الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تقارير: القوات المتمردة تتأهب لهجوم في السودان    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. "دعامي" يظهر في أحضان حسناء عربية ويطالبها بالدعاء بأن ينصر الله "الجاهزية" على "الجيش" وساخرون: (دي بتكمل قروشك يا مسكين)    شاهد بالصورة والفيديو.. إعلامية مصرية حسناء تشارك في حفل سوداني بالقاهرة وتردد مع الفنانة إيلاف عبد العزيز أغنيتها الترند "مقادير" بصوت عذب وجميل    د. مزمل أبو القاسم يكتب: جنجويد جبناء.. خالي كلاش وكدمول!    محمد وداعة يكتب: الامارات .. الشينة منكورة    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    الخارجية الروسية: تدريبات الناتو في فنلندا عمل استفزازي    مصر تنفي وجود تفاهمات مع إسرائيل حول اجتياح رفح    السوداني في واشنطن.. خطوة للتنمية ومواجهة المخاطر!    "تيك توك": إما قطع العلاقات مع بكين أو الحظر    عن ظاهرة الترامبية    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    مدير شرطة شمال دارفور يتفقد مصابي وجرحى العمليات    منتخبنا يواصل تحضيراته بقوة..تحدي مثير بين اللاعبين واكرم يكسب الرهان    حدد يوم الثامن من مايو المقبل آخر موعد…الإتحاد السوداني لكرة القدم يخاطب الإتحادات المحلية وأندية الممتاز لتحديد المشاركة في البطولة المختلطة للفئات السنية    المدير الإداري للمنتخب الأولمبي في إفادات مهمة… عبد الله جحا: معسكر جدة يمضي بصورة طيبة    سفير السودان بليبيا يقدم شرح حول تطورات الأوضاع بعد الحرب    طائرات مسيرة تستهدف مقرا للجيش السوداني في مدينة شندي    هيثم مصطفى: من الذي أعاد فتح مكاتب قناتي العربية والحدث مجدداً؟؟    ترامب: بايدن ليس صديقاً لإسرائيل أو للعالم العربي    تواصل تدريب صقور الجديان باشراف ابياه    مدير شرطة محلية مروي يتفقد العمل بادارات المحلية    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على ناشفيل    لجنة المنتخبات الوطنية تختار البرتغالي جواو موتا لتولي الإدارة الفنية للقطاعات السنية – صورة    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المصريون ما بين سد النهضة وسد النفس!
نشر في الراكوبة يوم 17 - 06 - 2014


بسم الله الرحمن الرحيم
يُحاكي مشروع سد النهضة الإثيوبي، قصة الفيل مع العُميان، او نظرية الجزء الذي يغني عن الكل! أي التعبير عنه من خلال زاوية الرؤية او التخصصات، سواء كانت قانونية او علمية، حكومية او معارضة! أو كما عبر البعض عن ذلك بطرق أخري. ولكن الضجة التي أثارها مشروع سد النهضة وما زال، هي ضجة متوقعة في هذه المنطقة من العالم! أي ليس بوصفه مشروع إقتصادي تنموي، يمكن أن يحمل الخير للجميع. ولكن بصفته مشروع يقوم في بقعة تُسيطر عليها أنظمة شمولية قابضة، وتاليا فهو مشروع حكومي بإمتياز! وبتعبير آخر، إن هذه المنطقة الموبوءة بالإستبداد المزمن، والإستيطان الدكتاتوري الخبيث. تشهد فصل تام ما بين الحكومات والشعوب! أي ما يشغل الحكومات يختلف عن ما يشغل المحكومين، وهذا إذا لم يناقضه تماما! وبتعبير أكثر وضوح، إن الحكومات في هذه المنطقة المظلمة من العالم، تسعي فقط، لتثبيت حكمها او أنظمتها! وهي لسوء الحظ، أنظمة في غاية الخصوصية والذاتية والنظرة الي الداخل(مصالحها) وإهمال الخارج(عامة الشعب)، أي همها الأوحد تثبيت الحكم والإمتياز السلطوي والتحكم في الموارد والأشخاص والفضاء العام. وتاليا يغيب عنها تماما الحكم الخدمي، المتداول تحت رقابة وإرداة المحكومين، أي الحكم الذي يؤدي وظيفة خدمتهم وحمايتهم. أي هي أنظمة حكم مُرادفة للديمومة، مُمانعة للتغيير. وبكل ما يعنيه ذلك من ضياع فرص التحكم بالحاضر والإستفادة منه، ناهيك عن الحلم بالمستقبل او كيفية تشكيله، فيما يخص المحكومين. أي الحكومات التي تستضيف المواطنين داخل أوطانهم! وغير إهانتها لواجب الضيافة كحكومات عاقة ومتعجرفة، فهي تحرم الضيف من حرية الكلام والحركة وطعم الإشتهاء! بهذا يصبح أي سلوك حكومي في هذه البقعة موجه حصريا، إما لتثبيت الحكم وتوسيع نفوذه او لزيادة رقعة الإمتيازات! وتاليا ما يُري أنها مشاريع إقتصادية او تنموية او دفاعية. هي في حقيقتها وسائل سيطرة ناعمة، وفي حالة فشلها او ثبوت ضعف فاعليتها، يتم اللجوء مباشرة للقوة العارية! أي يظهر وجهها الحقيقي من غير بهارج شعاراتية او مكياج تنموي/خدمي فارغ المضمون! لطالما تغنت بها هذه الحكومات، وكرست كل أبواقها الإعلامية و آلياتها التنظيمية، لإحلالهما محل ذاك الوجه المكفهر العابس الدموي! بهذا المعني تصبح القوة/لغة العنف جاهزة وتحت الطلب، أي لأ تحتاج لمسوغات