الخرطوم المثقلة بجراحات شتى، تبدأ بارتفاع الاسعار ولا تنتهي بقصص الفساد الحكومي الذي استشرى وطال كل شيء، تصحو اول من امس على نهاية درامية لسنوات العسل بين زعيم الانصار - الطائفة الدينية الاكبر في البلاد - رئيس حزب الامة القومي الصادق المهدي، والحكومة التي يقودها منذ 25 سنة الرئيس عمر البشير. إيداع المهدي سجن كوبر بتهم تصل عقوبتها إلى الاعدام، فتح الاسئلة على مصراعيها، لأن الاعتقال جاء في ظل دعوة حكومية لحوار وطني جاد، يجب ما قبله من اخطاء، وتلميحات بأنه يمكن ان ينتهي إلى وضع انتقالي يعمل على تفكيك دولة الحزب الواحد لصالح دولة الوطن، والعبارة الاخيرة ذات مفعول سحري على المهدي الذي بات أكبر المتحمسين للحوار الذي شكك فيه حلفاؤه القدامى وارتأوا النأي بأنفسهم عنه. معركة التقارب المهدي قدم العديد من القرابين للحفاظ على علاقة هادئة مع خصومه الحكوميين، واصلاً في ذلك حد قبوله تولي ابنه منصب مساعد الرئيس الذي اطاح حكمه في عام 1989. ولم يكتف بذلك بل خاض معارك عنيفة صفى من خلالها كل رموز حزب الأمة الرافضين للتقارب مع الحكومة، وما إن فرغ الرجل واستتب له الامر داخل حزبه حتى لدغته الحكومة التي كانت تراقب كل ذلك بابتسامة صفراء من حيث لا يحتسب. انتقادات عادية صوبها المهدي تجاه قوة «الدعم السريع» وما ظن انها ستهدم ما بناه خلال السنوات التي تلت توقيعه على اتفاق التراضي الوطني، اذ تعود على اطلاق نقد أكثر ايلاماً للحكومة وحزبها محاولاً ارضاء الشارع، حتى ظن الكثيرون ان بينه وبين الحكومة اتفاقاً غير معلن يتيح له ذلك. تيارات الرفض الإجابة السهلة لتفسير ما حدث ليلة الاحد هي ما ذهبت اليه العديد من القوى السياسية بما فيها حزب الأمة نفسه، وجود تيارات داخل الحكومة رافضة للحوار وارادت باعتقالها الرجل حبس مبادرة الحوار والمهدي في (زنزانة) واحدة، وفات هؤلاء ان جهاز الامن الوطني لا يأتمر الآن بغير اوامر البشير شخصياً، وان اعتقال رجل بقامة المهدي لا يمكن ان يتم من دون استشارته حتى وإن كان في اجازة مرضية. وللحصول على إجابة أكثر منطقية، نعود لتاريخ تقارب المهدي والحكومة، فنقرأ انه بدأ لحظة الطلاق بين الحكومة وعراب الاسلاميين في السودان د. حسن الترابي، وازدهر عندما بات الاخير زبوناً دائماً لسجن «كوبر» ومعارضاً شرساً لتلاميذه، ولردم الهوة التي خلفها كان لا بد من علاقة جيدة مع الإمام تقيهم شرور جماعة الانصار وتقف معهم إنْ تكالب عليهم «اخوانهم» الذين خرجوا مع الترابي. إضافة إلى انهم ظنوا أن العلاقة مع المهدي ستقدمهم بوجه جديد للعالم الرافض لهم باعتبارهم منتمين لجماعات الاسلام السياسي المتشدد، غير انهم ارادوا ذلك دون ان يقدموا ثمناً حقيقياً، فلم يحصدوا من تلك العلاقة الا ثمراً شائهاً كزرعهم. الآن وبعد عودة الترابي إلى تلاميذه ومصافحته لهم مسامحاً، وحديثه معهم ناصحا لا منافحاً وناقداً، لم يعد للمهدي ولا للصبر على انتقاداته ضرورة، فالحكومة الآن تعود الى منبعها الأصلي واذا اردنا ان نعرف لماذا اعتقل المهدي فلنبحث عن الترابي. البيان