لم يتم إجماع على كاتب من لدن كتاب السيرة والروائيين ومخرجي الأفلام الوثائقية والتخييلية، كما حصل على داشيل هاميت، الروائي الأمريكي، الذي تناولت حياته سير ذاتية وغيرية وروايات وأفلام منها فيلم أخرجه كوبولا، وآخر فاندرس. لقد استطاع هاميت عبر خمس روايات، وأكثر من خمسين قصة قصيرة أن يغير ملامح الأدب البوليسي، حين ابتكر الرواية السوداء. فابتداء من سنة 1922، وعلى امتداد اثنتي عشرة سنة قدم للقراء بطلا جديدا، المحقق الخاص الذي يحارب الجريمة المنظمة والسلطة. وضمن الاحتفاء ذاته، صدر عن دار نشر (Allia) بالفرنسية كتاب «تحقيقات»، ترجمته عن الإنكليزية ناتالي بونا، ويضم ثلاثة محاضر لاستنطاق الكاتب الشهير ما بين 9 يوليو/تموز 1951 ومارس/آذار 1953.. سأل صحافي، سنة 1957 هاميت لم يحتفظ بثلاث آلات كاتبة ببيته فأجاب: «كي أذكر أنني كنت كاتبا». لعل الجواب ينضح مرارة كما يضج ثورة لكرامة انتهكتها الحكومة الأمريكية حين اعتدت على حرمة كاتب، وأذلته فتوقف عن الكتابة، لأن قوانين البلد لم تستطع أن تحميه... وتشير بونا إلى أن النقد أحيا في الكاتب العالم الواقعي الذي ابتكره، وأسلوبه الحاد وإيقاع حركته، واستعماله العامية والحوارات والقوارص، ولم يكن هاميت كاتبا كبيرا بل كان مناضلا نشيطا إلى جانب اليسار الأمريكي.. انخرط منذ أواسط الثلاثينيات في كل المعارك الرمزية لزمانه، من الحصول على الحقوق المدنية للزنوج إلى النضال ضد الفرانكاوية والنازية. لكن منذ 1947خلقت الحرب الباردة نوعا من الاشتباه العام نحو الشيوعيين أو من يعتقد أنه شيوعي. وتلك بداية «مطاردة الساحرات»، التي جسدتها لجنة الأنشطة المعادية لأمريكا التي عانى من حملتها المثقفون، ورجال السينما خاصة. فكل من اشتبه بكونه شيوعيا، ورد اسمه باللائحة السوداء، ففقد عمله وتم التحقيق معه.. وقد مست مطاردة السحرة مئات الأشخاص. وباعتبار هاميت رئيس صندوق كفالة الحقوق المدنية، وهي منظمة شيوعية نشيطة جدا، فقد كان شخصية مكشوفة، فقد تم استدعاؤه مرتين للمثول أمام المحاكم، الأولى سنة 1951 وحوكم بستة أشهر نافذة، ثم سنة 1953ليحقق معه السيناتور جوزيف ماكارثي، الذي ارتبط اسمه بهذه المرحلة المشؤومة. وهكذا سحبت كتبه من المكتبات، ووجب تدخل الرئيس إيزنهاور شخصيا، معلنا أن روايات هاميت لا تمثل بالنسبة إليه نشاطا هداما، لتعود كتبه وتحتل مكانها على الرفوف. وتشير بونا في مقدمتها إلى أنها تنشر وقائع هذه الشهادات الثلاث، ومنها نص جلسة مغلقة لم ينشر من قبل، كشهادة عن أخلاق الكاتب الشخصية، الرجل الحر الذي كانه، وهو يرفض أن يكون واشيا. ولم يثر صمته أمام القضاة تعجب أحد. فهاميت المخلص لنفسه، قام بما وجب القيام به، من دون تذمر. لقد انتهت حياته الأدبية سنة 1934، وبقي أمامه، كما يقول الناقد جان بيير دولو، «أن يعيش خلال عشرين سنة رعب/عذاب الصفحة البيضاء، ونظام العمل المتسلسل بأستوديوهات هوليوود والكحول والمرض والحرب والالتزام السياسي، والإهانة والجور والسجن والصراع ومعنى كرامته المستعادة». قدم داشيل شهادته الأولى شهر يوليو/تموز 1951 باعتباره شاهدا أمام قاضي محكمة الاستئناف في نيويورك، سيلفستر ريان، وآزره محاميان. سئل هاميت، في البداية، إن كان واحدا من الأعضاء الخمسة لصندوق كفالة الحقوق المدنية، فرفض الإجابة لأن الجواب يمكن أن يلحق به ضررا، وهو بذلك يمارس حقا يخوله له الدستور الأمريكي (يمكن لأي مواطن أن يرفض