قانونية او أخلاقية او وطنية لإستدعاءها، لأنها تشكل الجزء الآخر من تركيبة الحكم، أي المعادل الموضوعي لغياب الشرعية! في هذا الإتجاه، تصبح الدوافع الإقتصادية الإجتماعية لأي مشروع تنموي، هي هامش للدوافع السياسية والأمنية، أي المحرك الفعلي لهذه المشاريع! وهذا بدوره قد يفسر فشل معظم المشاريع التنموية، التي تتبناها هذه النظم، او علي الأقل تدني جدواها الإقتصادية والإجتماعيىة علي المستوي العام. او عبور هذه المشاريع من خلال إثارة مجموعة لأ حصر لها، من المشاكل الداخلية والأزمات الخارجية! وعبر إستثارة الروح الوطنية يتم خوض معارك وإفتعال خلافات! أغلبها إعتباطية، ولأ تخدم المواطن البسيط في شئ. والدليل عدم إستشارته مسبقا في قيام أي من تلك المشاريع او البرامج، مثار النزاع والإختلاف! وبتعبير آخر، يتم توظيف ما يسمي بالروح الوطنية، وذلك بعد منحها درجة من القداسة! في صراعات لأ تمس الشعوب في شئ، ولكنها تخدم تحديدا مشاريع وطموحات قادة تلك الحكومات غير المنتخبة! وتاليا لأ تعبر عن مطامح الجماهير. بل تتدني قيمة الجماهير لدي تلك الحكومات! وهذا التدني ليس إعتباطا او مصادفة، ولكنه تدني بنيوي او في طبيعة تلك الحكومات، أي يشكل وعي قادتها وسلوكهم وتفضحهم في ذلك ألفاظهم(كسالي جهلة شحاذين..الخ)! بمعني إن الشموليات في أساسها نظام فصل تراتيبي، يشغل فيه الدكتاتور وزمرته موقع الزعامة والإمتياز المطلق! والإطلاق هنا، غير مكتسب ولأ يخضع لأي معايير دنيوية موضوعية! ولكنه فعل قدري يختص به الحاكمون وأتباعهم! وطبيعي في ظل هذه التراتبية أن يتحول الجمهور الي مجرد أتباع او رعايا، يتم توظيفهم والتضحية بهم من أجل الطبقة المميزة الحاكمة! التي تستحق أن يبذل المواطنون عفويا، جهدهم بل و أنفسهم فداءً لها! بتعبير آخر، يكتسب المواطن درجة من الوطنية والأهلية والأهمية، بمقدار تقديره لها او وبذله من أجل تلك الطبقة المبجلة! والتي تزيح الوطن والوطنية وتحتل مكانهما! أو يتم ربط عضوي بينهما، بحيث لأ يتم تعريف الوطن وإكتساب الوطنية، إلا عبر تعبيرات تصب كلها في تنصيب تلك الطبقة، كوصي او كمرجعية فوق الجميع، وهذا غير أنها مرجعية لأ تقبل المراجعة او التشكيك! ولذلك يتم منح هذه الوطنية المزيفة، أبعادا قدسية تمنع الطعن فيها أو المس بها! أي يحدث نوع من العصاب الوطني الأجوف! وبهذا تصبح الشموليات فعل نخبوي بإمتياز، او مفرزة لإفراز النخبوي المكرس! بمعني أنها تخلق البيئة العامة للنخبوية، المضادة للناس العاديين والمتعالية علي غالبية المواطنين! أي تحاول أن تميز فئات من المجتمع المحكوم علي حساب البقية العظمي، وذلك بمنحها بعض الإمتيازات الشكلية، وإضفاء بعض الألقاب عليها، او بمنحها بعض الجوائز المضللة! وذلك بغرض شراء صمتها علي إنتهاكات وتجاوزات الطبقة الحاكمة، او لحرف قضاياها ومشاغلها عن بقية قطاعات المحكومين( تطبيق سياسة فرق تسد)، وتاليا حرمان المحكومين من قوة ضاربة، كان يمكن لها أن تُغير في حسابات المعادلة لصالحهم! خاصة إذا ما أحسنت إستثمار مواهبها وتوظيفها لصالح الجمهور. او كرست جزء من همومها ومشاغلها، لتثبيت الفصل بين الحكومات الدكتاتورية، وطابع الخير الذي تحاول تسويقه من خلال المشاريع التي تنجزها، كوسيلة تموهية تمنحها شرعية الإستمرار وأهلية الديمومة والبقاء. أي أن تنحاز الي واجب الشرعية كقضية مبدئية، وكإنعكاس للوعي بالحرية وكصفة مرتبطة بالإنتماء للمواطنة والوطنية. وأن ترفض أي إضافة او إعادة تفسير تبرر التعدي عليها، حتي ولو بإسم الإستقرار وتماسك اللحمة الوطنية المفتري عليها! وبكلام محدد، النخبوية مُرادفة للشمولية او لها القدرة الذاتية علي إستيلاد الشموليات، حتي بعد حدوث التغيير!! لذلك غالبا ما تتوسل الإنقلابات والعنف للوصول الي أهدافها، وهي غالبا السلطة في أضيق تعابيرها وأسوأها! أي لأ تثق في الشعب ولأ في خيارات الجمهور، والذي تتحدث بإسمه بطريقة هستيرية! وبكلام وأضح، لأ مكانة للمواطنة في بيئة إمتيازية او نخبوية! وتاليا لأ مكان للمواطن في دولة باطنية، تُسيطر عليها النخب والإستخبارات والأجهزة الأمنية! وكل هذا يقودنا الي أنه لأ مخرج لهذه المنطقة، إلا في عودة دولة الظاهر والشفافية والضياء، وكشف الأوراق أمام الجميع، أي دولة الديمقراطية والمؤسسية والقانون والإختيار الحر. أي الدولة التي يملكها المواطن، ولأ يملك أحد فيها الوطن! أي دولة الوطن العام، الممتنع علي الحكومات الخاصة والطبقات الخاصة والبطانة الأكثر خصوصية! وفي هذه الدولة حصريا، تكتسب المشاريع التنموية جدواها الإقتصادية وقيمتها الإجتماعية. أي بعودة السياسة للشعب، تعود الروح للوطن والألق للوطنية!
