بسم الله الرحمن الرحيم في الدول التي تتمتع شعوبها بالديمقراطية والحرية وصيانة حقوق الإنسان, يتم تبادل السلطة بين أحزابها السياسية, عبر منافسات حرة ونزيهة يجد فيها كل المتنافسين حقوقهم المتساوية في كل ما يتصل بمطلوبات تلك المنافسة. وتجرى المنافسة عبر انتخابات تحدد من يفز بثقة المواطنين بما تؤهله لقيادتهم, ومن ثم يتسلم الحزب الفائز مقود السلطة. وبما ان مثل تلك الانتخابات عادة ما تتسم بالشفافية والنزاهة, فان نتائجها تظل مكان قبول ورضاء كل المتنافسين, الرابح منهم والخاسر الأمر الذى يعكسه تهنئة الخاسر للرابح في سلوك حضاري مفقود تماما بين سياسي الدول النامية والنايمة. والتبادل السلمي للسلطة يعنى, ان تتناوب الأحزاب السياسية القائمة بأى بلد يؤمن بمثل ذلك الفعل ويعمل بموجبه, تتناوب في عملية استلام عجلة القيادة لتلك البلد ووفق القوانين التي تحدد مدى فترات تلك القيادة, بمعنى ألا يظل الحزب على سدة الحكم لأكثر من دورة أو دورتين مثلا, مع تحديد عمر كل دورة. ذلك التحديد للمدى الذى يمكن ان يظل فيه الحزب حاكما, يمليه تحقيق عدالة تبادل السلطة بين مختلف الأحزاب سلميا. كما وان التبادل السلمي للسلطة وفى أوقات محددة, يساعد على تجديد الأفكار والرؤى في إدارة دفة الحكم, يتيحه تجديد القيادة. إما في حالة الأنظمة غير الديمقراطية, فإما ان يغيب التبادل السلمي للسلطة تماما عن الممارسة السياسية, أو أن يأخذ إشكالا قد لا تماثل أصل الفكرة بصورة كاملة, ولكنها محاولة للتمسح بها. فالأنظمة الشمولية, التي تصل إلى السلطة عبر الانقلابات العسكرية, عادة ما تسلك احد طريقين في ممارسة سلطتها, فإما ان تستمر بقيادتها العسكرية حتى وقت زوالها, كحكومة نوفمبر مثلا. أو ان تعمل على إضفاء مسحة مدنية على سلطتها العسكرية, كنظام مايو..والمسحة المدنية التي تضفيها الأنظمة الشمولية على شموليتها, تتمثل في تكوين حزب سياسي وحيد خاص بها, كالاتحاد الاشتراكي السوداني, بينما يتم تحريم تكوين اى أحزاب أخرى بجانبه. وفى مثل هذه الحالة فان التبادل السلمي للسلطة عبر ما تجرى من انتخابات, يعنى ان تتم المنافسة فيها بين كوادر الحزب الواحد,.ومن ثم فان السلطة تظل بين يدي ذات الحزب. قصدنا من السرد عاليه لنصل إلى صورة الوضع في حالة حكومة الإنقاذ وحزبها المؤتمر الوطني, حيث يختلف وضع الانقاذ تماما عن الأوضاع بكل أنظمة الحكم المختلفة, شمولية كانت أو ديمقراطية. فنظام حكم الإنقاذ وحزبه المؤتمر الوطني, تعتبر نظاما فريدا في نوعه لم نشاهد أو نقرا عن مثله في اى من دول العالم قاطبة. ففي النظم الديمقراطية عادة بل شرطا, وجود حزب حاكم, يقابله من الجانب الآخر حزب أو أحزاب أخرى معارضة لا تتعدى في مجملها أصابع اليد الواحدة, بينما في النظم الشمولية يوجد حزب واحد يتبع للسلطة الحاكمة, وفي غياب تام لأي أحزاب أخرى كمعارضة. حكومة الإنقاذ وفى محاولة لإبعاد صفة الشمولية عن حكمها, قامت بعملية (خرمجة) سياسية غير مسبوقة. بدأت بقصة أحزاب التوالي السياسي التي جعلت لكل مائة مواطن الحق في تكوين حزبهم الخاص, فتمكنت بذلك الفعل من ان تملأ الساحة السياسية بأحزاب بلا لون ولا طعم ولا رائحة, ولا نشك في ان الكثير من تلك الأحزاب كان من صنعها للاستفادة منهم مستقبلا. والإنقاذ حاولت استنساخ الأحزاب العريقة, كالأمة القومي, لتقوم مقام الأحزاب الأصل, ورغم محاولاتها توريث الأحزاب المستنسخة كل ممتلكات الأحزاب الأصل, إلا أنها عجزت عن توريثها جماهير تلك الأحزاب, فلم