الشهادة ضد نفسه في قضية جنائية). وعرضت المحكمة وثيقة حكومية تعود إلى سنة 1949 تشهد أن مسيري الصندوق وضعوا كفالة قيمتها (260.000) دولار لفائدة الأحد عشر قائدا شيوعيا المحكومين بقانون (Smith Act)، القاضي «بمتابعة كل شخص أو جمعية تدعو إلى قلب أو إسقاط حكومات الولاياتالمتحدة بالقوة والعنف». رفض داشيل أن يجيب على سؤال أنه اطلع على ملف المحاضر هذا من قبل، وكون الحرفين الأولين من اسمه، المجاورين لأسماء رفاقه هما لاسمه، رغم أوامر القاضي المتكررة. ثم سئل هل تآمر أو ساعد أو نظم عملية عدم مثول (روبير تومسون، وجلبير غرين، وجيس هول وهنري وينستون) أمام المحكمة. فقد اعتقل هؤلاء الأربعة وفق قانون سميث، وتم اطلاق سراحهم 1949، لكن هؤلاء لم يمثلوا أمام المحكمة (1951) إذ هربوا. ورفض أيضا الإجابة على كل الأسئلة التي طرحت عليه (هل التقى روبير تومسون، هل تربطه علاقة بغرين، هل التقى غيس هول ووينستون، ومكان وجود الأربعة الفارين من العدالة، والاعتراف بصفة رئيس الصندوق..). ثم هدد القاضي الكاتب أنه مسؤول كمسير للصندوق، وضامن لمثول الأربعة الذين استفادوا من السراح المؤقت بدفع الكفالة، وعليه أن يكشف عن مكان وجود الفارين أو سيعرض نفسه لأقصى العقوبات.. ثم طلب من هاميت أن يعرض على المحكمة سجلات حسابات صندوق الكفالة الخاص في نيويورك باعتباره رئيس ومسير هذا الصندوق، فكان الرفض للسبب الآنف الذكر ذاته.. وقد رفض محاميا هاميت طرح أي سؤال عليه، حين طلبت ذلك منهما المحكمة.. وحين عجز ممثل الحق العام عن الحصول على جواب، طلب من المحكمة أن تعلن أن الشاهد متهم بإهانة القضاء، وهو ما تبنته المحكمة ونطقت به.. وتم الاحتفاظ بالكاتب رهن الاعتقال في انتظار جلسة المساء على الساعة السابعة والنصف. وفي هذه الجلسة حكمت المحكمة على الكاتب بستة أشهر سجنا. ورد القاضي على أحد المحاميين أن «لجوء داشيل إلى الدستور ليس في محله وغير مبرر». الجلسة الثانية وكانت مغلقة، انعقدت أمام اللجنة السيناتورية الصغرى الدائمة الخاصة بتحقيقات لجنة العمليات الحكومية مارس/اذار 1953 بحضور عدد من السيناتورات، ومحقق، وموثق رئيسي، فسئل عن انتمائه إلى الحزب الشيوعي فرفض الإجابة، ثم سئل هل كتب قصة عن قضية اجتماعية فأجاب بالإيجاب، فسئل إن كان شيوعيا عند كتابتها، وهل يعرف أعضاء من الحزب الشيوعي، وما هي نسبة حقوقه ككاتب، وهل دفع مالا لهذا الحزب، فاحتمى بالجواب ذاته.. الجلسة الثالثة انعقدت صباح الغد، من السنة ذاتها، وترأسها ماكارثي وشارك في التحقيق. سئل من جديد عن علاقته بالحزب الشيوعي، وهل كتب كتبه وهو عضو به، وهل ما يزال عضوا به، وسأله ماكارثي عما إذا ذهب بعض ما حصله من مال، من شراء وزارة الخارجية الأمريكية لكتبه، إلى صناديق الحزب الشيوعي.. واعتبرت المحكمة أن رفض الكاتب الإجابة محتميا بالدستور يجعلها تحكم وفق ملاحظاتها واستنتاجاتها المستخلصة من تصرفه.. وقال ماكارثي إن «بودينز»، رئيس التحرير السابق للجريدة الشيوعية «DailyWorker»، «أكد أنك واحد من الذين وظفهم الحزب الشيوعي للترويج للقضية الشيوعية، وأنك معروف كواحد من أتباع العقيدة الشيوعية». ظلت المحكمة تطرح الأسئلة ذاتها، وتشبث هاميت بالجواب ذاته، يرفض الجواب لأنه قد يعرضه للعقوبة، وفي ذلك تشبث بمادة فصل من دستور البلاد حتى يبدو الأمر فصلا من مسرحية «في انتظار غودو» يطبعه العبث بميسمه.. * كاتب مغربي عبد العزيز جدير* القدس العربي