فى الشأن العام بسم الله الرحمن الرحيم د. سعاد إبراهيم عيسى صناعة الأخطاء ورعايتها إذا أريد لأي مشروع أن يبلغ كل غاياته تماما, لابد من أن يخضع لخطوات محددة ولازمة في مقدمتها دراسة لجدواه توضح ان كان ذا جدوى تستحق كل ما يبذل من جهد ويصرف من وقت ومال في تنفيذه؟ يلي ذلك عملية متابعة لخطوات سيره لأجل تذليل كلما يعترضها من عقبات وفى حينها. وبعد الوصول به لغايته, يتم إخضاع ما خرج به من نتائج إلى عملية تقويم للكشف عن أي اعوجاج فيها لتقويمه. الملاحظ أن الكثير من المشروعات التي يتم تنفيذها هنا غالبا ما يغض الطرف عن تلك المطلوبات الهامة, ويتم الاعتماد على طريقة المحاولة والخطأ المهدرة للوقت والجهد والمال والتي لا زالت معتمدة. ومن أكثر المشروعات التي نفذت بالولاية دون الالتزام بتلك الخطوات المطلوبة عاليه, مختلف المحاولات التي أجريت لمعالجة مشكلة المواصلات فقادت إلى المزيد من تعقيدها. فقد بدأت تلك المحاولات بفكرة نقل وسائل المواصلات من موقف أبو جنزير إلى موقع آخر تحدد له أن يكون بساحة شاسعة تابعة للسكة حديد, يتم تأهيلها لتصبح موقفا عاما أطلق عليه اسم موقف كركر. فقد تميز موقف أبو جنزير بموقعه في قلب الأسواق والذي يقع على مرمى حجر من مختلف مؤسسات الدولة الأمر الذى ييسر عملية الوصول إليها من جانب العاملين بها. لقد تناولت الكثير من الأقلام خطل فكرة إقامة ذلك الموقف الذى ستتكدس بداخله مختلف وسائل المواصلات, والذي سيصبح عبأ ماديا إضافيا على المواطنين, لكن يبدو ان الأمر كان محسوما خاصة بعد أن فاحت منه روائح فساد لم تتم إزالتها ولم يتم نفيها حتى اليوم. فالموقف الجديد وقبل أن يكمل عامه الأول بدأت عوراته في التكشف, حيث احتقنت ساحته بمياه الأمطار مضافا إليها مياه الصرف الصحي, وغيرها من العورات, بينما الأهم من كل ذلك ان حركة وسائل النقل الداخلة والخارجة من ذلك الموقف قد عملت على عرقلة وتعطيل الحركة بكل الطرق المؤدية إليه وبصورة غير مسبوقة. كما وان شارع الحرية أصبح مكتظا بالجماهير القاصدة الموقف والخارجة منه وفى طريقها إلى غيره. ولا داعي لإعادة الحديث عن المشاكل البيئية التي خلقت بالأماكن المحيطة بالموقف قادت إلى ان يهجر بعض المواطنين ممن يقطنون بالقرب من الموقف وغيرهم هجرهم لدورهم والانتقال إلى غيرها هربا من مشاكل الموقف المتعددة. قلنا حينها ومن بين ما قلنا انه لا توجد مواقف عامة للمواصلات الداخلية بأى من دول العالم, بل المعروف والمتبع هو أن تسير وسائل المواصلات في حركة دائرية تبدأ من موقع محدد لكل منها تنطلق منه لتغطى كل الأماكن المفروض عليها تغطيتها بالتوقف عندها فقط , ومن بعد تعود إلى نقطة البداية لتبدأ جولة جديدة. ولا تتوقف هذه الخطوط إلا بعد انتهاء ساعات العمل اليومي المحددة وفى الأماكن المحددة لذلك. ورغم ان بعض المسئولين قد ابدوا تجاوبا مع ضرورة استخدام الخطوط الدائرية, لكننا فوجئنا وبعد أن أثبتت فكرة المواقف العامة للمواصلات الداخلية فشلها الذريع, بأن الولاية لن تتراجع عن الخطأ السابق بل ستعمل على تكراره. فقد أعلنت بأنها بصدد إقامة موقف آخر بموقع لا يبعد كثيرا من سابقه, أسموه موقف شرونى. حقيقة وفى هذه المرة, فقد