تدم تلك الفكرة طويلا حتى تلاشت. وبعد ان تمكنت الإنقاذ من جذب أحزاب المعارضة إلى الداخل, انتقلت إلى مرحلة جديدة في تخريب الطريق الذى يقود إلى تبادل السلطة سلميا, فخرجت بفكرة حكومة الوحدة الوطنية التي تختلط بداخلها أحزاب المعارضة مع الحزب الحاكم. حيث أفسحت حكومة المؤتمر الوطني المجال لبعض الأحزاب للمشاركة في السلطة, ولكن بالقدر والمستوى الذى تحدده حزبها. فابتلع البعض الطعم, فسارع لخلع ثوب المعارضة ولم يجد من بين ثياب الحزب الحاكم ما يستر عورته السياسية, حين أصبحت تلك الأحزاب لا هي معارضة ولا هي حاكمة.. وكمواصلة للسير على طريق تخريب الوضع الطبيعي المتمثل في وجود حزب حاكم, وأحزاب معارضة, عملت على توسيع دائرة المشاركة السابقة, فجاءت بفكرة الحكومة ذات القاعدة العريضة. والقاعدة كما يعلم الجميع قطعا لا تعنى القيادة بقدرما مشير إلى الجماهير, في حين ان القاعدة العريضة التي عنتها الإنقاذ, هي التوسع في أعداد مقاعد السلطة ليجد اكبر قدر من الراغبين فيها من كوادر المعارضة, الفرصة لتحقيق أهدافهم. والمدهش ان الحكومة ذات القاعدة العريضة تم تبنيها في الوقت الذى اخذ فيه اقتصاد البلاد في التدهور, وفى الوقت الذى رفع فيه شعار خفض الإنفاق الحكومي, فكانت الفكرة اكبر هزيمة لذلك الشعار. هذه الحكومات التي اجتهدت الإنقاذ في تكوينها بالجمع بين كوادرها كحكومة وقليل من كوادر الأحزاب الأخرى المعارضة, عملت على تشويه الوضع الطبيعي للأحزاب السياسية. بان تستلم إحداها.السلطة بينما تنصرف الأحزاب الأخرى للوقوف في صف المعارضة في انتظار ان تجد فرصتها في القيادة في إطار التبادل السلمي للسلطة مستقبلا.. ولا ندرى بما يمكن ان تسمى حكومة الوحدة الوطنية أو تلك ذات القاعدة العريضة, حيث لا يوجد أي اسم خاص لكليهما في القاموس السياسي, إذ لا يمكن ان يطلق علي أي منهما اسم الحزب الحاكم بمفهومه الصحيح, ما دامت هنالك بعض من أحزاب المعارضة تشارك في السلطة معه ومهما كانت نسبة مشاركتها, كما ولا يمكن ان نطلق على الأحزاب المشاركة في السلطة صفة المعارضة وهى رافلة في حلل ونعيم تلك السلطة. نخلص من كل ذلك إلى ان حزب المؤتمر الوطني وبمثل ذلك الخلط بين الحزب الحاكم وأحزاب المعارضة, قد نجح في ان يبعد شبح التبادل السلمي للسلطة عن سلطته, ورغم انه أصبح بصورته الراهنة لا (حنظلة ولا بطيخة). الآن يرفع الحزب الحاكم شعار ضرورة إجراء الانتخابات في موعدها المحدد بعد ان أضاف إليها صفة, استحقاق دستوري, واجب النفاذ طبعا, وكأنما كل الاستحقاقات الدستورية قد تم تنفيذها. ولنفرض ضرورة إجراء تلك الانتخابات في موعدها المحدد بعد ان نسقط من الذاكرة قصة الحوار الوطني وتهيئة أجوائه كاستحقاق دستوري أيضا, لا زال غائبا, فان لإجراء اى انتخابات مطلوباتها التي يجب توفرها قبل الشروع في خطوات الاستعداد لخوضها. وعلى رأس تلك المطلوبات إلغاء كل القوانين المقيدة للحريات كاستحقاق دستوري آخر واجب النفاذ وفورا, علما باستحالة إجراء أي انتخابات حرة ونزيهة في ظل قوانين تجردها من كليهما. والانتخابات كمنافسة بين مجموعة أحزاب تتطلب بداية وجود تلك الأحزاب, إذ هم الذين سيوفرون لنتائج تلك الانتخابات شرعيتها. ومن ثم لا يجوز اعتماد نتائج اى انتخابات ينافس فيها اى حزب نفسه. كما وان الإشارة إلى الأحزاب المتنافسة لا نعنى أيا من أحزاب الفكه, بل المقصود الأحزاب التي تستطيع ان تنافس في ندية مع الحزب الحاكم, أما إذا امتنعت كل الأحزاب ذات الوزن الجماهيري