ربما لم تعرف السودان في عقدييها الماضيين، دبلوماسيا شغلها وشغلته، كما كان الحال مع القائم بالأعمال الأمريكي، جوزيف ستانفورد، الذي تغلغل بمحبة نادرة في أوساط المجتمع، نخبة وعوام، رغم ضيق فترة عمله التي تناهز 18 شهرا، في مفارقة لافتة لتوتر العلاقة الرسمية بين البلدين، والتي انسحبت بدورها على العلاقة الشعبية. عندما وصل ستانفورد الخرطوم أول مرة في يوليو/تموز 2012 كان يعي حجم التحدي الذي يواجهه للعمل في السودان، والتى تفرض بلاده عليها عقوبات اقتصادية قاسية، وتدرجها في قائمة الدول الراعية للإرهاب. المفارقة أن ستانفورد غادر السودان قبل أيام، منهيا فترة عمله باستقالة مفاجئة، تاركا خلفه نموذجا للدبلوماسية الشعبية، التي جعلت منه سودانيا، بملامح أمريكية، يتنقل بأريحية، ويقيم صداقات مع الفنانيين، والرياضيين، والصحفيين، ورجال الأعمال، والناشطين في المجتمع المدني، من محامين، وأطباء، ومثقفين. لكن اختراق ستانفورد الأهم كان للجماعات الدينية، خصوصا الطرق الصوفية، التي يواليها غالبية السكان، بالنظر إلى تهمة الإرهاب، التي تلصقها واشنطن بحكومة الخرطوم، ذات التوجه الإسلامي. زيارات ستانفورد لمشائخ (مشايخ)، الطرق الصوفية، في كل ولايات السودان، مثلت الثمة الأبرز لفترة عمله في السودان، حيث كان يذهب إلى مجمعات، يطلق عليها اسم مسيد أو خلوة، وكأنه واحدا منهم يخالطهم في المأكل، والمشرب، والملبس، يلبس الشال (قطعة قماشية توضع على الكتف)، أو القبعة الصوفية ذات اللون الأخضر المميز، ويتلذذ بشرب الغباشة (اللبن الرائب)، وكان استانفورد يحظى باستقبال حار، من مشائخ ومريدي الطرق الصوفية. الاحتفاء بستانفورد لم يقتصر على الصوفية، بل تعداه إلى جماعة أنصار السنة المحمدية التي ينظر لها في السودان كجماعة متشددة، ففي أبريل/ نيسان، الماضي زار ستانفورد المركز العام للجماعة، واستمع من رئيسها إسماعيل عثمان شرح لأهدافها، وعملها، وأهداه ستانفورد كتابين عن أوضاع المسلمين في أمريكا، بينما أهداه إسماعيل نسخة من المصحف الشريف، وأعداد من مجلة الاستجابة التي تصدرها جماعته. وفي سبتمبر/ أيلول 2012 احتفت الصحف الرياضية بستانفورد وهو يحضر مبارة في الدوري المحلي مرتديا زي المنتخب الوطني السوداني. كان مألوفا أن تجد ستانفورد زائرا للمدارس في الأحياء الشعبية، وهو يثبت شعارا للعلمين السوداني والأمريكي متلاصقين على بذته (بدلته)، يلاطف التلاميذ ويشرح لهم الأوضاع ببلاده، ويستمع إلى حديثهم عن بلادهم وتاريخها وأمنياتهم. نادرا ما يمر شهر دون أن يزور الدبلوماسي الدرويش (كلمة يطلقها البعض على المتصوفة)، مقار الصحف أو يجتمع بالصحفيين في مناسبات مختلفة. وشهدت فترة عمله تدريب نحو 200 صحفي، بجانب العديد من ورش العمل الصحفية ضمن برامج السفارة التي شملت أيضا تأسيس 3 مراكز ثقافية، إثنان منها بجامعة الخرطوم أعرق الجامعات السودانية هما مركز هيلين كيلر للتعليم الذاتي، وقاعة الدكتور مارتن لوثر كينغ جونيور للقراءة، بجانب مركز ثقافي بمدينة بورتسودان شرقي البلاد على ساحل البحر الأحمر. ستانفورد الذي نشطت خلال فترة عمله الزيارات المتبادلة في الأنشطة الثقافية والتعليمية والمهنية حيث زار الولاياتالمتحدة نحو 70 مشاركا سودانيا، قال "كان هدفي دائما هو جلب المزيد من الأمريكيين، إلى السودان وإرسال مزيد من السودانيين