مدير شرطة ولاية النيل الأبيض يتفقد شرطة محلية كوستي والقسم الأوسط    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    تدرب على فترتين..المريخ يرفع من نسق تحضيراته بمعسكر الإسماعيلية    عيساوي: حركة الأفعى    أبل الزيادية ام انسان الجزيرة    الفاشر ..المقبرة الجديدة لمليشيات التمرد السريع    الزمالك يسحق دريمز في عقر داره ويصعد لنهائي الكونفيدرالية    سان جرمان بطلا للدوري الفرنسي.. وعينه على الثلاثية    أرسنال يحسم الديربي بثلاثية    إيران تحظر بث مسلسل "الحشاشين" المصري    شاهد بالفيديو.. سائق "حافلة" مواصلات سوداني في مصر يطرب مواطنيه الركاب بأحد شوارع القاهرة على أنغام أغنيات (الزنق والهجيج) السودانية ومتابعون: (كدة أوفر شديد والله)    السودان..توجيه للبرهان بشأن دول الجوار    نائب وزيرالخارجية الروسي نتعامل مع مجلس السيادة كممثل للشعب السوداني    شاهد بالصورة والفيديو.. طلاب كلية الطب بجامعة مأمون حميدة في تنزانيا يتخرجون على أنغام الإنشاد الترند (براؤون يا رسول الله)    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    شاهد بالصور.. بالفستان الأحمر.. الحسناء السودانية تسابيح دياب تخطف الأضواء على مواقع التواصل بإطلالة مثيرة ومتابعون: (هندية في شكل سودانية وصبجة السرور)    يس علي يس يكتب: روابط الهلال.. بيضو وإنتو ساكتين..!!    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    جبريل إبراهيم يقود وفد السودان إلى السعودية    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    تجارة المعاداة للسامية    رئيس حزب الأمة السوداني يعلق على خطوة موسى هلال    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    بايدن منتقداً ترامب في خطاب عشاء مراسلي البيت الأبيض: «غير ناضج»    استجابة للسودان مجلس الأمن يعقد اجتماعا خاصا يوم الاثنين لمناقشة العدوان الإماراتي    تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    دبابيس ودالشريف    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    بمشاركة طبنحة و التوزة...المريخ يستأنف تحضيراته    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    لماذا لم تعلق بكين على حظر تيك توك؟    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    سوق العبيد الرقمية!    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أسباب إنخفاض الدولار مقابل الجنيه (3/3)
نشر في الراكوبة يوم 28 - 11 - 2014

النقود (أو النقد) في اللغة تعني التقييم أو المعايرة أو القياس و هي بهذا المعني لا تختلف عن معني النقد في (النقد الفني أو الأدبي) أو النقد الذاتي أو نقد الآخرين فعندما تُقدم نقدا أدبيا لقصيدة أو قصة أو رواية فإنما تقوم بتقييمها و قياسها و هكذا فإن النقود هي التي يتم بموجبها نقد أو تقييم و معايرة السلع و الخدمات ،،، و لذلك فإن النقد هو مجرد وسيلة للتبادل لأنه ليس له قيمة ذاتية ولا يمثل أو يضيف منفعة في حد ذاته فلا يستطيع الإنسان أكل ورقة المائة دولار مثلا أو النوم عليها أو ركوبها أو إتخاذها علاجا كما