عن خوض الانتخابات, فان غيابها عن المنافسة لابد من يقلل من قيمة ووزن نتائجها, ولكي تؤدى الانتخابات دورها بالمستوى المطلوب وتخدم غرضها في تحديد الفائزين بثقة المواطنين, يجب توفير الفرص المتكافئة للتنافسيين, بحيث لا يحصل احدهم على اى ميزة لا تتوفر للآخرين. فحزب المؤتمر الوطني كمنافس في هذه الانتخابات, يتمتع بميزة عظيمة الأثر في مجريات تلك الانتخابات, وتعمل على ترجيح كفته في اتجاه الفوز دون عناء, بما يعجز كل الأحزاب الأخرى مجتمعة من معادلتها. فالحزب ظل حاكما ولأكثر من ربع قرن من الزمان وبصورة متواصلة, ومن ثم تتوفر له كل إمكانات الدولة التي يحتاجها في حملاته الانتخابية ليستغلها كما يريد ود ون ان يقف في طريقه اى عائق. أحزاب المعارضة المنافسة للحزب الحاكم لا زالت ترزح تحت وطأة القوانين المقيدة للحريات التي حرمتها من حريتها المطلوبة والتي تحتاجها في كل خطواتها استعدادا لخوض تلك الانتخابات, وفى مقدمة ذلك حرية اتصالها بجماهيرها التي حجبت عنها سنين عددا. ففي الوقت الذى تجد فيه قيادات الحزب الحاكم كل التسهيلات والمعينات التي تمكنها من الوصول إلى كل قواعد حزبها بكل أرجاء السودان وبكل سهولة ويسر, ومن بعد تمهد لها لمخاطبتهم متى تريد وفى المواقع التي تريد, تجد الأحزاب المعارضة أنها قد حرمت من حقها في التقاء جماهيرها ليست في الميادين العامة التي يبغضها النظام, بل حتى داخل دورها الخاصة ما لم تحصل على إذن لفعل ذلك ومن حكومة منافسها. والحزب الحاكم يعمل على كشف أوراقه الخاصة بالانتخابات حتى يزيد من مخاوف الأحزاب الأخرى وحثها على الهروب من المنافسة لبعد الشقة بينها وبينه, فالمؤتمر الوطني الذى أعلن عن ان جماهيريته قد أوصلته لكسب عشرة ملايين من شعب السودان لصالح حزبه, ثم اختشى أخيرا فقلصها إلى ستة, يعلن بأنه قد رصد مليارات الجنيهات لخوض هذه الانتخابات, بل ولمزيد من نبرة التفاخر, أعلن بأنه ومن حر ملياراته سيقوم باستئجار عربات القصر الجمهوري لضيوفه الأكابر الذين ستتم دعوتهم من عشرات الدول ليشهدوا مؤتمره العام, ونشكر للقصر الجمهوري ان نفى زعم إيجار عرباته التي سيبيحها لاى ضيف يستحقها ومجانا. ومن من الأحزاب الأخرى سيجرؤ على دعوة اى ضيف من الخارج؟ ثم كم من الأحزاب الأخرى (صندلها وطرورها) يمتلك ولو القليل من مثل تلك الإمكانات, جماهيرية كانت أو مادية, ومن منها قد تجد مثل تلك التسهيلات المبذولة للحزب الحاكم التي تيسر خطواته في كل الاتجاهات الذى يقصد, لتقبل على المنافسة وهى مطمئنة إلى أن في الإمكان هزيمة المؤتمر الوطني الذى بيده القلم ولن يكتب نفسه شقيا ليخسر الانتخابات. فالمؤتمر الوطني يسعده جدا ان تقاطع كل الأحزاب العريقة الانتخابات, على الأقل ستريحه من الاجتهاد لعرقلة وصولها إلى جماهيرها, أما توفير الشرعية فانه سيجدها من جانب أحزابه الخاصة التي سيستدعيها لتشارك في الانتخابات اسما فتفعل, بعد ان يمنيها بمقعد أو اثنين في سلطته القادمة, من كل ما سبق يمكن ان نخلص إلى ان مفهوم التبادل السلمي للسلطة لدى الإنقاذ, هو ان تتحرك السلطة حصريا بين يدي كوادرها, مثلها مثل اى نظام شمولي, كل الاختلاف ان الإنقاذ قد تسمح لبعض من فتات السلطة ان يتساقط من بين يديها, ومن بعد تسمح لبعض من الأحزاب المعارضة الراغبة في السلطة لتلتقطه. وهكذا تظل حزب المؤتمر الوطني هو الثابت الوحيد في السلطة بينما تظل كل الأحزاب الأخرى مجرد متغيرات, والى ان يقضى الله أمرا كان مفعولا. [email protected]