والمشاريع القائمة او المقترحة في البيئة أعلاه، أي في بيئة الشموليات القائمة والسائدة الآن! تتدني قيمتها ووظيفتها ومصلحتها العامة، ولكن هذه المشاريع تزداد سوء وتدني، في الدائرة الضيقة التي تحتلها الدول الثلاث، مصر والسودان وإثيوبيا! وبتعبير أكثر وضوح، هذه المشاريع تنحسر مضمونيتها الي أدني مستوياتها العامة، في وجود دولة كمصر ترتبط بهذه الدول بطريقة مباشرة او غير مباشرة! أي في وجود مصر كدولة إقليمية مجاورة تفترض في نفسها القيادة والمعرفة والحضارة! وتاليا مصلحتها فوق الجميع، والأصح مصلحة حكامها ونخبها! وفي هذا أس المشاكل ومصدر البلاوي، أو التشوه الذي يسم طبيعة العلاقات والمصالح التي تربط بين هذه الدول! أي أُضيف الي الإستبداد الداخلي، الطُغيان والفرعنة الإقليمية! وبتعبير آخر، إن مشكلة سد النهضة، وغيره من مشاكل هذا الإقليم، التي تدخل مصر كأحد أطرافها. هي مشكلة ثقافية حضارية، أكثر منها مشكلة سياسية او إقتصادية تنموية، أي إرادة هيمنة (إمبريالية) إقليمية! وإذا كانت أزمة المنطقة، هي أزمة حكومات ونخب مسيطرة، تحوزان علي كل الإمتيازات. فهذه المشكلة تجد لها في الدولة المصرية، أفضل نموذج وأخطر تجارب وأسوأ أثر! بمعني آخر، إن النخبة المصرية تعاني من متلازمة التفوق/الأسبقية علي الجيران او المحيط القريب او المنطقة ككل! أي تربت النخبة المصرية علي الدلال الحضاري، أي كنخبة حضارية، ذات إسهام وافر في الحضارة الإنسانية منذ القدم، وهذا إذا لم تعتقد أنها أصل الحضارة والرقي في العالم او التاريخ الإنساني! وكالعادة تشهد بذلك كمية الآثار والحضارة القديمة التي قامت علي أرضها!! وهذه الحضارة يتم إكسابها هالة من العبقرية و(الأُبهة)! أي تمت عملية إسقاط نفسي عليها، أي إعادة إنتاج التطلعات والأماني والرغبة المريضة في التفوق والقيادة، بالتماهي مع هذه الآثار والحضارة! بتعبير آخر، تم بناء منظومة كاملة بأثرها وتاثيرها، وتصميم دور قيادي يلبي مواصفات النخبة المصرية، ومن ثم خلق تاريخ موازٍ، يعادل او يطابق تلك الصورة الرغبوية الموضوعة مسبقا! وعبر هذا التاريخ النفساني/الأثر الحضاري، يمكن لها السيطرة علي العالم وقيادته، بوصفهم أفضل من كل البشر ويشهد بذلك التاريخ والحضارة السابقة! فما بالك بجيران تغلب عليهم البداوة والتخلف، ويسكنون الغابات والأدغال ويتعاملون مع الوحوش بصورة طبيعية!! والأغرب، إن هذا الوهم الذي يتلبس النخبة المصرية، ويسيطر علي فهمها وتعاملها مع الحياة! يتضاءل أمامه ما يشهده العالم من إنفجارات معرفية وحضارية(تحت وطأة الوهم يغيب العقل ويتبلد الإحساس ويتم إنكار البديهيات)! وتاليا هي نخبة مصابة بالإنفصام، أي المراوحة ما بين ماضٍ زاهٍ وغالبا يتم مغالته وتزيينه، وبين حاضر عاجز ومتأخر عن ركب العالم! بمعني، إن التاريخ او الحضارة المصرية لأ تعامل حسب ظروفها الماضية، أي بموضوعية تراعِ الأجواء المحيطة بها، دون تضخيم او مزايدة. وعلي ألا تمنع السعي للمواكبة، دون عقد او مخاوف او أوهام من الآخر المتفوق! أي أن تصغي لصوت الواقع وحركية الحياة وتدافع الشعوب. كالشعب الياباني مثلا، أي رغما عن إرثه الحضاري والثقافي الذي قد يفوق مصر مرات عددية، إلا أنه إنخرط في في راهنه، دون عقد او خوف او اوهام حضارية مشكوك في تنزهها او الإستفراد بها دون خلق الله! وتاليا ساهمت الدولة اليابانية بقدر وافر في لحظتها الحضارية الراهنة، ودون أن تمس جوهر الجوانب الإيجابية في حضارتها السابقة او إرثها المتوارث! وما قيمة الحضارة ذاتها، إذا لم تمنح صاحبها الثقة، والدافع للمساهمة الإيجابية في الحياة! تبا لحضارة، قيمتها الزينة والشكلانية والتباهي بين العالمين، من دون عمل او مجرد أثر في نهر الحياة الهادر! وبقول واحد، النخبة المصرية التي تدعي التفوق والإمتياز، هي في حقيقتها نخبة مريضة بالماضوية، ومسكونة بتقديس تراث وحضارة لم تشارك فيها(ممسوسة بالجن الحضاري)! ولأ سبيل لإثبات صلت نسبها بها حصريا، إلا بمزيد من الشكوك! وهي نخبة تهدر الحاضر بالعيش في الماضي، من أجل تصديق وهم السيطرة علي مستقبل لأ تملك أدواته ولأ تجيد لغته الواقعية! وتعتقد أن إرثها الحضاري كفيل بتفسير العالم ومن ثم السيطرة عليه، او علي الأقل كحق تاريخي مكتسب! وما يعطلها فقط إنتظار الفرصة(وليس صناعتها!) من أجل إعادة أمجادها السابقة وقيادة العالم الي بر الأمان الحضاري، الذي تعرف أسراره وتتقن صناعته! ولكن يبدو أن جودو الحلم المصري سيطول إنتظاره الي قيام الساعة، او تغيير عقلية ونفسية النخب في إتجاه أكثر تواضع ومواكبة! وهذه النزعة الحضارية المتضخمة لدي النخبة المصرية، تخدم غرضين هامين! فهي من ناحية تبرر حالة العجز والتأخر المصرية، بل ويتم تصويرها علي أنها ميزة، أي تضفي علي الواقع المأزوم جماليات كاذبة! أي كواقع له جذور في الماضي، وتاليا يمكن أن يعود تلقائيا الي سابق عهده، فقط يحتاج لقليل من الصبر! ولأن المفتاح السحري لحل كل المشاكل المصرية، هو الشخصية المصرية الحضارية! ومن ناحية أخري تعطي مشروعية للطبقة الحاكمة، بوصفها طبقة تحافظ علي هذه الحالة الحضارية الراسخة، وبغض النظر عن ممارساتها الفرعونية! وبتعبير صادم، يتم إعفاء للنخبة المصرية من القيام بواجب التغيير المستحق. وهذا إذا لم يتم تصوير القيم الديمقراطية أو مضمون التغيير، وكأنها تصادم إرث الشخصية المصرية الحضارية! أو علي الأقل تؤثر علي صفاء شكلها ونقاء مضمونها! وما عودة السيسي والدعم المجاني الذي يجده إلا دليل علي صحة أعلاه!
