على إثر توقيع الاتفاق الذي تم في 12 فبراير 1953 بين الحكومتين المصرية والبريطانية بشأن السودان، قررت الحكومة المصرية إصدار كتاب أخضر يجمع بين دفتيه مختلف المراحل التي مرت بها قضية السودان من عام 1841 إلى عام 1953 ليكون سجلا يرجع إليه المشتغلون بقضية مصر والسودان. "الوثائق الأساسية لتاريخ السودان من فبراير 1841 إلى فبراير 1953" كتاب صدر مؤخرا عن مكتبة "الآداب" يشتمل على جميع الفرمانات السلطانية، والوثائق الرسمية، والاتفاقات التي عقدت في الماضي بشأن السودان، كما تضمن المحادثات الرسمية والكتب المتبادلة في هذا الشأن، وفي هذا الإطار يلفت الكتاب إلى أن الاهتمام بمسألة السودان حين أصدر الباب العالي الفرمان السلطاني المؤرخ في 13 فبراير 1841 إلى محمد علي باشا والي مصر يقلده – فضلا عن ولاية مصر- ولايات مقاطعات النوبة ودارفور وكردفان وسنار وجميع توابعها وملحقاتها الخارجة عن حدود مصر ولكن بدون حق التوارث، ومن ذلك التاريخ أصبح والي مصر حاكما شرعيا على السودان. ووفقا للكتاب ظل الأمر على هذا المنوال حتى 27 مايو 1866 فصدر فرمان سلطاني آخر للخديو إسماعيل تقرر فيه أن تنتقل ولاية مصر من ذلك التاريخ - مع ما هو تابع إليها من الأراضي وكامل ملحقاتها وقائمقامتي سواكن ومصوع - إلى أكبر أولاده، وبذلك اندمج السودان بمصر وصار البلدان بلدا واحدا، ثم أعقب ذلك احتلال بريطانيا لمصر عام 1882، ومنذ ذلك التاريخ بدأ التدخل البريطاني في السودان تبعا لاحتلال مصر، وجرت أحداث كان في طليعتها ثورة المهدي الذي احتلت جيوشه الخرطوم عام 1885 فانتهزت الحكومة البريطانية هذه الأحداث فرصة فرضت فيها على مصر إخلاء السودان، ورفض شريف باشا رئيس وزراء مصر إخلاءه، وقدم استقالة مسببة سجل فيها حق مصر في السودان وأن بريطانيا تمنعه من حكم البلاد طبقا للدستور. تولى الوزارة نور باشا ونفذ للإنجليز ما طلبوه وقرر إخلاء السودان، وبعد هذا الإخلاء بدأت الدول الأجنبية تتطلع إلى السودان فأوجست بريطانيا خيفة من ذلك، وأوعزت إلى الحكومة المصرية أن تعد حملة لاسترداده حتى تدرأ عنه مطامع الدول، وفي عام 1856 أعدت هذه الحملة، ولما كللت بالنجاح أرادت انجلترا أن تثبت مركزها في ذلك الإقليم، فأملت على بطرس غالي باشا اتفاقيتي 1899 التي احتفظت بريطانيا فيها لنفسها بجميع مزايا السيادة الفعلية، وأبقت لمصر منها الاسم، وفي 18 ديسمبر 1914 أعلنت انجلترا الحماية على مصر فامتدت هذه الحماية تبعا لذلك إلى السودان، وتنازلت تركيا عن سيادتها على مصر والسودان في معاهدة لوزان التي أبرمت عام 1922 اعتبارا من 5 نوفمبر 1914، وفي 28 فبراير 1922 أعلنت بريطانيا إلغاء الحماية على مصر، واحتفظت بمسألة السودان، حتى إذا اغتيل سردار الجيش المصري سيرلي ستاك في 21 نوفمبر 1924 انتهزت بريطانيا هذه الفرصة فأخلت السودان من الجيش المصري، وظل منذ ذلك الحين موضع أخذ ورد ومفاوضات حتى عقدت معاهدة 1936، فنصت المادة الحادية عشرة من المعاهدة على أن إدارة السودان تستمر مستمدة من اتفاقيتي 19 يناير و10 يوليو 1899 وأعيدت القوات المصرية إلى السودان، وبذلك ظلت هاتان الاتفاقيتان نافذتي المفعول، وإن كان قد نص على إجازة البحث فيهما، كما ظلت معاهدة 1936 معمولا بها حتى أواخر عام 1945 فطلبت الحكومة المصرية إعادة النظر في هذه المعاهدة، وتوالت المفاوضات والمحادثات وتحطمت جميعها على صخرة السودان لتمسك مصر بوجهة نظرها، وفي أغسطس 1947 عرضت قضية مصر والسودان على مجلس الأمن، فلم يتخذ فيهما قرارا حاسما وتركت مدرجة في جدول الأعمال حتى تثار مرة أخرى، وبدأت المباحثات بين الحكومتين من جديد بغية الوصول إلى اتفاق في هذه المشكلة فلم تأت بنتيجة مرضية، حتى كان أكتوبر 1951 فألغت الحكومة المصرية معاهدة 1936 واتفاقيتي 1899 ، ولما قام جيش مصر بثورته في 23 يوليو 1952 لتحرير البلاد بدأت المفاوضات في مسألة السودان في نوفمبر 1952، وكان لاتفاق الأحزاب السودانية جميعا على رأي واحد أثره في نجاح المفاوضات التي انتهت باتفاق 12 فبراير 1953. يقع الكتاب في 456 صفحة من القطع الكبير، ويشتمل على وثائق غاية في الندرة، ويؤكد تلازم مصير مصر والسودان، وكونهما وحدة ثقافية مشتركة ترسخت عبر تقاليد ترجع إلى مئات السنين، وأن بريطانيا توسلت بالدعاية والبطش لإسكات جموع السودانيين الذين ينادون ببقاء وحدتهم مع مصر قائمة، وهو ما يؤكده محمود فهمي النقراشي رئيس مجلس الوزراء المصري في خطابه أما م مجلس الأمن عام 1947 والذي قال فيه: "إن البريطانيين اتجهوا إلى مطمع جديد بعد أن خشوا إخفاق جهودهم في فصل السودان عن مصر، فحاولوا أن يقسموا السودان ذاته بفصل جنوبه عن شماله". الشرق