'مرحبا بكم في أول كيلو متر حرية'، بهذه العبارة تستقبلك ساحة جامعة صنعاء الجديدة، المكان الذي خيّم فيه المتظاهرون المطالبون بإسقاط النظام بصنعاء والذي أطلقوا عليه تسمية (ساحة التغيير) أو (جمهورية المتظاهرين) كما يحلو لهم تسميتها والتي خلقت حياة جديدة لساكنيها ولروادها من المتظاهرين بكل ما تحمله الكلمة من معنى. خيام المتظاهرين، تتوزع على جوانب الشوارع المحيطة بالساحة، وبالذات شارع العدل، شارع الحرية، شارع الدائري من جانبيه من جهة معسكر الفرقة الأولى مدرع إلى جولة القادسية، والمتظاهرون يملأون بقية المساحات في هذه الشوارع التي أصبحت مقرا دائما للمتظاهرين المطالبين بإسقاط النظام، ومأوى قد يطول بهم المقام فيه. الحياة في هذه الساحة مفعمة بالحيوية على مدار الساعة، المتظاهرون يتناوبون النوم كما يتناوبون السهر، يقظين لأي هجوم قد يطرأ على ساحتهم من قبل قوات الأمن أو من قبل المسلحين المدنيين الموالين للنظام الذين يطلقون عليهم (البلاطجة) الذين يحيطون بهم من كل صوب. الطعام والشراب يصل المتظاهرين يوميا من مدينة صنعاء كما من الأرياف المجاورة لها، من المتعاطفين مع المتظاهرين، كما من المؤيدين لهم، بالإضافة إلى ما تزودهم به المطاعم القريبة من ساحة المتظاهرين، حيث كانت المستفيد الأكبر من هذه التظاهرات التي خلقت نشاطا اقتصاديا غير مسبوق في هذا المكان. تحوّل المكان على اتساعه إلى ما يشبه مخيم اللاجئين، مع فارق أن هذا المكان مهدد بطلقات الرصاص الحي والقنابل المسيّلة للدموع وقنابل الغازات، وكذا الأحجار والعصي والهراوات التي تؤرق نوم القاطنين في هذا المكان كل ليلة. المتظاهرون المطالبون بإسقاط النظام، من مختلف الشرائح الاجتماعية ومن مختلف الأعمار، شبابا وشيوخا، طلابا ومعلمين، عاطلين عن العمل وموظفين، اطباء ومهندسين، جنود وضباط ومتمردين عن النظام، متعددي الولاءات والانتماءات السياسية ويجمعهم هدف واحد فقط وهو (إسقاط النظام). منصة المتظاهرين في قلب ساحة التظاهر أمام بوابة جامعة صنعاء الجديدة أو (ساحة التغيير) كما يحلو لهم تسميتها، تصدح بكل ما هو محظور سياسيا في غير هذا المكان، تصدح علانية وبأعلى صوت ب(تغيير النظام)، تطالب وعبر مكبرات الصوت ب(الرحيل) للرئيس علي عبد الله صالح، تعلن بجرأة وبدون أي خوف بأن اللعبة انتهت (Game over)، تقذف النظام بأقذع السباب وبأفضع الكلمات التي لا يجرؤ أحد على نطقها في غير هذه الساحة. ساحة التظاهر أصبحت مأوى للجميع، وملاذا للمظلومين والمقهورين والناقمين على النظام حيث تتوفر الحرية في هذه الساحة بمساحة لا حدود لها، وحيث سقف الحرية مخلوع لا يحده مكان، ربما تجاوز مساحة الحرية في ركن هايدبارك بلندن. الكل هنا في هذه الساحة يدلي بدلوه بالطريقة التي يراها وبالوسيلة التي يتقنها وبالأداة التي يتناسب معها، وأصبح الداخل لهذا المكان محروس بزخم المتظاهرين، حيث لا سلطة في هذه الساحة غير سلطة المتظاهرين، ولا رأي في هذا المكان غير رأي المطالبين بإسقاط النظام. في هذا