أنها لا تزيد في حد ذاتها و لا تنقص فإذا وضعت مائة دولار في خزانة لمدة 60 عاما ستجدها هي نفسها مجرد مائة دولار لا غير. و لكنها (أي النقود) تعبِّر عن القيمة الذاتية أو المنفعة التي تحققها السلع و الخدمات التي يتم بموجبها تبادلها في الأسواق و بالتالي فإن الذي يتغير في الحقيقة هو سعر السلع و الخدمات و ليس النقود و أن هذا التغيُّر هو الذي يحدد القيمة الحقيقية أو القوة الشرائية للنقود فكلما ارتفعت أسعار السلع و الخدمات كلما انخفضت قوتها الشرائية و العكس صحيح. و بالتالي لا يصح أن تعتبر النقود سلعة في حد ذاتها لأن التبادل السلعي تنتج عنه بالضرورة منفعة بمعني أنه إذا اشتريت بندول مثلا بدولار واحد فإن المنفعة هنا في قيمة البندول في حد ذاته كعلاج أما إذا إشتريت 3.65 ريال بقيمة واحد دولار فليس هنالك منفعة للريال أو الدولار في حد ذاتهما و إنما في منفعة السلعة أو الخدمة التي يمكن شرائها بهما (و يشتمل هذا بالطبع علي المنفعة التي تنشأ عن عملية شراء العملات بغرض عمليات الدفع في الاعتمادات المستندية و خطابات الضمان و التحويلات المصرفية لأغراض الإستيراد و كذلك لأغراض السفر و السياحة و العلاج... إلخ) و لكن المقصود هنا هو الإكتناز أو الإتجار و المضاربة في النقود كسلع نهائية في حد ذاتها. هذا هو موقف جميع علماء الإقتصاد في التراث العربي الإسلامي و علي رأسهم الإمام الغزالي، أبو يوسف، إبن تيمية، إبن القيم الجوزية، المقريزي، إبن خلدون. و أيضا هو نفس موقف الفكر الإشتراكي الذي يعتبر النقود مجرد وسيط للتبادل و أن تحولها لسلعة يتم تبادلها لذاتها سيؤدي إلي أزمات إقتصادية دورية و هو ما حدث في معظم البلدان الرأسمالية التي تعتبر النقود سلعة في حد ذاتها لها أسواقها و بورصاتها المحلية و العالمية التي تتم فيها عمليات المضاربة عليها علي نطاق عالمي واسع كان له دور مباشر في خلق إقتصاديات وهمية لا تقف علي أصول أو تبادل منافع حقيقية مما أدي بشكل غير مباشر أحيانا و مباشر في كثير من الأحيان إلي ظهور العديد من الأزمات المالية العالمية التي شهدها العالم و علي رأسها أزمة عام 2008م.
و لتفسير قضية التضخم الركودي الذي أصاب إقتصاد بلادنا في عهد دعاة المشروع الحضاري و خط الإنخفاض المتواصل في قيمة الجنيه السوداني مقابل الدولار و غيره من العملات الصعبة، برغم أنها حقيقة ماثلة لا تحتاج منا للإجتهاد أو الرجوع لِعِبَر التاريخ، و لكننا، مع ذلك، نري أهمية استدعاء تحليل تاج الدين المقريزي (كعالم إقتصاد في المقام الأول) لتفسير ظاهرة استشراء الغلاء (المقابل لمصطلح التضخم الجامح في عهدنا الحاضر) و تدهور قيمة العملة خلال الفترة التي عاش فيها قبل حوالي تسعة قرون ميلادية أولا: باعتباره تحليل ينطبق تماما علي واقع بلادنا اليوم في عهد هؤلاء الذين لا نعرف من أي فصلٍ و أصلٍ قد أتوا و ثانيا: لأنهم يتحدثون عن المشروع الحضاري و هو لا يمت للتراث الإسلامي (الذي يعتبر المقريزي و ابن خلدون من أعلامه) بصلة و هم لا يمثلون فيه إلا أسباب التدهور و الإنهيار التي جاءت في تحليل المقريزي و وصفة ابن خلدون و غيرهم من أعلام التراث العربي الإسلامي.
