أن هنالك أسئلة قلقة ومقلقة تطرح نفسها وكلما وجدنا إجابات على التساؤلات القديمة قفزت أسئلة جديدة أكثر تعقيداً وسيظل خريف الحياة ينتج المزيد بعد كل حصاد. صحيح أن البشر يصنعون تأريخهم بأيديهم ولكن قط ليس على هواهم ويواجهون ظروف وتحديات ليست من إختيارهم. البشر في معركة متجدٌّدةٍ مع الواقع في كل منعطف تتجدد المواقف وتحدث مستجدات هي دائماً الأعمق. والسؤال الذي يطرح نفسه هو ما هي أشكال التحالفات القادمة؟ إنه سؤالٌ ملِّحٌ ويتطلب نوعاً من المقاربة النظرية. لاشك أن هنالك أسئلة عديدة تزعزع راحة البال ربما لأن البعض منا لديه ترسانة قديمة من ذخائر المعرفة والإجابات الجاهزة المريحة وهكذا يظل البعض مخلصاً لما توصل إليه من معارف أو ربما لم يتبادر إلى أذهاننا ضرورة التفكير وإستباق الحاضر. عموماً الحياة لا تتوقف ولا تنتهي عند محطة. إنها تنتج كل يوم جملة من المفاهيم والتصورات، ويصبح خلود الأشياء جزءاً من المعتقدات في خيال الإنسان وكذلك تصبح الحقائق إلى حين أن نتوصل لتفسيرات وقناعات جديدة عن الحقيقة. وقبل محاولة إيجاد أي إجابات أو إستنتاجات يجب علينا دراسة الواقع والإهتمام بمعطياته. وفي تأريخ الحركة السياسية السودانية حدثت تحالفات متعددة ومختلفة الأغراض وكان أبرزها التحالف الذي حقق الإستقلال وجبهة الهيئات في ثورة أكتوبر وتجمعات وطنية تشكلت لإسقاط نظام نميري في 1985م أو التجمع الوطني االديمقراطي ولاحقاً قوى الإجماع الوطني الذي يعمل على إسقاط نظام 30 يونيو 1989م. كل هذه التحالفات إرتبطت بإنجاز مهام مرحليةٍ أو إنتقالية في برنامج الحد الأدنى والذي كان أبرز مهامها إسقاط تلك الأنظمة الحاكمة في تلك الأزمان وبعدها تعثرت وتفرقت بدون إنجاز البرامج المعلنة في مواثيقها. ومنذ 30 يونيو 1989م تكونت تحالفات وباسماء ومسميات مختلفة على حسب الظروف السياسية ولكنها موجودة. وفي التجربة السياسية نجد أيضاً أن الأحزاب على قصر فترات حكمها في السلطة ظلت أمينة على إستمرارية القوى التقليدية والحفاظ على السلطة دون إعطاء أي وزن لقوى الهامش بإدعاءات المناطق المقفولة وتصدير النواب. وفي الجانب الآخر نجد تجربة الحزب الواحد وهي لم تختلف كثيراً عن التجارب السابقة والتي حصرت النفوذ في قوى محددة وقادت أسوأ تجربة في حكم السودان لسنا بصدد تناولها الآن. كل الحصيلة المتوفِّرة أمامنا اليوم تجزم بشكل قاطع بأن الواقع السوداني الراهن لا يمكن أن يتسع أو يتحمل نظام سيطرة الحزب الواحدً أو أي دكتاتورية لفرد. ولم يحصل حزب سياسي واحد ما بعد الإستقلال على الأغلبية المطلقة للإنفراد بالسلطة ويمكن إضافة أن فرض أي عقيدة دينية أو سياسية أو هيمنة قبيلة أو طائفة أو جهوية أصبحت مرفوضة تماماً. والشعب هو الذي أسقط نظام نميري الآحادي الحزب وظل ولازال يناضل ضد نظام الحزب الواحد لإنقلاب (الجبهة القومية الإسلامية) وإن الشعب السوداني هو الذي أسقط عبر صناديق الإقتراع في كل الإنتخابات التي تمت في تأريخ الديمقراطيات السابقة هيمنة الحزب الواحد ولم تمنح تفويضاً آحادياً أو شيكاً على بياض لأي حزب. هذه الرسالة المبَّكرة كانت صريحة وعميقة المضمون للجميع فحواها لا للشمولية عسكرية أو حزبية. من نتائج الإنتخابات الديمقراطية التي جرت ولا نتحدث عن إنتخابات الشموليات بأن السودان هو بلد التعدد والتنوع وهذه المعادلة المتعددة