وأيضا من أهم المؤثرات او العقائد البالية، التي إعتنقتها النخبة المصرية، هي مسألة الوطنية ذاتها! بمعني، إن الوطنية لديها، ليست قيمة معنوية مرتبطة بقيم الإنتاج والعمل والمساهمة الخيرة داخل الوطن وخارجه، او التمسك بالقيم الإنسانية وغيرها من الأخلاقيات، كالصدق والأمانة وإحترام المواعيد والعهود وقيمة الزمن..الخ! ولكن الوطنية لديها تتمثل في الدفاع عن مصر في كل الأحوال. أي دون أي مرجعية قانونية او دولية او دبلوماسية او معايير أخلاقية ولأ حتي (زوقية)! بمعني، إن مصر فوق الجميع، هي قمة الوطنية! وبغض النظر عن الآخر اوحقوقه، أي غير المصري تتدني قيمته الإنسانية والوجودية! بتعبير آخر، إن هذه الوطنية المزعومة، تبيح التعدي علي الآخر وإستغلاله وتهميشه! بل يمكن لها أن تتحول الي سلوك فهلوي، يُميز الشخصية المصرية، او وطنيتها الملتبسة! لتصبح هي النموذج الأمثل لحالة الوطنية الملتبسة، التي تعاني منها المنطقة ككل! ونقصد بالوطنية الملتبسة، حالة التداخل الشاذة بين الوطن والأفراد/الحكومات والمعايير المجردة، والتأثيرات المحيطة بما فيها الماضي، في الحالة المصرية بصورة أكثر خصوصية!
والأكثر سوء من ذلك، أن مصادر هذه الوطنية المتعالية الوهمية، يمكن أن تعامل كمقدسات! ومن ضمنها، إن مصر هبة النيل، وتاليا أن النيل ملك لمصر ولو بصورة ضمنية! او لأ حياة لمصر من دون النيل! او القوانين والمعاهدات المتعلقة بالنيل ومياهه، وبغض النظر عن معقوليتها او عدالتها او تبدل ظروف عقدها، تعتبر من المقدسات التي لأ يجب المساس بها او التهاون حيال من يتعرض لها! وأن تناولها او المساس بها، هو من قبيل الخيانة الوطنية والمساس بالأمن المصري..الخ! والمؤسف أن هذه العقائد الفاسدة وجدت طريقها حتي للتيار الليبرالي المصري! فهذا التيار يمكن أن يتطرف في ليبراليته ويدافع عن الحرية في كل مكان، ويتغني بحقوق الإنسان وغيرها من الفضائل الليبرالية! ويمكن أن يدخل السجون ويتضرر غاية الضرر من التمسك بها. ولكن عندما تصل الإستحقاقات لباب مياه النيل وحقوق الجيران الطبيعية، حتي من وجهة نظر ليبرالية ينادون بها! تحدث الردة وينقلب هذا التيار علي عقبيه، ليخسر ليبراليته وإحترام المناصرين وفي ذلك الخسران المبين! بتعبير آخر، ليبرالية النخبة المصرية، منقوصة حقوق الجيران في التمتع بمياه النيل، كإخوانهم المصريين! أي ليبرالية خاصة بالمجتع المصري والإنسان المصري، وبكل أحد ما عدا جيران مصر ومن يشاركونها النيل وتربطها بهم مصالح وحقوق مشتركة. اي تتوهم أن نيل الجيران لحصصهم قد يؤثر في الأمن المصري والحقوق التاريخية المكتسبة، حتي ولو بالباطل وتحت ظروف الإحتىلال! علما بأن حق الجيران والشركاء في مياه النيل، حق طبيعي ولأ يحتاج لإعتراف النخبة المصرية او مصادقة الأمم المتحدة، ولكنه قد يحتاج للتنظيم فقط! أي موقف الليبرالية المصرية او إعترافها من باب تحصيل الحاصل! وتتمثل أهميته فقط في منحها درجة من الإتساق والمصداقية، هي في أمس الحاجة إليها، ليس في مصر وحدها ولكن في المنطقة ككل! وفي هذه الحالة ما الفرق بين مبارك ونسخته المعدلة السيسي، وبين التيار الليبرالي المصري! بئس