فقد عزا المقريزي أسباب التضخم الجامح الذي ضرب تلك الحقبة (الغلاء) إلي ثلاثة أسباب الأول و الثاني وردا في كتابه (إغاثة الأمة بكشف الغمة) و هما:
أولا: إنتشار الفساد و الرشوة علي مستوي الحكام و الأمراء و من قبل المريدين و المقربين للحكام و الولاة من أجل الحصول علي مناصب الدولة العليا كالوزير و القاضي و أهمها منصب المحتسب الذي كانوا يتسابقون عليه لتعويض ما أنفقوه علي الأمراء من هدايا و عطايا و لمراكمة الثروات بحكم أنه (أي المحتسب) يمثل منصب رجل الدولة المسئول عن مراقبة السوق وفق ما يعرف بنظام الحِسبة الإسلامي الذي كان يمثل الجهاز الرقابي المسئول عن مراقبة السوق و تحصيل الضرائب. و بدلا عن محاربته للربا و الغرر و الإحتكار في السوق كدور رئيسي منوط به تحول لأحد أكبر شبكات الفساد علي امتداد أقاليم و ولايات الدولة من تحصيل الضرائب الباهظة و الأتوات لصالح الحكام و الولاة و المحتسبين بفرض أسقف تحصيل و جبايات عالية علي أتباعهم من محصلي الضرائب لتعظيم إيرادات الحكام و الولاة من ناحية و لتعظيم إيراداته الخاصة مما يضطر هؤلاء المحصلين لفرض ضرائب باهظة غير شرعية و التواطؤ مع التجار و المنتجين بتخفيض الضرائب عليهم أو إعفائهم منها مقابل رشاوي و عمولات أو حصص ثابتة في أنشطتهم التجارية مما أدي بالتالي لإرتفاع تكاليف إنتاج السلع و الخدمات و تتضاعفت تبعا لذلك مستويات الغلاء (أو التضخم) بشكل جامح. لا أعتقد بأن قراء الراكوبة الكرام يحتاجون لأدني جهد لاستدعاء فطنتهم التي لا تلتبس عليها الأمور في المقاربة بين الواقع الذي بني عليه المقريزي تحليله و خلاصاته فيما يتعلق بالفساد و دوره في ارتفاع معدلات التضخم و ما أدي إليه بالضرورة من انخفاض قيمة العملة المحلية و بين واقع حال بلادنا في عهد دعاة المشروع الحضاري. فإذا كان هنالك ثمة قليل من منطق لقبول أسطورة وجود آلة أو مركبة للسياحة عبر التاريخ و الزمن فإنها حتما تحمل علي ظهرها الفساد الذي يوجد في كل تاريخ أو زمن مجرد من الإنسانية لا يعرف دين أو سنن يدوس علي كل تقاليد أو قيم و هو يأخذ أشكالا مستنسخة في أهدافها و جوهرها غير الأخلاقي لكنها تختلف فقط في زمانها و مكانها و في أسلوبها و أدواتها المستخدمة. فالسودان اليوم يحتل بجدارة المرتبة الثالثة بعد العراق و الصومال في قائمة الدول الفاشلة الأكثر فسادا علي مستوي العالم و تمكنت الإنقاذ من جعل الفساد ليس فقط مجرد سلوك لبعض المتفلتين بل أسلوبا كاملا للحكم له شبكاته الممتدة من أعلي قمم السلطة إلي أدناها في كل مؤسسات الدولة و قطاعاتها و ولايتها و أصبح التقرب للحكام من أجل الحصول علي المناصب و استغلالها لمراكمة الثروات هو الهدف الحقيقي لكل المنتمين للمؤتمر الوطني و أزيالهم من المريدين و المتسلقين و انعكس ذلك في الصراع المحتدم الماثل بين أقطاب مافيا المؤتمر الوطني جماعة نافع و جماعة علي و كتلة هلم جرا ،،، كلها في النهاية تتصارع من أجل المناصب و المصالح الدنوية البحتة. و الذي يدفع ثمن الفساد و يكتوي بنيرانه هو الشعب الفقير المعدم الذي بددت الإنقاذ موارده و ثرواته و أثقلته بالضرائب و الأتوات التي لم تسلم منها ليس فقط كل القطاعات الإنتاجية من زراعة و صناعة و رعي و غيره و الخدمية من تعليم و صحة و كهرباء و ماء و نقل و امواصلات بل حتي ستات الشاي و أطفال الدرداقات في ملجات الخضار و لم يتبقي إلا فرض رسوم علي المتسولين و المشردين.