الأطراف هي التي يجب أن تحكم بدون إقصاء أحد وليس بإنفراد يدعى الأغلبية التي قد تحدث بإستخدام الحيل الإنتخابية. أن تحليل نتائج الإنتخابات الديمقراطية يؤكد صحة هذا الإستنتاج ولكن هنالك قوى أساساً لا تؤمن بواقع التعدد والتنوع وتختزل كل المكونات المختلفة في عقيدة أو قبيلة أو طائفة وهي تخفي من ذلك نزعاتها الإستبدادية والتسلطية في الحكم. أن أحزاب السلطة في الأنظمة الشمولية والتي تدعي في مناسبة ودونها الأغلبية فشلت فشلاً زريعاً حتى على الحفاظ على وحدة الوطن وسيادته وخلق جبهة داخلية موحدة على رغم من إستخدامها لكل موارد وإمكانيات الدولة بل ظلت أقلية معزولة تتسول مشاركة القوى الأخرى التي قامت من أجل إقصائها. يجب ألا نتضجر أو نحس بالملل من تكرار بعض المفاهيم مثل التنوع والتعدد لأن إقصاء قوى إجتماعية واسعة ومتعددة المضامين من الحياة السياسية السودانية كان السبب المباشر الذي أدى لفشل الدولة السودانية منذ الإستقلال وهي السبب أيضاً الذي قاد إلى الإنفصال والحروب والمصائب التي نعيشها اليوم. أن هذه المفاهيم ليست من إفتعالات شخص أو مجموعة وإنما التعدد والتنوع من حقائق الواقع السوداني ولكن تم نفيها بالممارسة الإقصائية. في أوقات مبكرة من ستينيات القرن الماضي ظهرت أشكال عبَّرت عن هذا التنوع وعن مظالم وعدم إعتراف بالآخر كنهضة دارفور وحركة سوني وإتحاد جبال النوبة والأنقسنا والأنانيا ومؤتمر البجا وتضامن قوى الريف وحركة قرنق. أنها كانت جميعاً أصوات لأنين وهمهمات وشكاوي وأعراض لأزمة الإقصاء ولكن المركز وقواه التقليدية كانت أسيرة لإنغلاقها وأحاديثها وتنظر لأي حركة من خلال منظار قاتم بإعتبارها عنصرية أو جهوية. الحرب الأهلية الدائرة الآن كشفت عن حقائق قديمة مسكوت عنها كان من المفترض مخاطبتها منذ زمن ويأتي في مقدمتها قضية حق الجميع أي المكونات في المشاركة الحقيقية في السلطة والتوزيع العادل المنصف للثروة والإعتراف بالمكونات. يجب أن نعترف بأن الواقع قد تغير وتشكَّلت أوضاعٌ جديدةٌ بعيدة عن تأثيرات القوى القديمة وأن الأساليب القديمة لجميع القوى السياسية سوف تصطدم برغبات أبناء تلك المناطق في أخذ موقعهم الصحيح في المعادلة ومن ثم إختيار ممثليهم من الذين شكلوا ذلك الواقع. هذه المكونات وعلى إمتداد البلاد هي التي سوف تشكل السمات العامة للتحالفات في المستقبل ومهما كان حجمها أو وزنها السياسي إلا أنها تبقى الطرف الثاني من المعادلة السياسية ولا يمكن لأي قوة سياسية أن تتجاهلها وتلغيها عن المشهد السياسي القادم. وهذا ما نعنيه بإحترام التنوع والتعدد لكي تكون عوامل إستقرار ونهوض. ولاشك من أن السودان في حاجةٍ لأكبر تحالف سياسي من مكوناته المختلفة على أن يقوم على أساس المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات ودولة القانون والمؤسسات والديمقراطية الحقيقية بأبعادها الإجتماعية والعدالة والإنصاف. وهذا من أجل وضع الأساس للدولة المدنية الديمقراطية التي ليس فيها أي إمتيازات أو استثناءات لفرد أو جماعة. إنَّ الوطن حقٌ وملكٌ للجميع ويجب الإقرار والإعتراف بأننا خسرنا بشراً وموارداً ضخمة لإعتماد طرق مكلفة ودامية في إدارة الدولة بسبب عدم الإعتراف بالآخر. يجب وضع حد لهذا النزيف وإعتماد لوحة السودان المتعددة الأطياف والألوان وهذا لبناء الدولة المتعددة والديمقراطية. الميدان