الأعاصير التي ضربت الأنظمة العربية، فاقتلعت بعضها من جذورها ولا زالت مستمرة في اقتلاع الآخرين، يبدو أنها هبت علينا فأزالت الكثير من الأغطية التي ظلت تحجب رؤيا الواقع والحقائق عن أعين الجمهور. فلأول مرة يتم الحديث عن أخطاء وفساد بعض رموز النظام وبالاسم الذى كان محرما مجرد التلميح بحروفه. كما وان الدولة ذاتها أخذت تتسارع خطواتها في اتجاه كشف بعض الأخطاء والقول بضرورة معالجتها، بينما ظلت من قبل نافية لحدوث لكثير منها وناكرة لوجودها أصلا. ثم التسارع والتضارب في اتجاه معالجة أزمة الحكم، والكيفية التي يدار بها السودان بعد انفصال الجنوب وغير ذلك مما يؤكد وعى النظام بضرورة التغيير وأهميته، ويكشف مدى التردد والخوف من إجرائه. ففي جانب التغيير المطلوب لنظام الحكم، برزت دعوتان الأولى لمناقشة مختلف القضايا الوطنية بما فيها الحكومة ذات القاعدة العريضة، المعترض عليها من أحزاب المعارضة، ثم الدعوة التي انفردت بأمر وضع دستور دائم للبلاد من جانب، أو إجراء تعديل على الحالي وكفى من جانب آخر.ففي حالة الدعوة الأولى، خرج علينا المؤتمر الوطني بتبني محاورة حزب الأمة القومي حول قضاياها، بينما فشل في إقناع حزبي الشعبي والشيوعي في المشاركة، أو لعله قصد إبعادهما لا ندرى. ثم هنالك مستشاريه الأمن القومي التي تقوم بمناقشة ذات القضايا مع مجموعة أحزاب أخرى، ومن بينها أحزاب بلا قواعد، كما وبجانب دعوتا المؤتمر الوطني والمستشارية تلك، تقدم د. نافع بدعوة أخرى وجهها إلى قطاعات المجتمع كافة، لأجل حوار مفتوح وحر، لا تحده سقوفات أو شروط، في القضايا الوطنية، من اجل الاتفاق على مطلوبات المرحلة الجديدة. ود. نافع هو نائب رئيس حزب المؤتمر الوطني الذى تقدم بذات الدعوة لحزب الأمة. وقطعا سمح لمستشاريه الأمن القومي ان تكرر ذات الدعوة للأحزاب الأخرى.. فهل من كل هذه الدعوات ومن مختلف قيادات وأجنحة المؤتمر الوطني ما يدل على ان هنالك جدية في البحث عن طريق يقود إلى كيفية حكم السودان الجديد بعد انفصال الجنوب، أم ان القصة مجرد كسب للوقت؟ والدعوة الثانية المتصلة بأمر الدستور، تغييرا أو تعديلا، هي الأخرى ظلت تنطلق من عدة جهات مثلها مثل القضية الأولى. فالمؤتمر الوطني بدأ بدعوة حزب الاتحادي الديمقراطي الأصل لمناقشة ذلك الأمر، ثم أردفها بدعوة كل القوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني والقوى الفاعلة للمشاركة في الإعداد لدستور البلاد الدائم، كما وعد بإثارة جميع بنود الدستور ما عدا الشريعة الإسلامية الذى قال، انه الثابت الوحيد لدى الحزب والشعب، ولم يتخلف د. عبد الرحمن الخضر والى ولاية الخرطوم، عن الدلو بدلوه في هذه القضية. فجدد الدعوة لكافة قطاعات الشعب بالمشاركة في وضع الدستور، بل تقدم بدعوته خطوة للأمام عندما أعلن بأنه لا يمانع في النظر في تجارب الآخرين والاستفادة