ثانيا: أرتفاع إيجارات الأراضي الزراعية حيث بلغت قيمة إيجار فدان الأرض الزراعية في ظل علاقات الإنتاج العبودية السائدة في ذلك الوقت من قبل الأمراء (ملاك الأرض و العبيد) إلي عشرة أضعاف ما كانت عليه من قبل و ما صاحبه من إرتفاع الضرائب علي التجار و المنتجين مما أدي إلي إرتفاع تكاليف الإنتاج و أدي بالتالي لتدني معدلاته نتيجة لتوقف العديد من المنتجين عن الإنتاج و إنخفضت بالتالي معدلات المعروض من السلع و الخدمات بمستوي أقل من حجم الطلب المتزايد مما أدي بالضرورة إلي غلاء أسعار السلع و الخدمات. و أيضا ينطبق ذلك علي واقع بلادنا متمثلا في إرتفاع قيمة الأراضي الزراعية و في الجبايات التي تفرضها الدولة علي قطاع الزراعة علي مستوي الزراعة الآلية في القطاعين المروي و النقليدي المطري و علي مستوي صغار المزارعين بجانب إثقالهم بعقود تمويل زراعي مجحفة تنتهي بهم في غياهب السجوون مما أدي لخروج العديد منهم من دائرة الإنتاج فانخفضت الكميات المعروضة من المنتجات الزراعية عن المطلوب منها فتتضاعفت بالتالي أسعار المحاصيل الزراعية و الخضروات و غيرها من المنتجات الزراعية.
ثالثا: أما السبب الثالث و هو أشد ارتباطا بقضية عرض النقود و دوره في زيادة حدة التضخم و الذي شخصه المقريزي في كتابه (شذور العقود في ذكر النقود الذي سبق فيه المقريزي بمئات القرون قانون عالم الإقتصاد السير توماس جريشام مستشار ملكة إنكلترا إليزبيث الأولي بما عرف فيما بعد ب "قانون جريشام" القائل بأن النقود الرديئة تطرد النقود الجيدة في السوق)، يتمثل (حسب تحليله) في زيادة عرض النقود الرديئة نتيجة لتزايد معدلات إنفاق الحكام و رجال الدولة و أتباعهم و حاشيتهم علي الجاه و النعيم و كل أوجه الصرف البذخية غير المنتجة علي أجهزة الدولة. فبما أن الذهب و الفضة بطبيعتهما معادن نادرة لا يمكن بحكم ندرتهما التوسع في صكهما فقد توسعت الدولة في صك النقود المعدنية الرديئة المغشوشة المصكوكة بخليط من الذهب أو الفضة مع النحاس و غيره من المعادن الرخيصة المتوافرة بكثرة و عرضها باعتبارها عملات ذهبية و فضية. و مع تضاعف معدلات انفاقهم البذخي و حرصهم علي اكتناز الذهب و الفضة كمعادن ثمينة توسعوا في صك النقود النحاسية البحتة و غيرها من المعادن الرديئة دون خلطها بالذهب و الفضة فيما عرف في ذلك الوقت ب (الفلوس) مما أدي إلي مزيد من عرض النقود دون أن يكون لها مقابل من السلع و المنتجات فتزايدت نتيجة لذلك معدلات الغلاء. فالمعروف في علم الإقتصاد أن المعروض من النقود يجب أن يكون متساوي في أي فترة من الفترات مع كمية السلع و الخدمات فإذا كان المعروض من سلعة السكر علي سبيل المثال 1000 طن و كان المعروض من النقود الف جنيه فإن سعر طن السكر هو واحد جنيه و لكن إذا افترضنا أن المعروض من السكر ظل علي ما هو عليه 1000 طن و زاد المعروض من النقود إلي 2000 جنيه فمعني ذلك أن طن السكر الذي كان يعادل واحد جنيه قد تضاعفت قيمته إلي 2 جنيه و هكذا كلما زاد عرض النقد عن كمية السلع و الخدمات المنتجة في المجتمع كلما زادت الأسعار (أي ظهور التضخم) و العكس صحيح كلما انخفض عرض النقد عن كمية السلع و الخدمات المنتجة كلما إنخفضت الأسعار (أي ظهور الكساد).
