رحبت واشنطن بقرار وزير الخارجية الليبي موسى كوسا بالانشقاق عن النظام الليبي، بينما اعتبرت باريس أن انشقاقه مؤشر على «العزلة المتزايدة» للقذافي، ورأت إيطاليا أن الانشقاقات في صفوف الدائرة المقربة من الزعيم الليبي هي التي ستطيح به وليس العملية العسكرية الغربية. وقال ناطق باسم وزارة الخارجية الأميركية ل«الشرق الأوسط»: «نرحب بأنباء انشقاق موسى كوسا وهذا التطور، ونحن نردد مطالبة المملكة المتحدة للمحيطين بالقذافي بالتخلي عنه واحتضان مستقبل أفضل لليبيا، يسمح بانتقال سياسي وإصلاح حقيقي يتناسب مع طموحات الشعب الليبي». وتعول واشنطن على إضعاف الزعيم الليبي معمر القذافي داخليا من خلال انشقاق المحيطين به من جهة، وإقناعه بترك السلطة من جهة أخرى. وقال الناطق باسم الخارجية إن «المجتمع الدولي يواصل جهدا متحدا من الضغوط السياسية والدبلوماسية التي توضح للقذافي أن عليه الرحيل، وذلك يرسل رسالة قوية من المحاسبة تقوي الخيارات للمحيطين به». وأضاف الناطق أن المبعوث الخاص للأمم المتحدة عبد الإله الخطيب «سيتجه إلى طرابلس وبنغازي مجددا لمناشدة القذافي لتطبيق وقف إطلاق نار حقيقي لا تخترقه قواته الخاصة والانسحاب من المناطق التي سيطر عليها بالقوة». وأوضح أن الخطيب سيسعى إلى «البحث عن حل سياسي يمكن أن يتضمن ترك (القذافي) البلاد»، مشددا على أن واشنطن تضم صوتها إلى «المجتمع الدولي الذي أوضح أن القذافي فقد المصداقية للقيادة وعليه ترك السلطة، ونحن نعمل مع أصدقائنا وشركائنا في المجتمع الدولي لتحقيق هذه النتيجة». وتابع: «في النهاية، سيكون على القذافي اتخاذ القرار، ولم يتخذ القرار بعد». من جهته، قال وزير الخارجية الإيطالي فرانكو فراتيني أمس إن الانشقاقات في صفوف الدائرة المقربة من القذافي هي التي ستطيح به. وقال فراتيني للقناة الخامسة بالتلفزيون الإيطالي: «نحن لن نتمكن من إجبار القذافي على الرحيل من خلال أعمال الحرب وإنما من خلال الضغط الدولي القوي لتشجيع الأشخاص المقربين منه على الانشقاق». وأضاف: «إنهم يدركون بالفعل أو سيدركون قريبا جدا أن النظام معزول دوليا وأن القذافي لا يمكنه أن يكون جزءا من مصالحة وطنية». وانضمت إيطاليا التي كانت الحليف الأقرب للقذافي في أوروبا قبل نشوب الصراع في ليبيا الشهر الماضي، على استحياء، للعمليات العسكرية ضد قوات الزعيم الليبي هذا الشهر بعد أن شعرت بالتهميش من فرنسا وبريطانيا. وقال فراتيني إنه على اتصال وثيق بالمعارضين الذين يهدفون لإنهاء حكم القذافي الممتد منذ أربعة عقود، وإنه سيجري محادثات مع علي العيساوي المسؤول عن الشؤون الخارجية في المعارضة الليبية في روما يوم الاثنين المقبل. وأكد الوزير الإيطالي رؤية بلاده المتمثلة في ضرورة رحيل القذافي عن ليبيا وحث الاتحاد الأفريقي على إيجاد بلد يمنحه حق اللجوء. وفي باريس، قالت وزارة الخارجية الفرنسية إن انشقاق كوسا مؤشر على «العزلة المتزايدة» التي يعاني منها الزعيم الليبي. وصرح الناطق باسم الوزارة برنار فاليرو في ندوة صحافية بأن «الانشقاقات في محيط القذافي تزداد ورحيل موسى كوسا الذي كان من أكبر المسؤولين، يدل على عزلة القذافي المتزايدة وفقدانه شرعيته». وقال وزير الدفاع الفرنسي جيرار لونغيه، من جهته، تعليقا على انشقاق كوسا، إن «كافة دول التحالف تلقت اتصالات من أشخاص (ليبيين) لا ينتمون إلى صفوف المعارضة». وأضاف لونغيه، في مؤتمر صحافي عقد أمس، أن دول التحالف «على اطلاع جيد على الحالة النفسية التي تسود الدائرتين الأولى والثانية المحيطتين بالقذافي»، غير أنه استدرك بقوله إن الحلفاء «يحتفظون بهذه المعلومات سرية». وأفادت تقارير صحافية أمس أن الوزير الليبي التقى ممثلين عن أجهزة المخابرات الفرنسية لدى إقامته ليومين في جزيرة جربة التونسية قبل توجهه منها في طائرة خاصة إلى