كانت ثلاثة سيارات للشرطة تطوق الساحة جيئة وذهاباً، أحالت مناسبة صلاة العيد إلى حدث آخر متوقع الحدوث، وذلك بدورانها المتتابع، وصوت عوادمها الذي يلفت الانتباه ليدل عليها، وهذا هو حال مسجد ود نوباوي مع سيارات الشرطة، متى ما اجتمع فيه الناس منذ يونيو 2012، لكن شيئاً لم يحدث يوم (السبت) الماضي، فقد صلى الناس صلاة العيد، وهم بالمئات ممن لا يطمئنون لتمام صلاتهم إلا في هذا المكان؛ توافدوا من أماكن بعيدة، صلّوا، ثمّ استمعوا للخطبة، وتفرقوا طلباً لإكمال طقوس العيد. وفي كل الأحوال، فإن صلاة العيد في مسجد السيد عبد الرحمن بأم درمان، هي ليست محض ركعتين، وخطبة للوعظ الأخروي، إذ أن الفاصل بينها وبين النشاط السياسي ليس كبيراً؛ فسرعان ما ينزلق خطيب الصلاة إلى مناقشة أجندة سياسية تعبِّر في مجملها عن موقف حزب الأمة القومي، وذلك مثلما فعل الخطيب الشاب. آدم أحمد أمس الأول (السبت)، خصوصاً وأن آدم كان يتلو هذه المرة خطبة مكتوبة، أرسلها إمام الأنصار، رئيس حزب الأمة القومي، الصادق المهدي من الخارج، وشدد على أن تقرأ على نطاق واسع من المساجد التي تدين عقدياً لطائفة الأنصار وسياسياً لحزب الأمة القومي. ربما لتكون قراءتها بديلاً عنه في غربته ملتبسة الأسباب والدوافع والمضمون. رسمياً، ومن جهة رئاسة الجهورية تعهد الرئيس المشير عمر البشير، في رسالة للسودانيين بمناسبة العيد من الأراضي المقدسة، حيث يؤدي الحج، تعهد بالتغلب على الصعوبات الحياتية، ومعالجة المعاناة في معاش الناس بسبب الغلاء الفاحش في الأسعار. وقال البشير إن عيد الأضحى يوم للتراحم، والتآزر، والتسامح والتسامي عن سفاسف الأمور، وترويض الأنفس على التجرد، ونبذ الأنانية، والتمسك بما يمليه الدين الحنيف من تضامن، ووئام وإخاء، وسلام. ثم أرسل البشير تهنئته إلى "أولئك الأبرار الذين يحرسون الثغور، ويؤدون واجباً مقدساً في هذه الأيام، حماية لأمن المواطنين، وحراسة سيادة الوطن". بالنسبة للصادق المهدي فإنه متهم لدى المؤتمر الوطني بأنه يستقوي بالأجنبي وحملة السلاح، ومتهم بارتكاب العديد من الأخطاء التي تستوجب المساءلة، لكن الفرصة لم تسنح له ليتلذذ بمنظر أنصاره الأوفياء المتحمسين من الرجال والنساء، ومع ذلك كان مطالباً بأن يرد رسمياً من مهجره على دعوة الحكومة بأن يتبرأ من (إعلان باريس) الذي وقعه مع الجبهة الثوربة في أغسطس الماضي، مقابل السماح له بدخول البلاد لممارسة حياته السياسية. وكانت السلطات الأمنية أعلنت الأسبوع الماضي عزمها مقاضاة الصادق المهدي، بسبب نشاطات عدتها. وسبق للمهدي قبل 40 سنة أن كان في الموقف نفسه إبان معارضته لحكومة الرئيس نميري، فقد سافر إلى خارج البلاد وبدأ جولة في العواصم العربية والغربية والافريقية، كتب خلالها "أحاديث الغربة" وألقى العديد من المحاضرات في جامعات: (درهام) و(مانشستر) و(أوكسفورد) ببريطانيا، داعيا إلى الحل الإسلامي، ومبشرا بالصحوة الإسلامية وعطائها في المجالات الاجتماعية والاقتصادية. وبالفعل، رد المهدي، وبث في الخطبة التي تليت على المصلين، حزنه كزعيم سياسي يحس بالتجريح وهو ينشط بسنينه المتقدمة في حل مشكلات بلده، لكنه مع ذلك الأسى جدد تمسكه بإعلان باريس، وقصّ في خطبته المكتوبة رؤية منامية مستوحاة من آية قرآنية، تثبت حزنه على ما يقوله الأعداء. قال المهدي (في 19 يوليو 2002م، اتصل بي د. عبد الحميد صالح، رحمه الله، قائلاً: "أبشرك برؤيا صالحة رأيتها، وهي: أحدهم في هذه الرؤيا مسك يدك، وقال لك: "قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله بجحدون"). ومضى المهدي أبعد من الرؤية ليمتدح (إعلان باريس)، وقال إن مضمونه "عَبَرَ بالكافة نحو ضفة الصلاح والفلاح الوطني... وتبنى ثماره العقلاء، والوطنيون، والوسطاء، والأسرة الدولية"، بل "حتى النظام نفسه، أكل من ثماره (إعلان باريس)، إذا صدق وعده للوسطاء". وأكد المهدي عدم ممانعته في أن يُحاسب على (إعلان باريس) وطنياً وقضائياً، لو توافرت محكمة عادلة. وقال المهدي إن سبب إنفعال الحكومة هو أن الإعلان استلم زمام المبادرة، ووحَّد منابر الحوار في الشأن السوداني، فعزّ على قادة الحكومة تجريدهم من آلية فرق تسد المعتادة، لأن الإشراف على الأمر بات بيد الأسرة