و برغم اختلاف نظام قاعدة الذهب و الفضة عن نظام العملات الورقية إلا أن تحليل المقريزي ينطبق تماما علي ما يحدث في بلادنا فالمتحكمين في تجارة العملة و هم كما قلنا في الحلقة السابقة كبار مافيا الإنقاذ علي قمة هرم السلطة يكتنزون الذهب و الدولار و غيره من العملات الصعبة و في نفس الوقت تتوسع الدولة في طباعة العملة المحلية لمواجهة منصرفاتها البذخية علي الجاه و النعيم و توسيع دائرة السلطة و المقربين و كذلك علي أجهزة الدولة المترهلة غير المنتجة و علي أجهزة الأمن و القمع و المليشيات التابعة له و أصبحت زيادة المعروض من النقود عن المعروض من السلع و الخدمات نتيجة تدهور القطاعات الإنتاجية و الخدمية هي السمة التي تميز إقتصاد مافيا الإنقاذ. و ليس من مصلحتها السعي لمعالجة الوضع لأنه يمثل الوضع الذي تراكم من خلاله ثرواتها فمن مصلحتها أن تستمر قيمة الجنيه في الإنخفاض المتواصل لتتضاعف قيمة الذهب و العملات الصعبة المكتنزة بحوزتها خارج القنوات الرسمية سواء داخل السودان أو في حساباتها خارجه التي يتم تغزيتها من خلال سماسرتها المنتشرين في دول الخليج و غيرها من دول المهجر و يقومون بتجميع العملات الصعبة من المغتربين و المهاجرين و في نفس الوقت من مصلحتها توسع الدولة في طباعة النقود التي يتم استخدامها في مواصلة صرفهم البذخي علي النعيم و في نفس الوقت شراء العملات الصعبة. و بالتالي فهم يتحكمون لوحدهم دون سواهم في تحديد سعر شراء و بيع العملات الصعبة لعلمهم باحتياجات الدولة للعملات الصعبة و مواعيد احتياجاتها. و نكاد نجزم بأن علم مافيا السوق السوداء بأزمة الخبز و عجز الدولة عن توفير النقد الأجنبي لاستيراد القمح هو أحد الأسباب الرئيسية لإنخفاض قيمة الشراء في مرحلة الطلب الوسيط لتجميع الدولار بأسعار منخفضة وصلت في الفترة القليلة الماضية لحوالي 8.2 جنيه للدولار الواحد ليكونوا جاهزين لتوفير ما يقارب المليار دولار هو قيمة قاتورة استيراد القمح فمن المعلوم حسبما جاء في الراكوبة بتاريخ 29/6/2014م عن تصريح رئيس غرفة الصادر باتحاد أصحاب العمل السوداني وجدي ميرغنى محجوب إن فاتورة استيراد السودان للقمح في الآونة الأخيرة قاربت المليار دولار و يقدر حجم الاستهلاك الكلي للقمح بنحو 2.2 مليون طن منها نحو 1.920 طناً يتم توفيرها عن طريق الاستيراد. فإذا كان سعر طن القمح الصلب عالميا يقدر بحوالي 400 دولار للطن مع تكاليف الشحن و المناولة و التفريق فإن مافيا السوق السوداء تعلم مسبقا بأن المبلغ المطلوب لإستيراد هذه الكمية يقدر بحوالي 768 مليون دولار تقريبا. هذا فقط مثال لكن قطعا مافيا الدولار تعلم أن هنالك فواتير استيراد أخري قادمة في الفترة القليلة القادمة من أدوية و محاليل طبية و سكر و مدخلات إنتاج و غيرها من فواتير الأزمات الخانقة التي تواجهها الدولة.
