في السادس من مارس عام 2010، حين أطلق الحكم بدر الدين عبد القادر صافرة نهاية مباراة المريخ والأمل العطبراوي في السادس من مارس للعام 2010 بعد سبع عشرة دقيقة من شوطها الثاني، كان ذلك إيذانا بانطلاق صافرات الحزن الأحمر. داخل الصندوق يسقط صاحب الرقم (22) في الفرقة الحمراء، وكانت تلك الإغماضة الأخيرة. رحل بعدها مهاجم المريخ النيجيري الأصل، السوداني الجنسية أندراوس إيداهور عن الحياة من داخل الملعب. الموت يأتي بغتة ودون انتظار.. هكذا كان المشهد قبل خمس سنوات في استاد المريخ وفي ليلة وداع (الضباح).. خمس سنوات وما زال الشاب حاضراً في المشاهد المريخية.. خمس سنوات والكل تهزمه فضيلة النسيان حين يتعلق الأمر بالنيجيري عاشق المريخ.. خمس سنوات وما زال أهل الأحمر يهتفون بملء أمنياتهم ليبت (إيداهور) هنا؛ كل هدف يلج شباك المريخ ينتظر النجم إيداهور لمعادلته.. وكل فرصة يطيح بها مهاجموه هي لحظة أخرى لاستعادة ذاكرة تهادي الكرة في الشباك بعد ملامستها من قدم أو عبر رأس ايداهور. هجوم المريخ يطيح بالكرات بعيداً عن مرمى أهلي شندي أمس الأول.. غياب الإصرار على التعويض عند الموجودين في الميدان كانت لحظة أخرى لاستعادة شريط ايداهور. وإن التزم البعض بعبارته لن ننساك. يكتب أمس بابكر سلك خاتمة عموده اليومي (ننساك كيف والقراية مرقت من المدارس، بقت في الشارعن انتخبوا القراية أم دق).. في سنة الغياب الخامسة محاولة للقراءة في دفتر الراحل اندراوس ايداهور. الذي كسى غيابه المستطيل الأخضر بلون الفراغ القاتل وجعل لون الحمار في القلعة متوشحاً بسواد الرحيل. كاكا في نسخته الأفريقية في العام 1984 وفي الأراضي النيجيرية وفي مدينة (بنين) لأسرة ميسورة الحال ولد ايداهور في عائلة تضم الكثير من نجوم الكرة المشاهير في مدينة بنين، بدا الصغير يطارد معشوقته المستديرة وتطارده نظرات الإعجاب من المهتمين ورغبات الأندية في جعل اسمه ضمن صفوفها لإنجاز التحولات والانتصارات.. في السابعة عشر من عمره كانت أندية لاغوس تطارد الفتى من أجل الظفر بتوقيعه في صفوفها لكن أسرته فرضت عليه البقاء في مدينة (بنين) واللعب لأحد أنديتها وهو نادي (اقبيني بيبيز) من هنا بدأت المسيرة الاحترافية للنجم النيجيري ووضع أقدامه على طريق التحول نحو العاصمة لاغوس وتم له ذلك. قريباً من رشيدي (يكيني) حالة من (اليقين) بدأت ماثلة لدى الجميع في العام 2003 بأن الكرة النيجيرية موعودة بميلاد نجم جديد وهو الأمر الذي دفع بنادي جوليوس بيرقر إلى خطف الهداف وضمه إلى قائمته في مطلع الموسم ليكون إضافة حقيقية لخط المقدمة الذي كان يقوده المهاجم المخضرم رشيدي يكيني العائد من تجارب احتراف ثرة في الدوريات الأوروبية. ومنذ اليوم الأول لوصول إيداهور إلى نادي العاصمة النيجيرية وجد مكانه خاليا في المقدمة الهجومية ليبدأ عهدا جديدا من التألق بصحبة لاعبين كبار ومعروفين من بينهم نجم الهلال الحالي ولاعب المنتخب النيجيري الأول آنذاك قودوين ندبيسي في رحلة ترافق استمرت موسمين وانتهت بانتقال كليهما إيداهور إلى دولفين وقودوين للهلال. وفي موسمه الأول مع جوليوس بيرقر نافس ايداهور على لقب هداف البطولة وحل في المركز الثاني مع نهاية الموسم برصيد 12 هدفا متخلفا عن هداف البطولة لاعب ناشونال ازورومبا بفارق هدف وحيد. وقد عنى تتويج ايداهور بلقب ثاني هدافي البطولة الكثير بالنسبة للاعب الذي كان يخوض أول مواسمه مع الفريق وفي وجود لاعبين كبار مثل رشيدي يكيني رغم