إلى الولاياتالمتحدة". وما سهل من تغلغله في المجتمع السوداني بحسب مراقبين هو إتقانه للغة العربية، وعمله في عدد من بلدانها خصوصا دول شمال أفريقيا (مصر والجزائر والمغرب وتونس ومورتانيا)، فتجده يجيد لهجات شعوبها ويتباهى بها فكان سهلا عليه أن يتقن اللهجة السودانية التي اختار أن يختتم بها مقاله الذي ودع فيه السودانيين واحتفت به كثير من الصحف والمواقع الإلكترونية وحظي بتداول واسع على مواقع التواصل الإجتماعي. كتب ستافورد في خاتمة مقاله "سنتذكركم أنتم وبلادكم المؤثرة دائما وأنا متأكد أنكم ستستمرون فى جهودكم من أجل إنشاء حياة أفضل ، تماما كما تقولون "فى كل حركة بركة". وكتب ستانفورد في مقال آخر في أكتوبر 2012 بعد شهور من تسلمه لمهامه "ليس سرا أن العلاقات بين بلدينا شائكة بعض الشئ، وأعتقد أن هنالك كثيرا من حسن النية في السودان، تجاه الولاياتالمتحدة، رغم التحديات الثنائية". والعلاقة متوترة بين البلدين منذ وصول الرئيس السوداني عمر البشير إلى السلطة عبر انقلاب عسكري مدعوما من الإسلاميين في عام 1989. وأدرجت واشنطن السودان على قائمة الدول الراعية للإرهاب في 1993 وتفرض عليه عقوبات اقتصادية منذ العام 1997 وبلغ التوتر بينهما ذروته في العام 1998، عندما قصف سلاح الجو الأمريكي مصنعا للأدوية بالخرطوم، يملكه رجل أعمال سوداني، بحجة أنه مصنع للأسلحة الكيميائية، وبعدها تم خفض التمثيل الدبلوماسي في كل من السفارتين إلى درجة قائم بالأعمال. وأعلن ستانفورد قبل أيام أنه تقدم باستقالته من الخارجية الأمريكية لظروف شخصية رفض الكشف عنها، ونفى شائعة اعتناقه للإسلام التي أرجعها البعض لزياراته الكثيرة للجماعات الدينية، مؤكدا أنه مسيحي يحترم الإسلام ويرى في الصوفية رمزا للتسامح بين الأديان. وكتب الدبلوماسي في مقاله "للأسف الآن أنا وزوجتي سنغادر هذا البلد الجميل بسبب التزامات شخصية، ولكن حبنا للشعب والثقافة السودانية سيستمر، سنواصل الاستماع للموسيقيين السودانيين المفضلين لدينا مثل ود الامين ،البلابل ،صلاح براون ،محمد علي من فرقة سودان روتس وعقد الجلاد، كما آمل حقا فى أن تاخذ زوجتى معها وصفات طهى الشية (لحم ضأن مشوي)، والعصيدة(وجبة شعبية تصنع من مسحوق الذرة أو الدخن). ورغم الأنشطة الشعبية المتنوعة لستنافورد يعيب عليه البعض أن توتر العلاقة الرسمية لا يزال يرواح مكانه دون إحراز تقدم ولو بسيط خصوصا العقوبات الاقتصادية التي يجمع الخبراء أنها من الأسباب الأساسية لتخلف البلاد والشعور بالكراهية أو عدم الرضاء على الأقل عند أعداد مقدرة من السودانيين. وترفض الخرطوم شروط واشنطن لتطبيع العلاقات وتعتبرها تدخلا في شؤونها الداخلية، وأبرزها وقف الحرب التي يخوضها الجيش السوداني مع تحالف يضم أربع حركات متمردة في 8 ولايات من أصل 18 ولاية سودانية 5 منها في إقليم دارفور غربي البلاد، وتحسين سجل حقوق الإنسان، وحل أزمة الحكم. وهددت الخرطوم في سبتمبر/أيلول الماضي بعدم التعامل مع المبعوث الجديد للرئيس الأمريكي للسودان، دونالد بووث ما لم يكن مهتما بتطبيع العلاقات بين البلدين، دون التدخل في الشؤون الداخلية، ورفضت بالفعل منحه تأشيرة دخول للمرة الثانية بعد أن منحتها له في زيارته الأولى، حيث عزف كبار المسؤوليين عن مقابلته خلافا للمبعوثين السابقين وكان وكيل وزارة الخارجية هو أرفع مسؤول يجتمع به.