باريس- يعتبر كاتسوشيكا هوكوساي (1760 /1849) أشهر فنان ياباني في العالم، استطاع من خلال لوحاته وأعماله المحفورة أو النافرة، التي جمع فيها بين المبادئ التقليدية للفن الياباني والمؤثرات الغربية، أن يجسد روح بلاده وعمقها الحضاري. نتوقف في هذه الورقة عند تجربته وخصائص فنه بمناسبة المعرض الاستعادي الذي أقيم له مؤخرا في القصر الكبير بباريس. كاتسوشيكا هوكوساي عبقري متعدّد الملامح، ومبدع مغامر لا يستقرّ على حال، فقد دأب على تغيير اسمه حسب التجربة التي يقبل عليها والمرحلة التي ينتقل إليها، وقيل إنه استعمل ما يقارب مئة وعشرين اسما للتوقيع على لوحاته. من ذلك مثلا أنه يطلق على نفسه من 1779 إلى 1794 اسم "كاتسوكاوا شونرو" (رونق الربيع)، ومن 1795 إلى 1798 "سوري" نسبة إلى أحد أساتذته، ومن 1799 إلى 1810 "هوكوساي" (مشغل الشمال) وهو الاسم الذي عُرف به على أوسع نطاق، وقد اتخذه إجلالا للألهة ميوكين رمز النجم القطبي الشمالي الذي كان يقدسه. ومن 1811 إلى 1819 "تايتو" نسبة إلى الدب الأصغر، ومن 1820 إلى 1835 "ليتسو" نسبة إلى أول عام من الدورة الفلكية ذات الستين عاما، ومن 1835 إلى 1849 "مانجي" (عشرة آلاف سنة) إشارة إلى خلود جبل فوجي الذي نشر عنه في هذه المرحلة سلسلة أخرى ذات مئة مشهد. لهوكوساي قدرة عجيبة على مداومة الخلق والابتكار، وقد قدّر إنتاجه بالآلاف بعد مسيرة دامت سبعين عاما، وكلها أعمال رائعة، سواء من حيث قيمتها الجمالية أو تنوع أساليبها، إذ تضم لوحات زيتية ورسوما ونقوشا وكتبا مصورة ومؤلفات مدرسية. مارس في بداياته كل الأجناس التقليدية، من بورتريهات الغي شاو ممثلي مسرح الكابوكي ومصارعي السّومو ومشاهد من الحياة اليومية، وبطاقات المعايدة الراقية (سوريمونو) ورسوم لروايات ودواوين شعرية، ثم انتقل منذ ثلاثينات القرن التاسع عشر إلى سلاسله الكبرى عن المناظر الطبيعية التي يتناولها لذاتها. فأعطى اللوحات اليابانية النافرة دفعا كبيرا، متوخيا أسلوبا جديدا يتمثل في المزج بين مكتسباته الشرقية ومناهله الغربية، ليصوغ أعمالا ذات جمال ساحر، خصوصا سلسلته الشهيرة "ستة وثلاثون مشهدا عن جبل فوجي". هذه السلسلة، التي تعتبر قمة إبداعه، بدأها عام 1830 يوم أقبل على ذلك الجبل المقدس، وكان ملاذ عدد من المعابد الطاوية وله علاقة حسب المعتقدات الشعبية بألهة النار، لوجود بركان في إحدى ذراه. وجبل فوجي، كثيمة، ليس جديدا على اليابانيين، فهو حاضر في الأساطير القديمة، ثم في الآداب والرسم منذ القرن الثامن عشر، ولكن مقاربة هوكوساي كانت موسومة بالجدة والطرافة، فلأول مرة يقدّم ذلك الجبل من زوايا نظر متعددة. يرصد فيها الفنان بدقة تبدّل الأضواء وتقلب الأجواء في أطر مستجدة، مركزا على الجبل ومظاهر الحياة فيه، مادية أو روحية، دون أن يغفل عن الأفق، حيث مراكب الصيادين ورغوة الموج المتلاطم، أو يكرر الموضوع نفسه، بل كان يعززه ويضفي عليه شيئا جديدا، بفضل مزج رائع بين الخطوط والألوان، حيث يسيطر الأزرق البروسي الذي لم يعهده اليابانيون من قبل، ما يجعل العناصر الأربعة، وخاصة الماء، رقيقة شفيفة، تتآلف في فضاء بالغ التعقيد. وسواء رسم الجبل من قرب أو بعد، في الفجر أو الغروب، تحت الثلوج أو العاصفة، وسط الضباب أو زرقة السماء الصافية، فإن هوكوساي يبرع في تناولها جميعا بأدواته الشرقية وتقنيات الرسم المنظوري الخطي الذي عرفه الغرب منذ جوطّو، لينشئ خدعا فضائية وعمقا في الحقل البصري لم يعهدها اليابانيون. في بعض لوحات السلسلة، يثبّت هوكوساي لحظة عابرة، سواء أكانت ظاهرة طبيعية منفلتة كومض البرق في لوحة "العاصفة" عند قمة الجبل، أم فعلا بشريا كلوحة "أوشيبوري"، حيث يلتقط صوتا واحدا وحركة وحيدة، لرجل يصبّ في المستنقع ماء قد يكون استعمله لطبخ الأرز، فيُجفل طائرين من طيور مالك الحزين ينطلقان فجأة مذعورين. وهي تقنية تعرف "بيوكيو إي" وتعتمد اقتناص اللحظة، نجدها أيضا في لوحة "الموجة الكبرى" التي تفتتح بها السلسلة، إذ تبدو في اندفاعها، شاهقة مزبدة تهدد بالتكسر على المراكب وإغراق الصيادين، فتبدو حياتهم رهينة الطبيعة. حظيت تلك السلسلة بنجاح كبير كلل جهود هذا الفنان الذي نذر حياته وفنه لتمجيد الطبيعة. فمن خلال جبل فوجي، رمز الثبات والديمومة، أبدع هوكوساي في الإمساك ببريق الحياة الهارب وبالحركة ليثبت لحظة خلود كأبهى ما يكون التثبيت. وفي نهاية حياته، هجر عالم اللوحات النافرة لينكبّ على الرسم الزيتي، وامّحت صور العالم العائم التي كانت سمة ذلك العصر، لتترك المجال لثيمات جديدة كعالم الحيوان والنبات والموضوعات ذات الصبغة الدينية. ومات في سن التاسعة والثمانين، وهو يتمنى أن يعيش عمرا أطول، ليس حبا في الحياة، فالعمر -مهما امتدّ- له نهاية، بل لأنه كان يريد بلوغ الكمال الفني. كان يقول "لو أعيش مئة عام، فربما أدرك بحق مستوى البديع والرباني. لأن كل ما أنتجت قبل سن السبعين لا يستحق أن يُحسب في رصيدي".