وجود النجم رشيد يكيني، فإن وظيفة هز الشبكة أنجزها ايداهور على أفضل حال وفتحت له الطريق نحو المجد. الذي بدأه مع نادي دولفين الذي وصل معه إلى نهائي الكونفدرالية في العام 2006 دولفين وصيف الجيش الملكي المغربي وايداهور وصيف كلتشي في لقب هداف البطولة، كان ذلك مشهد الظهور الإقليمي الأول الذي مارس حضوره في كل المنتخبات السنية النيجيرية باعتباره مهاجما لا يشق له غبار. ليل فرنسا يشرق في "العرضة" عقب الظهور المتميز للنجم في البطولة الأفريقية تحركت رادارات الأندية الأوروبية للحصول على خدماته وحزم حقائبه متجهاً لمدينة النور باريس بغية الانضمام لنادي ليل الفرنسي، لكن اختلافات في العائد المادي عادت به مرة أخرى للقارة الأفريقية ففي العام 2006 نجحت إدارة المريخ في تعزيز خط هجومها بايداهور كانت الخطوة هي الأولى في طريق كتابة تواريخ الامتياز للشاب في صفوف الأحمر، كما أنها كانت فرصة للأحمر لاستعادة ذاكرة التميز القاري بوجود خط هجوم مرعب يقوده ايداهور. وهو نجم سبقته شهرته ومثل حالة انتقال في الحصول على المحترفين بالدوري السوداني وهو يضع خطواته في الخرطوم بعد أن وصل إلى منصات التتويج الأفريقية.. ولو أنه لم يحصل على البطولة لكن كان الأحمر على موعد مع البطولات للقادم الجديد إلى قلعته. انخراط النجم في القلعة الحمراء كان مدخلاً لمشروع من التميز كتبه الشاب بعرقه في المستطيل الأخضر برفقة زملائه اللاعبين. هداف الموسم في موسمه الأول مع المريخ استطاع النسر النيجيري أن يحلق في كل شباك الخصوم الذين واجههم المريخ في ذلك الموسم، وهو أمر كان متوقعاً في ظل تعويل جماهير المريخ على نجمها الجديد وهو لم يخذلها وحق عليها أن تهتف (العندو ايداهو الله اداهو) فوجود العزيمة التي لا تفتر والراكض بصورة متواصلة من أجل تحقيق تطلعات الجماهير وصاحب القلب الحامي الممتلئ بالغيرة على الشعار كانت أمورا كافية لأن يقطن الأمل الجماهير المريخية في كل المباريات وترافقها الثقة بأن الشبكة حتماً ستهتز الاهتزاز المتواصل لشباك الخصوم في الدوري الممتاز.. ما جعل الشاب يختم موسمه الأول مع المريخ بتسجيل ثمانية عشر هدفاً جعلته يقتسم الحذاء مع رفيقه في دولفين سابقاً وغريمه في الهلال كلاتشي أوسونو لقب هداف الموسم، لكن الإجراءات الإدارية وتأخر التسجيل حرمت المريخ من هدافه في الاستحقاق الأفريقي لعدم إلحاق اسمه بالكشف الأفريقي، لكن ما لا يدرك في العام 2006 يمكن إنجازه في العام 2007. ولأن النسر لا يعرف سوى التحليق داخل الشباك لم تكن لتستعصي عليه شباك الهلال التي وصل إليها كأول محترف مريخي يحقق هذا الأمر ويزيد درجة قبوله وسط العشاق الذين أطلقوا عليه لقب الضباح احتفاءً بهدفه على مشارف العيد. هداف أفريقي ايداهور سرعان ما عوض غياب الموسم الأول في البطولة الأفريقية العام التالي له، حيث استطاع أن يساهم بأهدافه مع زملائه في الوصول بالفريق إلى نهائي البطولة الكونفدرالية وأن يحرز في العام 2009 لقب هداف البطولة بسبعة أهداف رغم أن المريخ لم يمض بعيداً في هذه البطولة ليؤكد الشاب علو كعبه على كل المهاجمين في القارة السمراء في ذلك الموسم وهو العائد إلى المريخ بعد رحلة إعارة قضاها مع نادي النصر الإماراتي عاد بعدها لزيارة شباك النجم الساحلي التونسي واتراكو الرواندي والشلف الجزائري وسان جورج الإثيوبي لتنضم هذه الأندية لقائمة ضحايا قدم وراس الضباح. قوون الوداع في العام 2010 المريخ متأخر بالتعادل الإيجابي أمام نادي سان جورج قبل أن يعود ايداهور بهدف لوحة وبخلفية رائعة حملت المريخ للدور الثاني.. المدهش هو أن الهدف كان في المرمى الجنوبي لاستاد المريخ ليعود بعدها بأسبوع ويسقط مغشياً عليه بسكتة قلبية ويغادر بعدها الفانية تاركاً النجيل يغرق في دموع العشاق ودهشتهم اللا متناهية رغم قناعتهم بأن الموت نقاد يختار الجياد واختار من الحمر فارس القبيلة وأسدها في النزال. السادس من مارس الأمل من المفارقات في مسيرة الراحل مع المريخ هي أن أول مباراة خاضها كانت في السادس من مارس ضد فريق الأمل العطبراوي وأحرز فيها أول هاتريك وايداهور هو الهداف التاريخي لمباريات المريخ وكبير عطبرة برصيد خمسة أهداف وأن الفريق الذي شهد ظهوره الأول في السودان هو نفسه الفريق الذي تزامن مع حضوره آخر ظهور له في الملاعب وإن كان في المشهدين يدفع ضريبة محبته للعملاق السوداني. ومن الحب ما قتل في نهائيات بطولة القارات يسقط الكاميروني مارك فوييه على النجيل الأخضر ويغادر الدنيا بالسكتة القلبية.. كرة القدم تشهد مثل هذه الأحداث لكن القادمون إلى استاد المريخ في العام 2010 لمشاهدة مباراة فريقهم المنتشي بالترقي الأفريقي كانوا ينتظرون مشاهدة أهداف ايداهور وبقية العقد النضيد لم يكن فيهم من يتصور النهاية المأساوية ولا حتى حكم الجولة.. بدر الدين عبد القادر الذي لم يجد خطوة لإيقاف حالة الانهيار سوى النفخ على صفارته بكل حزن الدنيا معلناً النهاية للمباراة التي شهدت سقوط الفارس داخل الصندوق مغادراً الحياة. الدقيقة الخامسة عشر من الشوط الثاني كانت اللحظة التي انخرط فيها الجميع في نوبة بكاء حار؛ الحارس محمد كمال يحاول الإمساك برباطة جأشه وخيط الأمل في آن.. حين يفشل في ذلك يضع يديه على رأسه متضامناً مع زميله في خط الهجوم هيثم طمبل. عبد الحميد السعودي يرفع كلتا يديه مستدعياً الإسعاف ومتجاوزاً شارة الحكم.. حاتم عبد الغفار يذرف دموعه على كنبة الاحتياطي. الجماهير تغادر المدرجات في طريقها نحو مستشفى أم درمان لكن الخبر الصاعق يأتيها: (إيداهور في رحاب الله).. لم تجد هتافاتها شيئاً وهي تصرخ في هستيريا (بالروح والدم نفديك يا إيداهور) محاولتها التماسك سرعان ما تنتهي وصحف السابع من مارس تكتسي بالسواد وهي تنعي النجم الخلوق الذي انتهت مسيرته في مكان عشقه الأول الملعب الأخضر. السكتة القلبية هي التي أنهت رحلة الحياة هكذا جاء التقرير الطبي المحمول وأن لا مواجهات ومشاكسات بين اللاعب ولاعبي فريق الأمل، فأخلاق ايداهور كانت تمنعه من الجميع وتعطيه في الوقت نفسه شارة التميز الأخلاقي.. هو ذات ما قال به رئيس النادي وهو ينعي للجماهير الخبر الفاجع. حالة محبة خاصة عقب إعلان الوفاة سرعان ما احست الجماهير المريخية مرارة الفقد التي دفعت بأحد العشاق الصغار للحاق بنجمه المحبوب واضعاً نهاية لحياته وكأنه لا صورة يمكن مشاهدتها بعد غياب معشوق الجماهير ومحقق تطلعاتها ومنقذها في اللحظات الحاسمة. لتكتمل فصول المحبة في رحلة تشييع الراحل إلى مثواه الأخير في نيجيريا عبر طائرة خاصة رافقها إداريو الفريق وقائده مع رفيق رحلته كلتشي اوسونو وأكدت أن صاحب الرقم (22) لم يكن فقد المريخ وحده وإنما فقد لكل أهل الكورة في السودان الذين استداروا مع كرة حزنهم على الغياب الفاجع وبقي للحمر حق التعهد بالعبارة المرسومة بالسواد لن ننساك يا ايداهور.. كيف ننساك وكل كرة خارج هدفها تذكرنا بتفاصيل نجم لا يمكن تكراره وبمحترف بمواصفات خاصة. اليوم التالي