لندن. وامتنعت الخارجية الفرنسية، في مؤتمرها الصحافي الإلكتروني أمس، عن كشف ما إذا كان كوسا قد تقدم بطلب اللجوء السياسي إلى فرنسا. وجدير بالذكر أن سفيري ليبيا لدى فرنسا ولدى منظمة اليونيسكو كانا من ضمن الدبلوماسيين الذين انشقوا عن النظام. وقالت باريس إن انشقاق كوسا يعني «تزايد عزلة النظام وفقدانه الشرعية». موسى كوسا.. مبعوث الموت الذي أخرج ليبيا من عزلتها الدولية يعتبر موسى محمد كوسا، وزير خارجية ليبيا، الذي أعلن انشقاقه عن نظام العقيد معمر القذافي، أول من أمس، من السياسيين المحنكين، الذين زاوجوا بين المناصب الأمنية والدبلوماسية. وذهب البعض إلى حد وصفه بأنه «مبعوث الموت الذي أخرج ليبيا من عزلتها الدولية». ولد كوسا وسط عائلة متوسطة معروفة في طرابلس الغرب في 23 مارس (آذار) 1949، وحصل على منحة وحاز شهادة ماجستير في علم الاجتماع من جامعة ميشيغان الأميركية عام 1978.وظل كوسا منذ ثلاثة عقود يتنقل بين مناصب الأمن والدبلوماسية في نظام العقيد القذافي، وفي كل مرة من باب أوسع وأرحب إلى مقام أعلى، في ظل واقع سياسي تختلط فيه المناصب الدبلوماسية بالملفات الأمنية. وبدأ كوسا حياته المهنية في أجهزة الاستخبارات الليبية كمسؤول عن أمن السفارات الليبية في شمال أوروبا عام 1979، ثم انتقل إلى دوائر الدبلوماسية حين تم تعيينه عام 1980 سفيرا لليبيا في لندن، إلا أنه لم يمكث في هذا المنصب سوى أقل من عام حيث تم طرده من بريطانيا في السنة ذاتها، بعدما تأكدت أنباء عن قيامه بأنشطة ضد معارضين ليبيين في أوروبا وعلى الأراضي البريطانية خاصة. ولم ينفِ كوسا الاتهام بل توعد لندن بتسليح الجيش الجمهوري الآيرلندي ردا على عدم تسليمه مطلوبين ليبيين. وزاد طرد كوسا من قبل البريطانيين من مكانته لدى الزعيم الليبي الذي كان حينها في أوج تحديه لما سماه «الإمبريالية الدولية»، فواصل شغل المناصب الأمنية، وتنفيذ المهمات الحساسة والمعقدة أو غير النظيفة بالنسبة لخصوم العقيد، خصوصا منها ما يتعلق باغتيال وتصفية المعارضين خارج الحدود، ليطلق عليه المعارضون لقب «مبعوث الموت». ثم تولى كوسا منصب نائب وزير الخارجية ما بين 1992 و1994، قبل أن يعين على رأس جهاز الاستخبارات الليبية، المعروف باسم جهاز الأمن الخارجي، حيث شغل هذا المنصب مدة 15 سنة متصلة قبل أن ينتقل ثانية إلى الدبلوماسية حين تم تعيينه وزيرا للخارجية في مارس 2009، وهو المنصب الأبرز في تاريخه. لعب كوسا دورا رئيسيا في الكثير من الملفات الليبية الشائكة في العقد الأخير، وكان له دور رئيسي في إعادة صياغة علاقات ليبيا مع الغرب بعد رفع الحصار الذي فرضته الدول الغربية على بلاده عام 1992، وتواصل حتى بداية الألفية الثالثة حيث كان كوسا مسؤولا عن الصفقة الليبية مع الاستخبارات البريطانية والأميركية عام 2003، والخاصة بتفكيك البرنامج النووي الليبي، وهو ما أثار استغراب الكثير من المراقبين في ذلك الوقت كخطوة مفاجئة لم تكن متوقعة، حيث صاغ صفقة تخلي ليبيا عن السعي لامتلاك أسلحة دمار شامل مقابل انفتاح أميركي - بريطاني يتبعه انفتاح مع أوروبا وباقي دول العالم، وهي الصفقة التي أخرجت النظام الليبي من عزلته الدولية، كما فتحت الصفقة التي قام بها كوسا مع الغرب، الباب أمام رفع الحظر التجاري الذي كانت تفرضه الولاياتالمتحدة على ليبيا منذ عام 1986. ومن أهم الملفات الشائكة التي لم تستعص على المفاوض الشرس كوسا، قضية الممرضات البلغاريات اللاتي حكم عليهن بالإعدام بتهمة حقن مئات الأطفال بفيروس الإيدز. وظلت قضيتهن عالقة لسنوات طويلة سبب تشابكها وتعقدها، وتداخل ما هو إنساني واجتماعي مع ما هو سياسي، واستخدم كوسا القضية كأداة ضغط كثيرا في صفقاته مع الغرب حتى تم تسليمهن لبلغاريا في يوليو (تموز) 2007 بعد 8 سنوات في السجن. * وحدة أبحاث «الشرق الأوسط»