من حسناتها، عند وضع الدستور، كما يفعل كل العالمين طبعا، لدرجة القول، بأنه لا يمانع من الاستفادة حتى من تجربتي ماركس وهيجل. وهذه مرحلة متقدمة جدا في تفكير الجماعة الذين لا يرون خيرا في غير تجاربهم. المهم هنا، ان جدية الحكومة في العمل على تغيير أسلوب وطرائق حكمها من اجل الوضع الجديد للسودان، فيها الكثير من الشك، ما دامت أساليب تحقيق ذلك التغيير بمثل هذه البعثرة، والاجتهادات الفردية أو الجماعية داخل عضوية الحزب، مما يدل على عدم دراستها والاتفاق عليها مسبقا قبل الخروج بها للمشاركة. وطبعا هذا النوع من الدعوات العامة يقال عليها، دعوة مراكبية، مقصودة بالتنفيذ. والحكومة أعلنت أكثر من مرة قصة حربها على الفساد والفاسدين، في حين ان ميادين تلك الحرب لا زالت بعيدة عن أعين المواطنين.فالمفوضية المناط بها خوض تلك الحرب، لم يتم تكوينها حتى الآن، رغم انه كان منتظرا حدوث ذلك مباشرة بعد إعلان الحرب على الفساد، وعلى الأقل لتتمكن من متابعة قصة التخلص من الشركات الحكومية، وسلامة إجراءاتها، وحتى لا يترك الأمر لغيرها من اللجان التي اضطلعت بعملية الخصخصة، فتخلصت من بعض المؤسسات الرابحة، وكانت السبب في خلق نوع جديد من الفساد، وأعداد جديدة من الفاسدين. فبعض الشركات الحكومية المراد التخلص منها حاليا، يعتبر بعضها من المؤسسات الرابحة أيضا، نخشى عليها من حال سابقاتها الذى تم بيعهم بأبخس الأثمان، بعد ان استفاد من ذلك بعض من اشرفوا على البيع، وبأكثر من فائدة الحكومة التي مهدت لهم فرص الاستفادة تلك. ثم ان هنالك شبهات فساد بائنة ببعض من الشركات المراد التخلص منها، لابد من سبر غورها قبل بيعها. فالفندق مجهول الهوية، الذى أعلن عنه بأنه، فندق بشارع السيد عبد الرحمن، يبدو ان الصحف بحثت ونقبت حتى عثرت عليه، وهو عبارة عن هيكل لبرج، كان يمكن ان يصبح فندقا منافسا لما يقابله من فنادق بذات الشارع، ان تمت عملية تشييده وإعداده. فيصبح السؤال عن السبب في توقف العمل فيه بعد ان وصل تلك المرحلة، ومن الجهة التي اضطلعت بعملية التشييد الذي لا ندرى ان كانت قد طرحت في عطاءات يتنافس عليها الجميع، أم عن طريق التخصيص لمن تريد الحكومة خدمته؟ فالفندق الهيكل هو عبارة عن أموال ظلت مجمدة، لا ندرى لأي مدى من الزمان، ومن حق المواطن ان يعرف ذلك ايضا. والصحف تتحدث عن محاولة استرداد لمبلغ 200 مليون جنيه، يعنى 200 مليار بالقديم، وهو مبلغ تكرم به أحد المصارف لعدد 15 من رجال الأعمال، وبلا ضمانات كافية لتغطية ما استلموا من مال، تم اكتشاف ضعفها وبعدها عن المطلوب بعد أن عجز أولئك الكبار عن تسديدها . ويقول الخبر انه تم استرداد 25 مليونا فقط من الجملة المطلوبة، وليس ذلك فحسب بل أضاف بان اللجنة التي كونها السيد وزير العدل لمعالجة هذه القضية، قد وجدت مقاومة شديدة من إدارة البنك المعنى، وهو شيء طبيعي، إذ في تعرية ملابسات تلك القضية، ما يعري فساد قيادة البنك الذى يريدها مستورة. وهنا نسأل أيضا، عن السبب في ستر عورة ذلك البنك، وقيادته التي مهدت لتلك الجريمة، بعدم الإعلان عن اسميهما، لتصبحا عظة لغيرهما؟. ثم ان الصحف أشارت إلى ان اللجنة قد أعلنت عن بيع مزرعة أحد تلك المجموعة، رغم عرقلة إدارة البنك لذلك المسعى، وأوضحت بأن البيع كان لصالح جهة سيادية، دفعت مقابله أكثر من 6 مليار من الجنيهات، بالقديم، مقابل. وهنا أيضا نسأل عن سبب التستر على تلك الجهة السيادية التي تمتلك مثل ذلك المال لشراء مزرعة، وان كان البيع قد تم لها بالسعر المقرر والصحيح؟ فمحاولات التغطية على الأسماء، كثيرا ما تفتح الباب للشكوك والاتهامات لتنال من هم أبرياء. ثم لماذا يتم ستر عورات الفاسدين فيصبح تشجيعا لغيرهم كي يحذو حذوهم؟. اكشفوا عن أسماء جميع الذين استفادوا من تلك الثروة بلا وجه حق، حتى يعرفهم المواطنون أصحاب الحق وذلك بعضا من حقهم. وفى سابقة غير مسبوقة وعلى غير العادة، أعلنت الصحف وبالاسم كاملا، ان وكيل وزارة التعليم، د. معتصم عبد الرحيم، ظل يحصل على مبلغ 165 مليون من الجنيهات كحافز خاص بالامتحانات. وعند استفسار سيادته عن الأمر أنكر علمه بمقدار الحافز الذى يخصص له، وبرر جهله بالقيمة، نسبة لأنه يترك ذلك المبلغ كاملا لدى مدير مكتبه، ليقوم بصرفه على الفقراء والمساكين وأبناء السبيل، من أهله ومعارفه وغيرهم، وبموجب تصديق يخرج من بين يديه لأجل التنفيذ. طيب، نسأل السيد الوكيل ان كانت الأموال بوزارته، التي تشكو لطوب الأرض من شح مواردها، يتم صرفها دون توقيع المستلم عليها؟، ونسأله ان كان يعلم ان المعلم الذى يضطلع بعملية مراقبة الامتحانات، يتقاضى في نهايتها فقط 125 جنيها، تقتطع منها نقابتهم تسعة جنيهات، ويصبح صافى نصيبه 116 جنيها،. ثم المعلم الذى يقوم بعملية تصحيح الامتحانات يتقاضى في النهاية 600 جنيه، بما فيها مائة جنيه للترحيل؟. فيصبح السؤال الأخير عمن يقوم بتحديد تلك الفئات البائسة للمعلمين، والحوافز الكبيرة لكبارهم؟ وبعد الإجابة على كل ذلك، فإن سيادة الوكيل، وبعد ان أعلنت الصحف اسمه مقترنا بتلك القضية، يصبح من العسير استمراره وكيلا لوزارة في مقدمة مهامها التربية، وعلى رأس التربية الصدق في القول والفعل، فان لم يكن سيادته صادقا فيما ذكر، فتلك مشكلة تستوجب الاستقالة، وان كان صادقا في جهله لقيمة ما يصرف له، فتلك مشكلة أخرى تتصل بالقصور في إدارة المؤسسة التي يتربع على عرشها، تستوجب الاستقالة أيضا. فالأموال التي تصرف بلا إثبات لمن يصرفها، هي من اكبر مداخل الفساد، ومن ثم تطلب إخضاع الجهة المالية بوزارة التعليم، للمحاسبة والمساءلة عن الكيفية التي تصرف بها مثل تلك المبالغ، دون ان يكون أصحابها على دراية بقيمتها؟ وينطبق على هذه الحالة قول الشاعر. يجود الخيرون علينا بمالهم، ونحن بمال الخيرين نجود، يعنى المواطن المسكين يجود على الوزارة برسوم الامتحانات لأبنائه، وكبار المسئولين بالوزارة بمال المساكين يجودون. ثم الكارثة الكبرى ان الحكومة تصرف على الأمن والدفاع، صرف من لا يخشى الفقر، بل وتفضل ذلك على الصرف على الصحة والتعليم والعيش الكريم للمواطنين. وكنا نظن ان المؤسستين المفضلتين على ما سواهما، هما من اجل أمن البلاد والعباد والدفاع عنهما. لكن تكررت بعض الأحداث أبانت بان الصرف على تلك المؤسسات، لا يعادله عطاء يتوازى مع حجمه، فقصة الطائرة بلا طيار التي استهدفت سيارة ملاكي بمدينة بورتسودان، فأصابت هدفها تماما فقتلت مواطنين ومن بعد عادت إلى قواعدها سالمة غانمة، لم تكن الحادثة الأولى، بل سبقتها أخرى استهدفت قافلة بذات الولاية، وقضت على أكثر من مائة مواطن، وعادت الطائرة إلى قواعدها سالمة أيضا. ويبدو ان السودان أصبح مكشوفا، برا وبحرا، أرضا وسماء. فقافلة السيارات التي قادتها حركة العدل والمساواة، قاطعة بها الفيافي والغفار، من ولاية كردفان حتى مشارف قبة المهدي بقلب امدرمان، لم يعترضها عارض هي الأخرى. فنسأل حكومتنا التي تمكنت من تصنيع طيارة بلا طيار، لماذا لم تتمكن من تصنيع ما يكشف لها العدو قبل ان يداهمها، طائر عبر السماء أو زاحفا على الأرض؟. المدهش ان وزارة الخارجية أعلنت إنها تملك كل الأدلة والبراهين على ان إسرائيل هي التي ارتكبت تلك الجريمة، وكأنما إسرائيل قد أنكرت ذلك، فإسرائيل هي التي بادرت بإعلان فعلتها قبل ان تعلنها السلطات الحكومية ذاتها. ثم ان الحكومة ظلت تردد، الاحتفاظ بحقها في الرد على إسرائيل، ودون ان نسأل عن كيفية ذلك الرد ، نرجو ألا يطول الاحتفاظ بذلك الحق كما الحال عند كل حادثة. ثم لماذا لا تبحث الحكومة عن الأسباب التي تدفع إسرائيل لقذف اى موقع بالسودان، لأجل معالجة السبب، خاصة وأجهزة الأمن قادرة على اكتشافه ان وظفت بعض جهدها تجاهه، أكثر من مطاردة المظاهرات والمتظاهرين. وأخيرا إعلان البرلمان عن انه بصدد استدعاء وزيري الدفاع والداخلية وجهاز الأمن لأجل استجلاء قصة تلك الطائرة، فان كان الغرض من الاستدعاء تمليك الحقائق للجماهير، نطمئنه بان الجماهير تملكت الحقائق قبل ان تعلنها الحكومة أخيرا، وإما ان كانت بغرض مساءلة أولئك المسئولين عن أسباب استباحة ارض وسماء السودان، رغم كل ما يصرف عليها من أموال، فما الذى سيفعله البرلمان بعد الوصول إلى الحقائق؟ فبرلماناتنا لم تسمع بقصة طرح الثقة في اى مسئول مهما اخطأ، كما وان مسئولينا لم يسمعوا بضريبة تحمل المسئولية التي تدفع للاستقالة من الموقع متى حدث به خطأ أو أصابه خلل، حتى ان لم يكن المسئول مسئولا عنه مباشرة، وكما يفعل غيرهم بدول العالم الأخرى.أما أعجب تفسير لقذف إسرائيل للسودان، ما قدمه وزير الدفاع الذى عزى ذلك، لأنهم يرفعون راية الشريعة، تصوروا. الصحافة