المكان ذابت الفوراق الاجتماعية وتلاشت المناصب الإدارية والمواقع القيادية وضمّت الجميع خيم بالية متهالكة، تم شراءها من هنا أوهناك، أو تم تسريبها من هذا المعسكر أو ذاك، وجمعهم رغيف العيش الجاف الذي يصلهم من ربات البيوت اللواتي حفرن على واجهته عبارة (الشعب يريد إسقاط النظام)، في رسالة معنوية للمتظاهرين تدفعهم نحو الصمود حتى سقوط النظام. المستشفى الميداني، الكائن بالقرب من منصة الخطابات، هو الآخر يبرز حجم التضحيات التي يقدمها المتظاهرون كل يوم، عشرات الرقود من الجرحى في أرضية الساحة المخصصة للمستشفى الميداني، ويصل عددهم أحيانا بالمئات عقب وقوع أي مواجهة مع قوات الأمن التي تستخدم القنابل الغازية والمسيّلة للدموع، أو مع المسلحين الموالين للنظام الذين يستخدمون السلاح الحي والخناجر والهراوات والحجارة، في محاولة منهم لاقتحام المكان كل ليلة. وفي مكان غير بعيد عن هذه الساحة المناهضة للنظام، يقبع مؤيدوا النظام في ساحة ميدان التحرير، بخيام كبيرة امتلأ بها المكان، وبوسائل إقامة متوفرة فيها كل الإمكانيات، ووجبات تجلب من أفضل المطاعم، ومصاريف جيب يومية تعادل أفضل عائد يومي لكل نزيل في هذا المكان، حيث يصرف عليهم يوميا ما يتجاوز 100 مليون ريال يمني يوميا (الدولار يساوي 220 ريال) حسب المصادر المقربة من المنظمين لهذه المهرجانات، فيما يرتفع هذا الرقم إلى أكثر من الضعف خلال ايام الجمعة، لكثرة الحضور الذين يحيون المهرجانات المؤيدة للنظام. مخيمات المؤيدين للنظام لم تقتصر على ميدان التحرير بل بدأت بالانتشار على أغلب مداخل العاصمة صنعاء والمناطق المحيطة بمكان اعتصام المتظاهرين ضد النظام، لا لهدف سوى إدخال الرعب في قلوب المتظاهرين أو ربما الانقضاض على المتظاهرين بمختلف أنواع الأسلحة التقليدية، كالهراوات والحجارة والأسلحة الحيّة، كما حصل خلال الأيام الماضية التي حاولوا خلالها اقتحام مكان المتظاهرين بصنعاء بمساندة قوات الأمن التي قامت هي الأخرى بإطلاق القنابل المسيلة للدموع والغازية وغيرها. وتشهد كل يوم جمعة كثافة كبيرة من الحشود من قبل الجانبين في مبارأة يتنافس فيها الطرفان على جمع أكبر قدر ممكن من الأنصار والمؤيدين، وكأن القدرة على الحشد أصبحت المعيار الأساس للحصول على الشرعية من الشعب وعلى صوابية الموقف وسلامة النهج الذي ينتهجه كل طرف منهم. وتحولّ الجزء الأكبر من العاصمة صنعاء إلى أماكن مغلقة للمتظاهرين من الجانبين المناهضين والمؤيدين للنظام، حيث أصبح شارع الزبيري يقسم صنعاء إلى (فسطاطين) الأول وهو الواقع شمال شارع الزبيري وهو مكان تجمع المتظاهرين ويشمل أحياء صنعاء القديمة والجديدة والتحرير حتى منطقة الحصبة والتي أصيبت فيها الحياة العامة بالشلل التام، فيما القسم الآخر هو الواقع جنوب شارع الزبيري والذي يتضمن الأحياء الراقية والذي لم تشمله عمليات التظاهر، ولكن الفارق بينهما أن الأحياء الراقية أصبحت محاطة بالخرسانات الاسمنتية لدرجة الازعاج، بحيث تحولت إلى ما يشبه الثكنات العسكرية.