وقف غالبية سكان المنطقة المحيطة بالموقع ضد الفكرة وعبروا عن رفضهم بكل الطرق المتاحة كتابة وشفاهة وبما في ذلك الوقوف بالموقع احتجاجا. لكن المسئولين أصموا آذانهم واستغشوا ثيابهم واستكبروا استكبارا, اذ لم يتم الالتفات لكل تلك الاحتجاجات التي أعلنتها جماهير المنطقة, ولا الآراء التي تناولتها بعض الصحف والنظر في جدواها. ويبدو ان الأمر بالنسبة لفكرة هذا الموقف كان محسوما أيضا. والمواقف هذه ولعل الجميع قد شاهدها, هي عبارة عن ساحات تتراص وتتكدس بداخلها وسائل المواصلات بينما يتكدس المواطنون بالطرقات انتظارا لمقدمها. وقد تقدمت باقتراح سابق لأجل الكشف عن خطل فكرة هذه المواقف قياسا بالخطوط الدائرية. حيث اقترحت تكليف شخص أو مجموعة أشخاص مؤهلين للقيام بحصر أعداد البصات والحافلات المتراصة بكل من تلك المواقف وبالمدن الثلاث, ثم حصر عدد الساعات التي تقضيها كل وسيلة وقوفا بأى منها يوميا, ومن ثم الوصول إلى جملة الساعات المهدرة يوميا ونسبتها لساعات العمل اليومي وفى علاج المشكلة. حينها سيصل الجميع إلى ان مشكلة المواصلات التي استعصت على كل الحلول السابقة لا تكمن في قلة وسائلها ولكن في سوء إدارتها. والولاية وكمبرر لإعادة صناعة الخطأ بإنشاء موقف شرونى, أعلنت بأنه لن يكون موقفا كسابقيه ولكنه سيصبح محطة ربط سريع, يعنى أن يهبط المواطن من أي وسيلة مواصلات داخل الموقف ليمتطى غيرها مباشرة دون أي توقف. وبسبب ذلك الافتراض لم يتم العمل على توفير اى خدمات ضرورية يحتاجها المواطن كالحمامات مثلا أو المظلات اللازمة كانت لفصل الصيف وشمسه القائظة أو الخريف وأمطاره المنهمرة, وأخيرا وصل المسئولون إلى قناعة بالا يمكن ان يصبح الموقف محطة ربط سريع كما بشروا به لعلمهم بان العجلة من الشيطان, لذلك وبدلا من معالجة الخطأ الرئيس بإزالة الموقف نهائيا. قاموا بعملية تكملة لاحتياجات المواطنين داخل الموقف بل وجعلته معرضا لكل وسائل النقل من حافلات وبصات الولاية بداخله وأمجاد وتاكسي ولم يبق إلا الرقشات لتكتمل الصورة,.بخارجه. والخطوط الدائرية التي تعمل بها كل الدول داخل مدنها لا تحتمل الاعتماد على طريقة المحاولة والخطأ بل تحتاج إلى دراسة عميقة لكيفية تسييرها ومن جهات الاختصاص بحيث تتمكن من خدمة كل أهدافها التي من أهمها ان يحصل المواطن على وسيلة المواصلات التي يحتاجها ميسرة بالقرب من مسكنه أو موقع عمله. كما وان المواطن الذى يرغب في الذهاب إلى اى موقع بالولاية يمكنه ان يفعل ذلك دون حاجة لكي يهاجر إلى اى موقف عام كما يفعل الآن. ويبدو ان تكدس عربات التاكسي والأمجاد بجانب موقف شرونى هي لأجل حمل المواطنين إلى الأماكن التي يرغبون في الوصول إليها بسبب غياب الخطوط الدائرية. والولاية في سعيها لتجميل العاصمة, لا ندرى ان كانت لديها خطتها ورؤيتها الخاصة لما يجب ان يحدث ليقود إلى ذلك الجمال الذى تنشده, أم أنها ستترك ذلك لطريقة المحاولة والخطأ خاصة عندما تقوم بتكوين لجان يترك لها الأمر لتضطلع به وفق رؤيتها ورأيها؟. فقد ظللنا نعلم ومنذ سنوات عدة, بان هنالك جهة ما أسمت نفسها (هيئة ترقية السلوك الحضري) تقوم هذه الهيئة بتنفيذ بعض الأعمال ببعض الطرق الرئيسة بفهم أن ما