلهم بعد على كثرة ما قابلت من مثقفين جنوبيين في داخل البلد وفي خارجها. وله قبائل اليسار الشمالي بمشروع «السودان الجديد» حالة تستحق وقفة متأملة. فهذه القبائل كانت وما زالت اكثر الجماعات الشمالية حماسة لمشروع «السودان الجديد». وقد وصلت الحماسة ببعضها درجة تخلت فيها عن كياناتها القديمة، لتقفز الى مواقع القيادة والريادة في تنظيم الحركة الشعبية الحفيظ المفترض على المشروع الوليد. ولكن تداعي قبائل اليسار الشمالي نحو مشروع «السودان الجديد» بزعامة الدكتور قرنق كان له مبرراته واسبابه الموضوعية. فقد صحت قبائل اليسار من سباتها الطويل ذات صبح باكر لتجد غريمها القديم وقد تمكن من الامر بليل. فسامها الخسف والهوان وزيادة مثلما سام الآخرين. وخلق صعود الغريم الاسلامي (الانقاذي) حالة من اليأس لدى كل قبائل اليسار الشمالي جعلتها تيمم وجهها شطر مشروع «السودان الجديد» بحماسة زائدة دون ان تتريث لترى كيف ينمو البرتقال من تحت اديم الثرى، وكيف يصارع الترب. لم تنتظر قبائل اليسار الشمالي لترى. وتركت راءها الجمل بما حمل. ولم يعد يعنيها اذا انهار المعبد على ساكنيه وعابديه ام بقي على ظهر الارض طالما مؤذن هذا المعبد هو الغريم القديم. في مقابل موقف قبائل اليسار المتهالك نحو مشروع «السودان الجديد» كان هناك موقف السودان التقليدي العريض تجاه المشروع. لقد أمعن السودان العريض النظر كرتين في تفاصيل وزوايا وخبايا مشروع «السودان الجديد». وحدق في عيون الذين تراصوا خلفه، ونظر في وسائلهم، فبان له ان المشروع، في بعض تجلياته، يصوب معاول الهدم ضد ثقافته وموروثاته باعتبارها ثقافة مهيمنة. رغم ان الصحيح هو انها ثقافة حاضنة وليست في عداء مع ثقافات الآخرين. لقد كانت هناك مؤشرات كفيلة باثارة الشكوك والمحاذير لدى عمار السودان العريض. عملية طرد اللغة والثقافة العربية الاسلامية من دورالتعليم في جبال النوبة السودانية لصالح اللغة الانجليزية التي يستجلب لها المعلمون والمناهج من يوغندا وكينيا كانت رسالة مرة المذاق وغير مكذوبة الاهداف البعيدة. طرد لغة وثقافة حاضنة وليست معادية هو في حد ذاته تحقير لوجدان امة عاشت دهورا تحتطب الأمل في تأسيس كيان يشمخ بوجه الريح العاصف ويقف مصدا صامدا امام العواصف العرقية والعنصرية والجهوية والقبلية. ألا يتخاطب اهل الجنوب ويتواصلون فيما بينهم -مثلا- بعربي جوبا؟ ألم يغن فنان الجنوب وفنان السودان يوسف فتاكي للوحدة الوطنية السودانية بعربي جوبا صادحا بأناشيده التي صارت ذات يوم من المصدات القوية ضد هجمة الانفصالية الغشيمة - «سودان بلدنا - ياي بلدنا وكلنا إخوان». لقد ارتعبت الكثرة الكثيرة من اهل السودان العريض من استهداف قيم السودان المرعية من قبل دعاة السودان الجديد رغم انها قيم تكافل وتوادد وتراحم ولا يجوز وصمها بأنها قيم قديمة يجب ابدالها بقيم السودان الجديد المفترض التي لا يعرف احد حتى هذه اللحظة ما هي ديناميكية هذه القيم وما هي مطلوباتها الفكرية والفلسفية. لقد صار مشروع «السودان الجديد» عرضة لمهب الريح بعد غياب صاحبه الفاجع ولم يعد ذلك المشروع الكبير الاهداف، بعد ان اصبحت مراكز البحث الاميركية لا تفتأ تحدث عن جلسات سرية بين الشريكين تناقش من وراء ظهر اصحاب الشأن سبل (تسليس) فصل الجنوب عن الشمال. في آخر زيارة للسيد دينق الور، وزير خارجية السودان، للعاصمة الاميركية، حدث الوزير مستمعيه في منزل سفير السودان بواشنطن، ان اجتماعات الشريكين مع الادارة الاميركية ناقشت اجراءات انفصالية ولم تناقش مسائل وحدوية. وضرب