الليبرالية، ليبرالية النخبة المصرية! لأنه عند وضعها في المحك، تثبت كم هي خائرة ومتخاذلة ومتهافتة، وتتحول الي مجرد شعارات باهتة، تحيل الي التشكك فيها، كغرض للتميز عن الآخرين والتمسح بروح الحداثة والعقلنة في جاذبيتهما الحضارية! أي من أجل حيازة السلطة والمكانة الإجتماعية الخاصة، وإن من وجهة مغايرة ومخادعة! بل حتي من يوصوفون بأنهم متخصصين في الشؤون الأفريقية عامة والشأن السوداني خاصة(أدري بحقوق وحاجة الجيران للمشاركة في الموارد المشتركة)، او من يعرفون بأنهم أصدقاء للسودان وشعبه! تقف درجة صداقتهم ومصداقيتهم، في حدود هذه الوطنية المصرية. وهي كما أسلفنا وطنية متجاوزة للآخر ومستغلة له أقصي إستغلال، ولو تلبست مسوح الصداقة ومراعاة حق الجيرة! والمضحك والمبكِ في آن! أن جزء كبير من الهالة والمكانة والإحترام، والتواجد السياسي، ذو العقلانية والرمزية الحداثية، الذي وجدته نخبة كبيرة من الليبراليين واليساريين المصريين. بني أساسا علي تصديها للإصولية الدينية والسلفية النصوصية، وعن مفارقتها لروح العصر، وعن عدم جدوي التمسك بالنصوص حرفيا وقطعها عن سياقها التاريخي! وعن منح مساحة معتبرة للعقل والموضوعية أن يحتلا مكانهما في الوعي والذاكرة الوطنية! وأيضا مراعاة الظروف المحيطة بالنصوص الدينية..الخ! ولكنهم عند الوصول لحافة التابوهات المذكورة آنفا(إتفاقيات مياه النيل ولاوجود لمصر من دونه..الخ) يقف حمار وعيها ومكتسباتها الحداثية عند هذه العقبة! أي تردد نفس مقولات، لأ يمكن المساس بها او إعادة التفكير فيها والتداول حولها! أي تتحول هذه النخبة المعادية للإصولية والتطرف الديني و(العقدي الإيدولوجي بالنسبة لليبراليين)! الي نخبة سلفية أصولية متطرفة، في الإيمان والدفاع عن أقوال وإتفاقيات يمكن الجدل حولها وإعادة التفكير فيها! بل ويمكن تجاوزها الي نقاط أكثر تقدم وفائدة تنعكس علي الجميع. أي بالخروج من ضيق النصوص (وفقه الأقوال وهواجس المستقبل) الي وسع المصالح المشتركة. وهذه ليست مكرمة او إبداع تضطلع به هذه النخبة، ولكنه يرقي لدرجة الواجب الوطني الحقيقي، إن لم يكن لحق الجيرة او سلامة المستقبل الآمن للجميع! أي هو وأجبها كأجيال لأحقة، أتيحت لها فرصة أكبر ومساحات أرحب للحركة، وتجارب ثرة عاشتها بصفة خاصة او حدثت من حولها! بمعني آخر، ليس وأجب النخبة المصرية ترديد الماضي والعيش في أسره، والتغاضي عن الظروف التي أنتجت ذاك الماضي! ولكن وأجبهم أن يصنعوا حاضرا جديدا، يناسبهم ويلاءم ظروفهم المستجدة. وكذلك يتركوا لأجيال المستقبل القادمة الفرصة، في أن تنظم حياتها وفق رغباتها وأولوياتها وظروف عصرها! أي أن تمتنع عن إحتكار الماضي وتسميم الحاضر وعرقلة المستقبل، بإسم الحضارة المصرية تارة والوطنية المصرية تارة أخري! كما انه لأ يجوز وغير مستحب، أن تخون النخب الليبرالية واليسارية المصرية، دعاويها ومشاريعها وتاريخها المشرف، في التصدي للفراعنة والطغاة! بسباحتها عكس تيار الموجات المصرية، المادحة بحمدهم او المتوسلة مناهضتم من أجل السلطة حصريا وليس الشعب! في سبيل تقديس الوطنية المصرية! حتي ولو كانت وطنية وثنية، لأ روح ولأ قيمة خيرة فيها!
