إذا صح أن الرئيسين المصري والسوداني اتفقا على تطوير العمل المشترك وعلى تنحية الجوانب الخلافية، فستكون هذه «بشرة خير». وأرجو أن تلاحظ أنني قلت «إذا صح» لأن العنوان الرئيسي لجريدة الأهرام أخبرنا بذلك، في حين أن الإعلام المصري ظل يتحدث بلغة أخرى طوال الأسابيع الماضية، فيها من الاشتباك والتصعيد والتقاطع بأكثر مما فيها من محاولة التفاهم والتواصل. وكان ذلك على إثر العودة إلى التجاذب بشأن مثلث حلايب وشلاتين الحدودي، الذي أعلن الرئيس عمر البشير أنه جزء من السودان وخاضع لسيادته، في حين أن مصر أعلنت أن لديها ما يثبت حقها في تلك المنطقة. وإزاء ذلك قام الإعلام المصري بدوره التقليدي، الذي لم يكتف بتأييد وجهة النظر الرسمية وإنما وجه سهام التنديد والتجريح للطرف الآخر، الأمر الذي أعطى انطباعا بأن البلدين بصدد الدخول في صراع مسلح تتقطع به الوشائج وتسيل فيه الدماء. في هذه الأجواء تمت زيارة الرئيس عمر البشير، وجاء العنوان الرئيسي لجريدة الأهرام رصينا وحذرا ولافتا الانتباه إلى مباحثاته مع الرئيس عبدالفتاح السيسي وركزت على العمل المشترك، وقامت بتنحية الجوانب الخلافية، وقد اعتبرت ذلك بشرة خير لأن هذا النهج يعبر عن درجة من الرشد والوعي جديرة بالحفاوة والتقدير. ليس فقط لأنه يعلي من شأن المصالح العليا. وليس فقط لأن التفاهم حول العمل المشترك من شأنه أن يخفف من وطأة أي توتر فضلا عن أنه يفتح الباب لتذويب الخلافات وحل عقدها، ولكن أيضا لأن الطرف الآخر في المحادثات لم يكن بلدا عاديا، ولكنه السودان الذي هو بأمر الجغرافيا أقرب الأشقاء إلى مصر، الأمر الذي هيأ مناخا مواتيا لنسج تاريخ عريض مشترك بين البلدين والشعبين. وما يقال عن السودان ينسحب بذات القدر على ليبيا الشقيق الآخر القابع في الغرب. وقد كنت أحد الذين انحازوا إلى ضرورة الحفاظ على علاقات تفاهم ومودة مع البلدين الجارين في ظل كل الظروف. ليس فقط وفاء بحق الجغرافيا والتاريخ، ولكن أيضا لأسباب إستراتيجية وثيقة الصلة بالمصالح المشتركة وأمن مصر القومي. ما همني في الموضوع هو تصويب النظر نحو المصالح العليا وتجنب الانزلاق في متاهات المشكلات الفرعية، التي تفسد العلاقات وتستهلك الطاقات وتصرف الانتباه عن المصالح الإستراتيجية. وذلك لا يعني التنازل عن الحق، وإنما يعني تجنب التنازع والحذر في إدارة الخلاف، مع إعطائه حجمه الطبيعي وتحديد ترتيبه في قائمة أولوية العلاقات. وذلك كله لا يتحقق إلا في ظل وضوح الرؤية الإستراتيجية، مع تجنب البعد عن الاستسلام للانفعال أو حملات الإثارة الإعلامية. خصوصا بعدما قويت شوكة الإعلام وأصبح سلاحا في الحروب السياسية الباردة. المفارقة تبدو مثيرة للانتباه. ذلك أن موضوع النزاع حول حلايب ظل محلا للتجاذب بين القاهرة والخرطوم خلال الأسبوعين الأخيرين بوجه أخص، ثم حين جاء الرئيس البشير إلى القاهرة أعلن أنه تمت تنحية المسائل الخلافية في المباحثات التي جرت بينه وبين الرئيس السيسي. وهي التي لا تقتصر على موضوع حلايب لأن ثمة لغطا حول موقف السودان من قضية سد النهضة الإثيوبي. إضافة إلى أن هناك تفصيلات كثيرة تتعلق بالتزام مصر باتفاقية الحقوق الأربعة مع السودان وبالتجارة البينية والمعابر الحدودية بين البلدين. ولأن قائمة العناوين طويلة فإنني أرجح أن الملفات المتعلقة بالعلاقات الثنائية قد تركت لمباحثات الوزراء المختصين على الجانبين. أما اجتماع الرئيسين فإنه عقد لمناقشة القضايا الإقليمية وليس العلاقات الثنائية. وقد ألمح إلى ذلك المتحدث الرسمي لرئاسة الجمهورية الذي نقلت عنه الأهرام أمس قوله إن «الملف الليبي حاز اهتماما خاصا في مباحثات الرئيسين»، مشيراً إلى أهمية دعم المؤسسات الشرعية الليبية وفي مقدمتها الجيش الوطني، الأمر الذي يعد خطوة باتجاه الاحتشاد الإقليمي لمساندة أحد طرفي الصراع في ليبيا، في مواجهة التحرك الذي تقوده الجزائر لإقامة حوار بين مختلف الأطراف. في حدود معلوماتي فإن مباحثات الرئيسين تطرقت أيضا إلى موقف السودان من حالة الاستقطاب الإقليمي التي برزت في العالم العربي بعد عزل الدكتور محمد مرسي، خصوصا أن نظام الرئيس البشير له خلفيته الإسلامية، وظل طوال الفترة الماضية يقف على الحياد خارج دوائر الاستقطاب التي تشكلت. أيا كانت تساؤلاتنا حول نتائج الزيارة وتقييمنا لنتائجها، فلابد أن نعبر عن ارتياحنا لفكرة تنحية الخلافات جانبا والتعامل في حدود ما هو متفق عليه. ونرجو أن يصبح ذلك موقفا دائما وليس نهجا استثنائيا فرضته معادلات وحسابات اللحظة التاريخية. الشرق