الوزيرالصريح، الذي يتحدث بلغة عربية سلسة وهادئة ورزينة، مثلا للمسائل الانفصالية التي يجرى نقاشها مع الادارة الاميركية وقال انها مسائل الحدود والمياه والبترول والعملة معتبرا تلك المسائل مؤشرا على مولد دولتين جديدتين. صورة السودان الجديد الايجابية التي جسدها الدكتور قرنق في المخيلة الشعبية السودانية لم تعد موجودة الآن. وجاءت في مكانها صورة سودان جديد بالمعنى السلبي للجدة التي تعني الانفصال والتشرذم والتنازع الابدى بين مكوناته المختلفة. فخلفاء قرنق لم يعودوا يذكرون السودان الجديد او يتحدثون عنه مثلما كان يذكره صاحبه ويتحدث عنه. لقد انصرفوا عنه الى احاديث الانفصال والتهديد والتلويح به في كل الاوقات حتى بدا السودان ليس فقط متأهبا للانفصال، انما عائشا حالة فعلية من حالات الانفصال. نعم، لقد عمقت (الانقاذ) جراحات الجنوب بإعلانها الجهاد على شعبها في الجنوب. مثلما عمق الجنوب ذات يوم جراحات الشمال بابتدار اول المجازر الدموية ضد الشماليين الابرياء في الجنوب في عام 1955م. لقد كانت مجازر قاسية نفذتها قلوب اعماهاالحقد العنصري فارتكبت من الاعمال الوحشية ما يجل عن الوصف. وكان من الضحايا اطفال ونساء ومعلمون كانوا يؤدون رسالة العلم في احراش الجنوب. كان استاذي عبد الرحمن بلال احد هؤلاء. كان يلقي درسا على تلاميذه الصغار. طرق متمرد مدجج بالسلاح الباب بعنف. ذهب استاذي عبد الرحمن بلال ليفتح الباب للطارق. فوجد الموت السريع عند الباب بطلقة غادرة في جبينه الوضيء بين صيحات وبكاء تلاميذه الجنوبيين الصغار. كانت تلك صفحات سوداء من تاريخ السودان. ولكن العزاء ان الاحساس بقتامتها وفداحتها ورفضها كان شاملا في الشمال والجنوب. فنان الجنوب الحزين غنى باكيا: مندكرو ماتوا سمبلة... سوري ياخوان! و(مندكرو) كلمة جنوبية تعني الشماليين. والمعنى العام للاغنية الشعبية الحزينة يقول ان الشماليين قتلوا بلا سبب. ويعتذر الفنان الحزين لاخوانه الشماليين نيابة عن اهله الجنوبيين عن الفظائع التي ارتكبت باسمهم. لقد كان الامل ان تمثل اتفاقية السلام السودانية الحد الفاصل بين عهدين في السودان، عهد قديم ولى وعهد جديد ازف للتو، ينسى السودانيون فيه فظاعات الماضي ويقبلون على الحاضر والمستقبل بقلوب مفتوحة. ولكن لا يبدو ان الاتفاقية قد حققت شيئا من هذا. ولا هي في طريقها لتحقيقه. لقد دمر الشريكان المتشاكسان احساس الشعب السوداني بالفرح الطاغي يوم توقيع الاتفاقية الكبير في يناير من عام 2005 يوم غلبهما ان يغادرا حظيرتهما الحزبية الضيقة. ان الشعب السوداني اليوم يعيش حالة فريدة من الاحباط بسبب استطالة النزاع بين طرفي الوطن الذي استعصى على كل وصفات العلاج - المحلي منها والمستورد. ولم يعد يخيفه التهديد بالانفصال الذي يأتي من السياسيين الجنوبيين ولا تغريه تطمينات الوحدة المنطلقة من جهة الحادبين عليها في الشمال. وهكذا صارت دعوة رئيس حكومة الجنوب المغلفة لشعبه للتصويت للانفصال صيحة في بيد جرداء لم تخف احدا في الشمال وان طرب لها البعض في الجنوب. لقد وطن الشعب السوداني في طرفي الوطن نفسه على القادم الاكيد، من قرائن الاحوال المعاشة، التي تقول له ان الجنوب ذاهب في حال سبيله ولا معنى للبكاء على اللبن المراق. والحال كذلك، فإن دعوة السيد سالفاكير غير المباشرة لشعبه للتصويت للانفصال لم تفعل اكثر من التأكيد على موت مشروع «السودان الجديد» بموت صاحب المشروع. ولا يبدو في افق السودان السياسي ان سرادق كثيرة ستقام للعزاء في الفقيد. عن الوطن القطرية 17/11/2009م