ما إن أعلن الرئيس السوداني عمر البشير عمّا أسماه مفاجأة حتى عاش الشارع ترقّباً في انتظار ما ظنّوه قرارات غير مسبوقة تعالج أوضاع البلاد المتفاقمة على المسارين السياسي والاقتصادي، إلّا أنّ الخطاب الرئاسي خذل التوقعات وفرخّ إحباطاً شديداً لدى السودانيين بعد أن خلا برأي الكثيرين من أي بارقة أمل نحو تغيير حقيقي فتمخض الجبل بعد أن ولد فأراً. وفُسّر الخطاب الرئاسي على أنّه محاولة من البشير لضخ روح جديدة في جسد حزب المؤتمر الوطني الحاكم، ولا يؤشّر بأي حال من الأحوال ولو لمجرد احتمال حدوث تغيير جذري في سياسة الحاكمين التي قادت البلاد إلى الأزمة الشاملة، فيما وصفت مُفردات الخطاب ب «الفوقية المبهمة». تفسير معارضين ولم ير المعارضون في الخطاب أكثر من محاولة هدفها شغل الرأي العام السوداني عمّا تعيش البلاد من أزمات ومراوغة تستهدف لفت الانتباه عن قضايا حقيقية تستجدي المعالجة منذ زمن، فهو مضيعة للوقت في ظل حرب تدور رحاها في كثير من الجبهات السودانية دون توقّف. ولم يمر الخطاب الرئاسي على المعارضة التي لا تزال على موقفها القديم القائم على إسقاط نظام البشير بالقوّة كحل أوحد لحل مشكلات البلاد المزمنة، محملة حكومة البشير مسؤولية ما تدعو لمواجهته من أخطار تطوّق البلاد فهي من أشعلت الحروب في ولايات دارفور والنيل الأزرق وجنوب كردفان وصادرت الحريات العامة وأدخلت البلاد في أزمة اقتصادية حادة، وحوّلت السودان إلى قبائل وجهويات وإثنيات متناحرة. فرصة ضائعة فرصةٌ ذهبية وفّرها خطاب البشير في لحظة ربما يمكن تسميتها بالفارقة في تاريخ السودان بما أتاح من لقاء نادر بين الفرقاء من مختلف الأحزاب والكيانات السياسية لاسيّما الشخصيات ذات الثقل مثل زعيم حزب المؤتمر الشعبي المعارض حسن الترابي وزعيم حزب الأمة القومي الصادق المهدي والمعارض الجديد المنشق غازي صلاح الدين وقيادات الأحزاب المعارضة والشخصيات الوطنية والرموز الاجتماعية وقادة الفكر والرأي. فضلاً عن الأحزاب المشاركة مع الحكومة والحركات المسلحة الموقعة على اتفاقيات السلام وأطياف المجتمع السياسية والاجتماعية والفكرية والمهنية، لكن الخطاب الرئاسي أضاع الفرصة بما احتوى من لغة رنانة غير مفهومة للكثيرين. رواية مُغايرة في المسرح المقابل من المشهد رواية أخرى رواتها مجهولون تتحدث عن أنّ الخطاب الذي ألقاه البشير ليس الأصلي بعد استبداله في آخر اللحظات بآخر جديد شكلاً ومضموناً، إثر خلاف كبير نشب بين العسكريين والمدنيين «الإسلاميين» في الدائرة التي تحيط بالرئيس بسبب نقاط كان قد تم الاتفاق عليها قبل أيام، وعلى ضوئها تم الاتصال بقيادات الأحزاب السياسية، وتمّ تسريب بعض المعلومات من الخطاب لعدد محدود من الكُتّاب حتى يتهيأ السودانيون للخطوة المقبلة. تبديل خطاب الرواة يشيرون إلى أنّ الخطاب الأصلي الذي كان من المفترض أن يلقيه الرئيس سُلم له قبل أيام طالع ما فيه وتدرّب على قراءته لعدة أيام ولم يكن في الأفق بوادر أي خلاف على ما تم الاتفاق عليه، لكن حسابات الإسلاميين الخاصة رأت أنّ الخطوة التي يُراد للرئيس البشير أن يخطوها لا تتفق ومصالحهم إذ ستُمكّن الجيش من الانفراد بالسلطة لسنوات طوال، فألغوا الخطاب الأصلي وأعدّوا آخر جديداً بعيداً عن ما تم الاتفاق عليه. غضب لعل المثير في الأمر معلومات تقول إنّ الرئيس البشير وبعد إلقائه الخطاب ذهب إلى بيته غاضباً، وأنّ إحساساً غريباً يحدث لأول مرة في القصر الرئاسي بالخرطوم ينذر بكارثة حقيقية على وشك الوقوع. البيان