وحقيقة الموضوع ليس موضوع سد النهضة ومياه النيل فقط! ولأ مشكلة حلايب المحتلة، ويرفض المصريون عن بكرة أبيهم، اللجوء الي المحاكم الدولية لحلها(ومعلوم أن التعامل مع المحاكم وإحترام القوانين وأحكام القضاء تمثل درجة متقدمة من الحس الحضاري المدني، الذي يتبجح به المصريون ولأ نلمح له أثرا! وهذا مجرد نموذج لدرجة تحضر، شعب الحضارة المصري! وإذا كان هذا مبلغهم من الحضارة، فما هي الهمجية وأخذ القانون باليد في عرفهم، مرة ثانية بئس التحضر المصري، سليل الحضارة الفرعونية الإستعبادية! وتبا للإستشارية الهامانية، التي ترضع من ثديها النخبة المصرية!). ولكن الأخطر من ذلك، أن النخبة المصرية نفسها، تستبطن ضرورة بقاء الآخر، وخاصة الجيران علي حالتهم المتدهورة، او في ظروف أكثر مهانة. بتعبير آخر، تفضل هذه النخبة، إعتناق فرضية فاسدة، مفادها أن لأ فرصة للدولة المصرية في النهوض والتقدم، إلا بتعطيل الجيران وشغلهم بالمشاكل وألازمات! حتي لأ يلتفتوا لتنمية بلدانهم، وتاليا البحث عن مصادر مياه او موارد تنمية إضافية! والتي تعتبرها النخبة المصرية، موارد مدخرة لها ولمستقبل أجيالها! أي في وجود مصر وشعبها الحضاري لأ مستقبل للآخر، سواء في الحاضر او المستقبل. والفرضية الأخري الأكثر فساد، أن لأ حل لمشاكل مصر المعقدة والتي تزداد تعقيدا مع مرور الأيام، وتضيق فرص الحلول الداخلية لها. إلا في السودان وخيراته وموارده، وبالطبع منقوص أهله ومصالح سكانه! إذا صدقت هذه الفرضيات، فهي فرضيات تستبطن الروح الإجرامية المكرية الشيطانية، وقبل ذلك نزوع عارم لإستغلال الآخر والسيطرة عليه، او إلغائه من معادلة حقوق الإنسان تماما! وبما أن الآخر لم يعد بنفس عقلية الغفلة، وسذاجة الزمن الماضي! وتصديق معسول الكلام الذي ينكره العمل وممارسات الواقع! فمن الأفضل أن تتبني النخبة المصرية، فرضيات أكثر نضوج ومسؤولية ووضوح وأحترام للآخر وإعتراف بحقوقه، وذات نزوع حقيقي للمشاركة الصادقة في الموارد/المصالح المشتركة، ورعايتها وتنميتها وتطويرها. مع إحترام تام للمخاوف المتبادلة ومواجهتها ومعالجتها، في أفق أكثر عقلانية ووفق منهجية علمية، تنأي عن المتاجرة بالعواطف والشعارات، والبرتوكُلات الفوقية التي يبرمها حكام لهم حسابتهم الخاصة والمنافية لمصالح الشعوب! كما أن علي النخبة المصرية، أن تنظر داخل بلادها ومجتمعها للتعرف، علي علله الرئيسية وطرق العلاج! وبالتأكيد علله وفرص علاجه في الداخل، وليس بالهروب الي الخارج! أما الخارج فيمكن بالتفاهم معه، الوصول لأفضل النتائج. ومؤكد أن أي نتيجة أفضل من الحروب والإضرار بالمصالح المشتركة. ومؤكد أكثر، أن في حل علل مصر الداخلية، حل لمشاكل جيرانها، او علي الأقل عدم تعقيدها زيادة، والعكس ايضا صحيح، هذا من ناحية! ومن الناحية الأخري، إن مشكلة الإنسان واحدة في كل مكان، أي قضية الحرية والكرامة والعدالة الإجتماعية وتأمين فرص العمل والعيش بأمان والإطمئنان لجانب المستقبل. ومعلوم أن هذه القضايا لأ تخص الإنسان المصري وحده. لذلك الإيمان بأنها تعني الجميع بنفس القدر الذي تعني به المجتمع المصري! تمثل أول درجات التحرر من الوهم الحضاري النخبوي المصري، ولبنة أساسية لبناء أساس متين مع الشركاء، الذين يؤمنون بنفس هذه القناعات من الدول المجاورة، وذلك لغرض تخليص كل شعوب المنطقة من آفات الإستبداد والقهر والإستغلال والفساد ..الخ، لأ نها تمثل الأعداء الحقيقين لأبناء المنطقة، وليس قضية (المياه ونهر النيل) الضيقة، كما تري وتشتهي النخبة المصرية المُستعلية!
ولكن هل المشكلة تخص الجانب المصري وحده، أم للمشكلة وجه آخر يخص الجانبان السوداني والإثيوبي، وإن بدرجة أقل! وبخصوص الجانب السوداني، موقفه من العلاقات المصرية، هو موقف عاطفي في العموم، أي يتراوح ما بين الإنسحاق للجانب المصري، خصوصا الجانب السلطوي في السودان، وبعض النخب التي درست في مصر او شريحة لها محبة خاصة للمصرين، أكتسبت عن طريق الأثر المصري المتغلغل في البيئة التعليمية والثقافية والدرامية، وبدرجة أقل الأقتصادية الإجتماعية من تصاهر وخلافه في السودان! وجانب آخر كاره ومعادٍ لمصر ونخبها، ويستند في ذلك علي سردية مثقلة بالإستغلال والتهميش ونكران الجميل لتضحيات الجانب السوداني! وزد علي ذلك إحتلال حلايب وشلاتين بالقوة! وليس أقل من ذلك تدخل الحكومات المصرية في الشأن السوداني، ودعمها غير المحدود للأنظمة العسكرية الباطشة التي حكمت السودان طويلا، والتعامل معها بسياسة الدعم الإبتزازي المضر بالمصالح السودانية العليا! وكيف ينسي السودانيون مساعدة مصر في إجهاض التجارب الديمقراطية السودانية الوليدة او علي الأقل السعادة بإجهاضها وإستخسارها علي شعب السودان! ووسط هذه الأجواء الحدية او المشاعر المتطرفة من الدولة المصرية، يجد المنادون بتحكيم المصالح وتعلية المشتركات وإحترام مخاوف كلا البلدين، كثيرا من الصعوبات للترويج لطرحهم! خاصة في ظل عدم توفر نخبة مصرية أكثر مصداقية، فيما يخص مسألة تعلية المصالح المشتركة علي مستوي الندية وليس التاريخانية! أي من دون شفاء النخبة المصرية من داءها الإستعلائي، ذو النفوذ الممتد والعشق الإحتوائي! وإمتلاك السودانيين لزمام أمرهم السلطوي الذي يعبر عن مصالحهم! سيظل هذه التيار غريب الدعوة والمنطق والآمال! وعطفا علي ذلك، وفي ظل إختلال ميزان العلاقات بين الجانب المصري والسوداني، وشدة نفاذية وتأثير الجانب المصري، وزيادة ضعف الجانب السوداني المتمثل في نظام الإنقاذ الخائر المتهالك! فإن الدخول في أي نوع من العلاقات او المشاريع او تنسيق المواقف ضد الآخرين، في أي من القضايا مثار الجدل! سيكون في جانب المصالح المصرية، والتي لأ تشكو من التغول والتغلب والفوز التاريخي!