الدولية والأفريقية. ويقول المهدي إن الدلائل تشير إلى أن السودان مؤهل لأن يكون الدولة الأنموذج، سواء عن طريقة انتفاضة مبرمجة أو حوار وطني مبرمج ومخطط له. بالمقابل، كان زعيم حزب المؤتمر الشعبي، الدكتور حسن الترابي اختار حي مايو لأداء صلاة العيد، وكانت خطبته تذكيراً بتضحيات النبي إبراهيم (عليه السلام)، وقال خلالها إن الحج الذي سنه إبراهيم هو مؤتمر عالمي يتساوى الناس فيه من حيث الزي والحركة الموحدة، وليس مؤتمراً للحكام، أضاف "الآن نمشي في بلد فيها شيطان هوى، وحكام لا بد أن نقارعهم بالحجة". يتحدث الناس ويجادل المحللون السياسيون كثيراً في عودة المهدي إلى الداخل، ويرسمون لذلك عدة سيناريوهات، من بينها أن الحكومة مضطرة لأن تغض الطرف عن مساءلته، وتسمح له بالدخول إلى البلاد، لتوفِّر بذلك حد أدنى من الأجواء السياسية التي تتطلبها الانتخابات التي تشدد على قيامها في أبريل المقبل، لكن غياب المهدي عن البلاد أشبه بنوع من الإدانة والكيد والتبكيت على الحكومة، وبالنسبة للمهدي فإن الغياب يتعلق في المقام الأوّل بسعيه لتوثيق العلاقة مع الجبهة الثورية من جهة، وأولئك الذين باركوا الاتفاق معها من الجهة الأخرى، إلى جانب اجتهاده في إقناع الأسرة الدولية بأحقية السودان في أن ترفع عنه الديون والعقوبات الاقتصادية، وأن يستفيد من برنامج (كوتونو) الأوربي (وهي اتفاقية للتجارة والمعونة بين الاتحاد الاوروبي و71 دولة من المستعمرات السابقة)، وأن يرفع اسمه من قائمة الدول الإرهابية، إذا حقق السلام والتحول الديمقراطي، وقال المهدي إنه وجد استجابة معقولة حتى الآن. على مدى عقدين من الزمان والمهدي يلمح ويصرح علانية بأن دوره مهم في تمتين علاقات السودان الدولية والإقليمية، وفي هذا العيد توفرت له سانحة ليكشف عن مكاتبات جرت بينه وبين رئيس الآلية الأفريقية رفيعة المستوى الوسيط ثامبو أمبيكي، وأن يستعرض أفقه الذهني الواسع، للدرجة التي يطالب فيها الدول المتسببة في التلوث والاحتباس الحراري بدفع 200 مليار دولار للدول المتأثرة، من بينها السودان، لحل المعضلة بالتشجير واستخدام الطاقة الشمسية، وقال المهدي إنه كاتب أمبيكي مهنئاً بتجديد ثقة الاتحاد الأفريقي في جهوده بالسودان، ثم اقترح عليه مطالبة الحكومة بإلغاء أحكام الإعدام الصادرة بحق قادة الحركة الشعبية: مالك عقار وياسر عرمان، وتنفيذ برنامج الإغاثة الإنسانية الثلاثي، ووقف الإجراءات المتعلقة بانتخابات عامة قبل إصدار نتائج الحوار الوطني، دون الركون إلى أن هذا يخالف الدستور. وعدَّ المهدي كل ذلك ضمن الإجراءات المهمة لبناء الثقة. وكذلك اقترح على أمبيكي التشاور مع القوى السياسية لعقد مائدة مستديرة برئاسته ويدعو لها آلية 7+7، وحزب الأمة القومي، وقوى الإجماع الوطني، وعناصر أخرى مقترحة. ليس حدثاً نادراً أن يتحدث أياً من المهدي والترابي حول العلاقة بين الدين والسياسة، لكن ما يجب الإلتفات له هو أن المهدي شدد في خطبته المتلوة بين يدي المصلين على أن الحكم ليس من عقائد الدين، وأن مقولة الحاكمية لله تجعل من مبادئ الإسلام السياسية، دعوة للثيوقراطية التي تحرم المسلمين من تحقيق مبادئ العدل والحرية والمساواة، وأشار إلى أن مبدأ الحاكمية لله دفع الأخوان المسلمين في السودان إلى تحقيقه عبر الإنقلاب العسكري، الذي يعده المهدي مخالفاً للدين الإسلامي، إستناداً على فتوى الشيخ الألباني، وقال المهدي إن الحركات الإسلامية: داعش والقاعدة والأخوان المسلمون، ضيقوا واسعاً لأنهم جعلوا فهم الأقدمين للدين ملزماً للخلف، وهذا يبطل قدرة المسلمين على استصحاب المستجدات النافعة. داخلياً، أكد المهدي أن السودان أمامه خياران إزاء تحقيق التحول الديمقراطي والظفر بالوعود الدولية، هما: موافقة الحكومة على آلية الملتقى القومي الدستوري الذي يعقد داخل السودان، أو أن يخرج عليها الشعب السوداني في انتفاضة سلمية لتحقيق نظام جديد، وقال المهدي إنه سيغذي هذه الإنتفاضة بالعمل مع المعارضة على تحقيق وحدة (قوى التغيير) حول أهداف البديل الديمقراطي، وأضاف أنه سيصدر نداءه للمتظاهرين في اللحظة الحاسمة. وربما هذا ما تكرهه الشرطة، ويبرر في الوقت نفسه وجودها في ساحة مسجد السيد عبد الرحمن!. اليوم التالي