هي أحد مظاهر ديمقراطيات العالم الثالث التي (يضبط) النظام مسارها بما لا يجعلها خطراً عليه. وهي مكتملة الأركان من ناحية الشكل لكنها خالية من المضامين الديمقراطية. فتسقط عند أول اختبار حقيقي كما حدث مؤخراً في بعض البلدان التي سقط فيها النظام بثورات شعبية رغم حصول النظام على تفويض شعبي بانتخابات موجهة سبقت الثورات بفترات قصيرة.. هي (ديمقراطية أرعى بي قيدك) كما أسماها المفكر السوداني محمد أبوالقاسم حاج حمد. وتعتبر ديمقراطية السودان من بينها. فقد شهد السودان مؤخراً انتخابات موجهة بدرجة ممتاز حتى وثق النظام تماماً في فاعلية ودقة ضوابطه الموجهة. فاطمأن إلى فوز حزبه الحاكم قبل إجراء الانتخابات. لدرجة تنازل فيها الحزب طوعاً عن نسبة مقدرة من الدوائر لأحزاب منافسة يفترض نظرياً أنها قد تسقط هذا الحزب عن السلطة. وهو ما أسميته في مقال سابق (ديمقراطية الحزب العطوف). نجح حزب المؤتمر الوطني أكثر من مرة في توجيه الانتخابات بأن خلق لها كل (الشكليات) المطلوبة من تسجيل ونشر كشوف وموعد للطعون وتعدد مرشحين. فإذا ما أحجم المعارضون عن خوض الانتخابات. سخر المؤتمر الوطني واعتبر المقاطعة خوفاً من هزيمة محققة. وأن أحزاب المعارضة تداري بالمقاطعة ضعفها الذي تفضحه صناديق الاقتراع.. ظلت هذه الخطة متماسكة بالضوابط الداخلية التي يعالج بها الحزب ضعف الاكتفاء بشكليات الانتخابات. إلى أن اهتزت هذه الضوابط ولم تعد وحدها بطبيعة الحال قادرة على تحمل مضامين الديمقراطية. كان أوضح برهان يدل على فقدان الضوابط لفاعليتها هو خروج بعض عضوية الحزب عليه بعد تشكيكهم في الضوابط ذاتها. وعدم رضوخهم لقرارات الحزب بترشيح شخصيات معينة في الدوائر التي ينتمي إليها هؤلاء المتمردون. وترشحوا بالفعل في مواجهة مرشحي الحزب الحاكم الذي ينتمون إليه. فاضطر الحزب إلى فصلهم ليؤكد خطل أقوال المتمردين وطيش سلوكهم. حسب زعمه. وجد الخارجون على الحزب تأييداً لموقفهم من القواعد وحمي وطيس المعركة في بعض الدوائر ليجابه المؤتمر الوطني الأول بانتخابات (حقيقية). وبلغ المشهد الدرامي قمته بفوز اثنين من الخارجين على الحزب في دوائر قومية مهمة. أحدهما في عاصمة الولاية الشمالية (دنقلا) التي فاز فيها المرشح الذي خرج على ضوابط الحزب أبوالقاسم برطم. على مرشح الحزب بلال عثمان؛ كما فاز في دائرة أبوحمد المرشح الذي شق عصا الطاعة مبارك عباس على مرشح الحزب محمد البرجوب. رغم أن معايير الاختيار الحزبية الداخلية تقول: إن المرشح الخاسر هو مرشح جماهير الحزب. هذا معلم بارز في مسيرة حزب المؤتمر الوطني الحاكم. فهو المعلم الذي يفترض أن يقر عنده الحزب بأن الانتخابات الموجهة قد نضب معينها. ولم تعد قادرة على مد الحزب بزاد يعينه لفترة قادمة مهما قصرت.. نجح الحزب في توجيه الانتخابات في مراحل كان فيها التنظيم أكثر تماسكاً. فتلتزم عضوية الحزب من المحامين في انتخابات النقابة بالوقوف في وجه قائمة المحامي المعارض غازي سليمان. وتتظاهر بالاقتناع بالنتيجة المعلنة رغم ما دار حولها من تشكيك؛ لكن ذات الطريقة لن تجدي إذا كان المنافس في نقابة المحامين هو هاشم الجعلي صاحب السبق في الحزب والحركة الإسلامية. الذي أبدى شيئاً من التمرد في انتخابات المحامين الأخيرة. ولن تجدي مع القيادي كرم الله عباس في ولاية القضارف. وهو قيادي في المؤتمر الوطني أبدى تفلتات مزعجة جعلت الحزب يعزله عن الولاية التي يتمتع فيها بجماهيرية عالية. وقد يفوز في الغد القريب مرشح متفلت مثل كرم الله بمنصب الوالي في القضارف أو غيرها مثلما فاز برطم وعباس في الدوائر الجغرافية في دنقلا وأبوحمد. ولا يخفى خطر فوز مرشح متفلت بمنصب الوالي. فهذه دلالة تفوق كثيراً دلالات فوز برطم ومبارك عباس على أهميتها. ومن يدري؟ فقد يتصاعد الأمر فيعصي عضو خارج قرارات الحزب فيما يخص مرشح الرئاسة. هذه بوادر طبيعية تظهر حتماً في مثل هذه الأحزاب. وقد ظهرت مبكرة في حزب المؤتمر الوطني بقرار غير مركزي بترشيح الشفيع أحمد محمد لمنصب الأمين العام. حين عمد منسوبو الحزب في دارفور إلى تقديم ابنهم للمنصب الرفيع من دون الرجوع إلى مركزية الحزب. لقد تعجل يومها أنصار الشفيع. فخطوا خطوة جريئة قبل أوانها. لكن غيرهم عرف الموعد الصحيح. [email protected] العرب