وخصما علي المصالح السودانية، والتي بدورها عانت من الإنتقاص بمتوالية عكسية وتخريبية! أي في ظل هذا الإختلال المستحكم، ستحوم الشكوك حول اي مشاريع او افكار يعرضها الجانب المصري(الذي لا تتفق مكوناته الداخلية علي مختلف مشاربها في شئ، بقدر إتفاقها علي إهدار حق الجيرة والتغول علي حقوق الجيران، وكله يهون في سبيل الأمن المصري والوطنية المصرية!)، ستكون في موضع إتهام، حتي يثبت العكس، وكفي بالأيام والتجارب تعليما وآلاما!!
أما بخصوص الجانب الإثيوبي ومكانته من هذه العلاقات الإقليمية، وبالدولة المصرية خصوصا. فعلاقته أكثر إستقلالية بالدولة المصرية، وذلك لسببين أثنين. اولهما، ضعف النفوذ المصري علي الدولة الإثيوبية، سواء النفوذ الناعم، ثقافي إقتصادي إجتماعي، او النفوذ الخشن، سياسي او عسكري، أي التدخل في الشؤون الداخلية للدولة الإثيوبية او غزوها وإحتلال جزء من أراضيها، وتاليا عجزها عن الرد! والسبب الثاني، يتعلق بالشخصية الإثيوبية نفسها. فهي شخصية حضارية مُتزنة(من غير دعايات وبهرجة)، كما أنها لأ تعاني من التنازع او التشظي الهوياتي، أو قلق الهوية وعدم إستقرارها، مما يقودها للإستتباع، أو القابيلة للتغريب والإستلاب، وهذا إذا لم نقل القابلية للإختراق، وتاليا توظيفها عكس مصالح الوطن الداخلية! كالشخصية السودانية ناقصة السوية الحضارية، خصوصا في نسختها الإسلاموعروبية! بمعني، إن الشخصية الإثيوبية، هي الأقدر علي رؤية وتحديد أهدافها. وفي نفس الوقت هي الأقدر في الدفاع عنها وعن كل مصالحها. ويظهر ذلك بوضح في أسلوب الندية والثقة الذي تواجه به الدولة المصرية، وعدم إكتراثها للتهديدات المبطنة التي ترسلها الدولة المصرية العاجزة ضد الأقوياء!!
وبالعودة لموضوع سد النهضة، ومع إعتقادنا الراسخ، بأنه مشروع حكومي ويخدم أغراض حكومية، من ضمنها شراء صمت المواطن الإثيوبي ومقايضته، الإستقرار والتنمية العرجاء مقابل تخليه عن حقه في السلطة وشؤون الحكم! إلا إن هذا المشروع من وجهة نظر إقتصادية بحتة، وبحسب ظروف وطبيعة جغرافية إثيوبيا، التي يعترف بها المصريون أنفسهم، هو مشروع حقيقي ويمس عصب الحاجة الإقتصادية الإثيوبية، ولأ يقصد به المساس لأ بمصر وأمنها ولأ بالسودان ومصالحه، إلا عرضيا وبطريقة غير مقصودة. أي لأ دخل لإسرائيل او لغيرها من الفزاعات دخل بهذا الأمر! فالحاجة تنبع كما أسلفنا من طبيعة الدولة الإثيوبية، كدولة تعاني من قلة إمكاناتها الزراعية وندرة مواردها الإقتصادية! الشئ الذي جعل أكثر المشاريع إدرارا للموارد في الداخل وجلبا للعملة الصعبة من الخارج، هي مشاريع إنتاج الكهرباء من السدود، كأرخص أنواع الطاقة، وتاليا الأعلي مردود إقتصادي. وكعامل هام او بنية أساسية للتنمية، وهذا ناهيك عن مساعدة الطبيعة، لقيام مثل هذه المشاريع في أراضيها، وحوجتها الداخلية، وحاجة جيرانها للطاقة النظيفة والرخيصة! وهنالك جانب آخر، لهذا المشروع، وهو أن إثيوبيا كمصر تعاني من ضغط الإنفجار السكاني، وتاليا زيادة الضغوطات علي الموارد والحكومة اي الوضع السياسي! أي نفس الأسباب التي تدفع مصر للإعتراض علي المشروع، هي التي تدعم وتعجل بقيام المشروع من الجانب الإثيوبي! وغير ذلك، هل إستشارت مصر، إثيوبيا او غيرها من دول حوض النيل عند إقامتها للسد العالي؟ وهل كان تأثير السد العالي علي إقتصاد مصر وتنمية مجتمعها هين؟! او يمكن الإستهانة به او التقليل من قدره! الم يغير السد العالي وجه مصر الي الأبد؟! ويقدم لها فوائد لأ حصر لها! فلماذا تُحرم إثيوبيا وغيرها من الدول من ذلك!! أحلال علي مصر سدودها، وحرام علي الجيران قطرات ماء او بضعة كيلوواطات من الكهرباء؟! دون أخذ الإذن من مصر!! لكل ذلك، فالنظرة الناضجة وغير العاطفية ولو كانت صادمة للكبرياء المصري الأجوف! هي الدخول في حوار جاد وجدي، ومن دون سقوف خيالية ماضوية مسبقة! مع الدولة الإثيوبية، لتلافي الأخطار ومحاصرة الآثار الجانبية في حدودها الدنيا، الناجمة عن قيام السد.