أما وصفة ابن خلدون الذي يعتبر ليس فقط أب التاريخ و الإجتماع بل و الإقتصاد أيضا و الذي ظلت مقدمته الخالدة يتم تسريبها و تداولها سرا في بلجيكا و انجلترا و غيرها من بلدان الغرب عشية سقوط الأندلس و بداية انهيار الحضارة الإسلامية و تمت ترجمتها إلي معظم اللغات الأوروبية و ارتكزت أفكار آدم سميث، كارل ماركس، الفريد مارشال، كينز، ارثر لافر و العديد من علماء الإقتصاد علي ما جاء منها من أفكار و أصبحت الآن تدرس في كبري الجامعات الغربية التي تقدر فكر الرجل و تستفيد منه و لعل الجدل الواسع بين الأوساط الإقتصادية في الغرب و الشرق عن ما يصطلح عليه ب (التنمية المستدامة (sustainable development يرتكز بدرجة كبيرة علي ما جاء في مقدمة ابن خلدون من أفكار و نظريات خاصة نظرية العمران (النمو أو التنمية)، فهي بالنسبة لمافيا الإنقاذ مجرد طلاسم لم يسمعوا عنها و لم ترد في مشروعهم الحضاري لأنهم يمثلون الجانب الأسود من معادلة ابن خلدون الذي يمثل أسباب إنهيار الحضارة الإسلامية. و نسبة لأن الحديث عن ابن خلدون شيق و يطول نلخص هنا وصفته لتحقيق النمو المتمثلة في خمسة شروط فيما يلي:
أولا: إيجاد بيئة سياسية إجتماعية إقتصادية علي مستوي الحكم (السلطة) أو ما ورد في المقدمة (ترجمة فرانز روزنتال) بمصطلح(Dynasty) تقيم العدل و توحد المجتمع علي أساس الإنتماء الوطني و تحفظ الحقوق و تشيع الديمقراطية و الحرية و تحارب الفساد خاصة علي مستوي السلطة و تحافظ علي البيئة و تهتم بالتعليم و الصحة و التشجيع علي الإبداع و الإبتكار. و بما أن كل الباحثين في فكر ابن خلدون أجمعوا علي أن منهجه منهج جدلي تتداخل فيه الإفتراضات بشكل جدلي بحيث يقود كل افتراض إلي الإفتراض الآخر للدرجة التي يصعب معها التفريق بين السبب و الأثر المترتب عليه. فإن هذا الشرط الأول يؤدي جدليا إلي:
ثانيا: تحقيق النمو السكاني فعلي عكس فكر ديفيد ريكاردو و مالتوس و آدم سميث و تماشيا مع كارل ماركس تقوم نظرية العمران علي افتراض أن الإنسان هو أساس التنمية فهو لا يعترف بندرة الموارد الطبيعية و يعتبرها نتيجة سلبية لنظام سياسي و إجتماعي سلبي و بالتالي فإن النمو السكاني في ظل بيئة سياسية سليمة كما هو مذكور في النقطة الأولي هو الأساس في تحقيق التنمية. إلا أنه ربط عملية النمو السكاني ببعدها الإقتصادي و الإجتماعي الذي يشترط في المقام الأول إرتباط النمو السكاني بتوفير التعليم و التدريب و تنمية مهارات العاملين علي الإبداع و الإبتكار و كذلك بحفظ حقوق العاملين و التوزيع العادل للثروة و توفير التأمين الصحي و الإجتماعي. و هذا الشرط يؤدي بدوره إلي:
ثالثا: تحقيق التخصص و تقسيم العمل باعتبار أن الإنسان بطبعه كائن إجتماعي و باعتبار أن النمو السكاني في بيئة سياسية و اجتماعية سليمة يؤدي إلي زيادة الإنفاق (زيادة الطلب) مما يؤدي إلي إنتعاش التجارة الداخلية و الخارجية الأمر الذي يؤدي إلي زيادة إنتاج السلع و الخدمات و بالتالي تعظيم الفائض الإقتصادي علي مستوي الإقتصاد الكلي أي أن النمو في إنتاج السلع و الخدمات هو نتاج لعامل التخصص و تقسيم العمل أو ما يمكن التعبير عنه بالمعادلة (النمو في إنتاج السلع و الخدمات = (التخصص و تقسيم العمل) ƒ. و بما أن (النمو في انتاج السلع و الخدمات = النمو في الدخل) و أن الدخل يتم إنفاقه في السوق لشراء السلع