تفعله هو تجميلا لتلك الطرق, كوضع بعض المجسمات التي يتم تصنيعها بمواد نرى أنها لا تليق بفكرة التجميل من فريب أو بعيد, بجانب وضعها في غير ما يناسبها من أمكنة. وقد كتبنا أكثر من مرة حول هذه الهيئة, بداية بمفهوم اسمها وعدم صلته بما ترمى إليه مهمتها. فقلنا ان السلوك هو فعل يقوم به الإنسان طبعا, فان كان سلوكا متحضرا يصبح الحديث عن ترقيته بلا معنى, كما وان الهيئة لا تسعى لتجميل سلوك المواطنين بقدر ما هي معنية فقط بتجميل المدن, والسؤال الأهم ان كانت هذه الهيئة تقوم بأداء عمل محدد درست جدواه من جانب الولاية قبل الشروع في تنفيذه أم لا؟ وبالطبع لا نتوقع ان نجد إجابة على ذلك السؤال السبب الذى يدفعنا لتكراره أكثر من مرة. فبالنسبة إلى اسم الهيئة وما أثير حول معناه وبرغم خطاه نؤكد انه لا زال قائما بذات لغته القديمة, ولا ندرى ان كان ما شاهدنا من مخلفات وقت مضى أم إصرار واستمرارا في تحدى اللغة, كما ولا ندرى أيضا ان كانت الهيئة قائمة أم لا؟ خاصة وقد علمنا بان هنالك لجنة أخرى مكونة من سبعين شخصا قام بتشكيلها السيد والى الخرطوم قبل عام أو أكثر, أوكلت لها مهمة تجميل العاصمة هي الأخرى ودون اى إشارة إلى هيئة ترقية السلوك الحضري ومهمتها ان كانت لا زالت قائمة وفى وجود اللجنة الجديدة؟. السيد الوالي وبعد تكوين اللجنة السبعينية, ذكر بأنه قد وفر لها (مليون شجرة) لتقوم بغرسها بالولاية, ولا نشك في أن لو تم غرس ذلك الكم الهائل من الأشجار وبصورة سليمة بطرقات الولاية, في ان تحدث تغييرا كبيرا في مناخها, بحيث يقلل ظل تلك الأشجار مستقبلا من سخونة صيفها القائظ الذى يبحث فيه كل مواطن عن ظل يحميه من لهيب شمسه. لكن وحتى اليوم لم نشاهد أثرا لتلك الأشجار بالكثير من الطرقات التي تحتاجها, كما ولم نسمع عما تم في أمر التجميل داخل المدن الثلاث. إذ لن يقتصر التجميل على غرس الأشجار بل يجب ان يسبق كل ذلك عملية النظافة التي في غيابها لا يمكن اى حديث عن تجميل. وقصة النظافة هذه هى نقطة الضعف التي استعصت على المعالجة حتى يومنا هذا. وبالطبع نعلم ان هنالك جهد بذل في تجميل كورنيش النيل وعلى امتداده بالولاية, لا ندرى ان كان مرجعه لتلك اللجنة أم غيرها؟. كما وان علاقة هذه اللجنة في أمر تجميل الولاية وفى وجود المسئولين عن ذلك الأمر بكل مدينة أو محلية لم يكن واضحا. قصدت من كل ذلك ان أشير إلى بعض القرارات كثيرا ما تصدر دون إخضاعها للدراسة اللازمة التي تقود إلى الانتفاع بنتائجها وبصورة كاملة. خلاصة القول, ان أرادت الولاية ان تعمل لأجل تجميل العاصمة حقا, فعليها ان تعطى الخبز لخبازه. فهنالك العديد من الشركات المتخصصة في مجال تجميل المدن والتي لا تقبل على تنفيذ عملياتها قبل إجراء الدراسة اللازمة لها, ومن بعد تشرع في انجازها وعلى الوجه الأكمل والمطلوب. فان عملت الولاية بهذا الرأي, على الأقل وبموجب ذلك الخيار العلمي الصحيح, تكون قد أعفت الولاية من عمليات تعليم الحجامة على قفاها, التي ظلت تمارسه عليها, لجان كانت أو أفراد, ووفق أمزجتهم وازواقهم الخاصة, وعبر طريقة المحاولة والخطأ التي أورثتها الكثير من أوجه القبح, وبلا مبرر عدا الإصرار على عدم احترام الرأي الآخر.