وفي نفس الوقت الإستفادة من مزاياه لأقصي درجة، والإستثمار في قضايا أخري، يمكن أن تتيحها لها هذه القضية، أي بعد مباركتها لقيام السد، والذي سيقوم في كل الأحوال! وكما أشار الدكتور سلمان، المتخصص في مثل هذه القضايا، والأكثر تناول لهذه المسألة بكل موضوعية، وأكثر من مرة! عن ترحيب إثيوبيا بمشاركة مصر والسودان في الإدارة والتمويل، وهذا ترحيب يبين حُسن النية وطمأنة كافية لكلا البلدين. إلا إذا كانت لديهما أجندة خفية لأ يفصحان عنها! وعموما موقف السودان المرحب هو الأفضل حتي الآن، ولأ نعرف مقبل الأيام لحكومة ديدنها التقلب وشراء بقاءها علي سدة الحكم بأي ثمن!! أما إثارة مخاوف الشعب المصري، وفتح المجال أمام تخرُصات النخب الإعلامية الهشة، والمُهوِّلة والمستثمرة لهذا الموضوع المربح في سوق العياط المصري! فلن يجلب علي مصر إلا الخسران والندم. وليس في مقدور الدولة المصرية، أن تُسبب لإثيوبيا الأذي كما تهدد السلطات المصرية بطريقة مواربة، ودون أن يرتد عليها الأذي أضعافا مضاعفة. فقد إنتهي عهد الفرعنة وفتوات الدول وتقبل الإهانات بطريقة مجانية! ويجدر بنا في هذه الجزئية، التعرض حتي للتناول العلمي لموضوع سد النهضة بصورة خاصة ومياه النيل بصورة عامة، من قبل النخبة العلمية المصرية. فمعلوم في المنهج العلمي، الصرامة في التطبيق، والوضوح والمباشرة في الإسلوب واللغه، والإبتعاد عن التحيز في فلسفته. إلا أن النخبة المصرية العلمية، أبت إلا أن تخالط دراساتها شئ من العاطفة وكثير من بث المخاوف! مما يحد من قيمة مجهوداتها العلمية، ويحشرها في زمرة الأساليب الإيديولوجية المضللة. اي مسايرة الحالة العامة داخل مصر، أي الحالة التي تصور أن لمصر الحق في أخذ كل شئ، ومن دون مقابل! اي تسعي هذه الجهود العلمية لإرضاء للسلطات والجمهور المصري! بمعني، توظيف البحث العلمي ليس للبحث عن الحقيقة، ولكن لإعطاء مسحة علمية لأهداف ورغبات موضوعة سلفا!
والخلاصة، القضية الحقيقية ليست في قيام سد النهضة او في الإستفادة من مياه النيل، فالقضية الحقيقية التي تخص شعوب هذه المنطقة. هي قضية حكومات مستبدة، لأ تتواني في توظيف مقومات وثروات هذه البلاد، بل وشعوبها نفسها، في تأبيد قضية السلطة بين يديها، والإستمتاع وحدها بمباهج الحياة بصورة ترفية! وكذلك هي قضية نخب وطنية، متحالفة مع هذه الحكومات او متواطئة معها، نظير فتات من الكعكعة الحرام! وذلك سواء بالصمت المريب علي جرائم السلطات وفسادها، او بالتبرير لأفعالها من قبل النسخة الأكثر قبح وبجاحة من هذه النخبة! وبتعبير آخر، تخليها عن شعبها وأحيانا إستغلاله من خلال موقعها في التراتبية الفاسدة، التي كونتها وتشرف وتسيطر عليها السطة الحاكمة. إذا صح ذلك، يصبح مصير الشعوب في يدها، بعد أن خذلتها النخبة الملتصقة بالسلطات كطيور الظلام، لسانها وشعاراتها مع الشعب، وقلوبها وجيوبها مع الحكومات الجائرة! اي أن تطور الشعوب آلياتها الذاتية، لتخلص نفسها من أسر وذل الطغيان ونزوات وجنون الطغاة وإنحرافات وتضليلات النخب! وأن تتعلم من تجاربها، وتعلن كفرانها الصريح بالإستبداد وشعاراته ورموزه وأشخاصه. وأن ترفض بوضوح، حكم القلة وقداسة السادة، وعبقرية النخب المتنكرة لوظيفتها وخائنة لواجباتها! والأهم من ذلك، الإنفتاح علي أفق المشاركة والوضوح والقبول بالآخر، أي إتاحت الفرصة لدولة العلن، او الدولة العامة للتعبير عن نفسها. في صورة إعلان للشفافية وإبراز للكفاءات وتمكين لآليات المراقبة والمحاسبة. ودولة كهذه، كفيلة بالتعبير عن المصالح الوطنية الداخلية، وتاليا المصالح الإقليمية والدولية، من خلال إنحيازها لمشاريع التعاون والإستفادة من المزايا التفضلية لكل دولة. وما يطمئن أن الثروات الموجودة في الإقليم، سواء من ناحية موارد المياه او غيرها من الموارد والقوة البشرية. كافية لتأمين حاجات الإقليم الحاضرة، والمساعدة علي الدفع الي الأمام، لمرافئ التطور وطموحات النهوض. فلا مصلحة للشعوب في الحروبات و بعث وتنشيط الفتن، لأنها الوحيدة التي ستدفع الثمن! كما أن أبسط معادلة حسابية، تعبر عن أن عشر تكاليف الحروب والإقتتال وشراء وتكديس السلاح، وبعيدا عن الخسائر المادية والبشرية والمعنوية التي لأ تقدر بثمن! إذا ما وظفت بطريقة صحيحة وفي مشاريع تنموية وبني تحتية مدروسة. فهي كفيلة بنقل كل دول الأقليم الي مصاف الدول المؤهلة للتقدم والمالكة لأمكانات الصعودة، او علي الأقل الأقدر معالجة لحالة المعاناة غير المبررة في كل ضروب الحياة. وكأن الحياة رحلة عذاب ومشروع مفتوح علي المحن، في هذه البقعة الصانعة للمحن والمفارقات المبكية! ولسان الحل يردد مع الراحل حميد منبع الحكمة وإشعاع الإنسانية.
أخير كراكة بتفتح
حفير وتراقد الركام
أم الدبابة البتكشح
شخير الموت الزؤام
آخر الكلام
من المؤسف أن تستمر حيل الحكومات والنخب الفاسدة، في جر شعوبها للهلاك، وتنعم هي بالإستجمام في بلاد المؤامرات والتدليك في منتجعات الكفر!
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.