و الخدمات فإن دالة النمو عند إبن خلدون تصبح (النمو في إنتاج السلع و الخدمات = النمو في الدخل = النمو في الإنفاق في السوق) وبالتالي كلما زاد النمو السكاني في بيئة سياسية و اجتماعية عادلة كلما أدي ذلك لمزيد من التخصص و تقسيم العمل و كلما أدي ذلك إلي زيادة إنتاج السلع و الخدمات و كلما أدي ذلك إلي زيادة الدخل و بالتالي كلما زاد الإنفاق علي السلع و الخدمات و هكذا تتكرر هذه الدورة باستمرار (و هو ما يعرف عند كينز ب "نظرية المضاعف" أو "Theory of Multiplier" عام 1930م و التي وردت في مقدمة بن خلدون قبل مئات القرون). و هذا بدوره يؤدي إلي:
رابعا: النمو في تنويع الإحتياجات بمعني أنه كلما زاد الدخل و زاد الإنفاق في الأسواق كما هو موضح في دالة النمو في النقطة ثالثا كلما تنوعت إحتياجات الناس و تطلعاتهم إلي سلع و خدمات أكثر تقدما و رفاهة حيث يري بن خلدون أن نمو الإنفاق أو الإستهلاك نتيجة لزيادة الدخل لا ينحصر فقط في نمو حجم الإستهلاك بل أيضا في نمط الإستهلاك حسب مراحل تطور الحضارة الإنسانية و مراحل العمران (أو التنمية) في الدولة و التي تمر حسب مقدمته بثلاثة أجيال خلال 120 عام أي جيل كل 40 عاما. و بناءا علي تعاقب الأجيال تنمو إحتياجات الناس و تطور مما يؤدي، ليس فقط، إلي زيادة الإنتاج بل تحسن نمط الإنتاج أيضا ليتناسب مع نمو الإحتياجات. و هذا بدوره يقود إلي:
خامسا: أهمية تشجيع الإبتكار و تنمية مهارات العاملين بالذات في قطاع الصناعة و الميكنة الزراعية و في قطاع الحرفيين و المهن الحرة و الصناعات الأسرية الصغيرة و الحرص علي امتلاك التكنلوجيا و تدريب العاملين عليها باعتبارها شرط مفصلي لتحسين نمط الإنتاج ليتماشي مع النمو في نمط إستهلاك السكان.
قضييتين لم تردا كافتراضات لذاتها في نظرية العمران و لكن كقضايا مكملة و مساعدة يتمثلان في:
الأولي: نموزج بن خلدون للضرائب و الذي عُرف خلال القرن التاسع عشر بنموزج أو منحني لافر الذي تم اقتراحه من قبل عالم الإقتصاد الأمريكي آرثر لافر الذي اعترف فيه بأنه استقي فكرته من أفكار بن خلدون في مقدمته. و برغم أن عملية شرحه رياضا و بيانيا تعتبر معقدة نسبيا إلا أن مفهومه الوارد في مقدمة بن خلدون يشير إلي أنه أولا: ضد فرض الضرائب الباهظة و يعتبرها أحد أهم أسباب إنهيار الحضارات و ثانيا: أنه قدم نموزجا يقضي بفرض ضرائب زهيدة علي المنتجين لتشجيعهم علي الإنتاج فتزيد بالتالي أرباحهم و فوائضهم فتتوسع استثماراتهم أفقيا من حيث الحجم و النمط فتزيد بذلك موارد الدولة من الضرائب علي المستوي الجمعي.
الثانية: هي الإهتمام بسلامة البئية و نظافتها كشرط أساسي للنمو علي عكس ما فعلت و تفعل طغمة الإنقاذ الفاسدة التي عبّر عنها أحد ظرفاء السودان بتعبيره اللطيف (بأن الجماعة ما خلو شجرة حايمة ما قطعوها و أن القرود في الدندر قاعدة قدام القطاطي و خالفة رجليها ما لاقية ليها شجرة تطلع فيها).
هذا هو الفكر الإسلامي الذي نعرفه و قرأنا عنه و استفادت منه كل الدول التي وصلت لمراحل متقدمة من النمو ليس لأن من قدموه للبشرية مسلمين و لكن لأن الفكر و المعرفة هي رصيد لكل البشرية و أن ما حدث في بلادنا خلال ال 25 عاما الماضية في ظل حكم الإنقاذ لا يمكن توصيفه إلا بالتخريب الحضاري أو الفوضي الحضارية.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.