بالصدفة البحتة علمت أن مباراة في كرة القدم سوف تجمع الأحد بين فريقين من تونس ومصر. تملكني الغم، أول الأمر، خوف أن تنسف المباراة جميع ما بناه الشعبان الشقيقان معا أثناء الأشهر الثلاثة الماضية، إذا حدث أن انجرت جماهير الكرة إلى ما قد يكدر صفاء المحبة الحقيقية التي برهن الشعبان العربيان أن كليهما يمحضها للآخر. إذ لم يكن أبهج للعين من أن ترى تلك المظاهرات والاعتصامات التي يرفع فيها المصريون الأعلام التونسية والتونسيون الأعلام المصرية دعما متبادلا للثورتين وتلهفا على سلامة الشعبين وخفقان قلبين في صدر عربي واحد. إلا أن مما غذى الأمل في إمكان أن يثبت المصريون والتونسيون على عهد المحبة هو ما لاحظته أخيرا خلال زيارتين إلى تونس من 'تسييس' كامل للأحاديث والنقاشات في المقاهي الشعبية ومن إعراض جماهيري غير معهود عن كرة القدم ورهاناتها وحساباتها. ولا شك أن هذا من أهم النتائج الإيجابية غير المقصودة للثورة: التحرر من دكتاتورية كرة القدم وما يرتبط بها من إرغامات التعصب المحلي والتكسب التجاري، أو وضع الشغف بهذه اللعبة الشعبية في النصاب الصحيح الذي لا ينفي، بل إنه قد يشجع، اهتمام المواطن بالشأن العام. ولعل من أجمل ما أتت به الأنباء، لأنه من أبرزها دلالة على ما بين الولع الكروي والوعي السياسي من إمكان الاتصال، هو إعلان نجم فريق إنترميلان الإيطالي صامويل إيتو تأييده للثورات الشعبية في تونس، ومصر وليبيا وإشادته بها لأنها 'حققت نجاحا كبيرا' بإسقاط 'الأنظمة الحاكمة الفاشلة'، على حد تعبيره. وقال اللاعب الكاميروني الأصل في تصريحات لجريدة 'الكوريري ديلي سبورت' الإيطالية الأربعاء الماضي إنه يرى، بصفته ممثلاً للأفارقة في القارة الأوروبية، أن ما حدث في البلدان الثلاثة حق طبيعي لها لأن شعوبها كانت تستغيث وهي تتحرق توقا إلى الحرية والديمقراطية. ونادى مهاجم إنترميلان الايطالي بوجوب أن تأتي أنظمة جديدة أفضل من البائدة وألا تتولى حكم هذه الدول نخب تكون مجرد امتداد للماضي أو نسخة أسوأ منه. تصريحات سياسية رفيعة الطراز. من النادر، بل ربما من غير القابل للتصور، أن يدلي بها لاعب في كرة القدم. لكن نجم كرة القدم الفرنسي (السنغالي الأصل) باتريك فييرا قد أتى بمثلها، بل ربما بأجرأ منها، عندما قال في تصريحات لجريدة لوموند في 14 كانون الأول (ديسمبر) الماضي إنه يتألم لحال الشعوب الإفريقية التي تقاسي المآسي والنقم وتتخبط في الفقر وفي الخوف من أنظمة تسلطية لا ترحم. وضرب فييرا بساحل العاج مثلا. ثم قال، في إشارة إلى استفحال الفساد والجشع ونهب المال العام، 'إن هنالك في بعض الدول الإفريقية أقواما متنفذين لا يكتفون بالتهام كل ما يوجد على المائدة، بل إنهم يلتهمون المائدة ذاتها'... يلتهمون المائدة ذاتها خشبا ومسامير! إلا أن أروع آية في مجال الاتصال بين التميز الرياضي والوعي السياسي قد تجلت لي شخصيا في لقاء جمعني في صيف 2009 في الدوحة بالكابتن طارق ذياب. كان طارق نجم الكرة الألمع في تونس السبعينيات. كان يستوطن أحلام جيلي رياضيا بمثلما كان يستوطنها عبد الحليم غنائيا. أستاذية في اللعب وأناقة في الأداء. ومواعدات مع عزف الكونسرتو العذب رغم واجبات القيادة الأوركسترالية الهادفة. وفوق ذلك كله، سيرة حسنة في الملاعب وخارجها. أمطرته بأسئلة عن الزمن الجميل (إذ إني لم أتجاوز، كرويا، أفق السبعينيات) فأجاب بدقة بالغة عن الأسماء والأحداث. لكن الحوار سرعان ما تحول إلى السياسة. فاجأني الرجل بأنه مسكون بالهم الوطني. تحدث طويلا عن مفاسد دكتاتورية بن علي وعن النهب الممنهج الذي كانت ترتكبه عصابة 'الطرابلسية'. عبر عن ألمه لما آلت إليه حال تونس آنذاك بسبب الاستبداد والفساد. وروى قصة رفضه مصافحة وزير الرياضة. قلت في نفسي: ما أظلم طاغية قرطاج! لقد أبى، لفرط ظلمه، إلا أن يكون وجع السياسة هو المهيمن على أول لقاء يجمعني بأحد أشهر أبطال الرياضة في تاريخ بلادي. عندما خرجنا من المقهى قلت لطارق ذياب: أفتذكر قولك، في برنامج تلفزيوني تونسي، بأنك من أسرة متواضعة لكن والدتك ربتك وإخوتك على 'الكرامة والشهامة'؟ أجاب: أي نعم. فعقبت: لقد كان ذلك منك قولا وطنيا وسياسيا بامتياز. القدس العربي