الشاعر ينتج شعرا منسجما مع النظام اللغوي التعبيري، ولا يخرج عنه إلا في محطات التغيير المتباعدة زمنيا. العرب أحمد الحاج أحمد ما الشعر؟ ما الشعور؟ ما الطريق؟ كيف يكون الشعر في طُرُق الشعور؟ هل هناك تأمّلٌ داخل الحد، وآخر خارجه؟ أسائل العقل، أستفزه، أحاوره. أسئلةٌ مقلقةٌ، تفتح الفكر على أبوابه المشرعة دوما، لا أعرف ما الذي تحتاجه: إجابةٌ محكمةٌ، جامعة مانعة، أم طريق نحو التعريف والتحديد والإحاطة؟ أم ماذا؟ ما الذي تريده أنت من السؤال؟ في لسان العرب، وغيره من المعاجم العربية، رُبِط الشعر بالشعور، والأخير من الفعل شَعَرَ، الذي دلَّ استعماله في مواضع عدة على معنى العلم والمعرفة، وكان في موضع الشعر مرتبطا بخصوصية العلم والمعرفة، سواء كانت في اللغة أو في التجربة أو في الشكل الشعري وتقنياته، وبالتالي فالشعر منتوج المجال التفاعلي بين الإنسان ومحيطه، إذ أن الإنسان متفاعل في ذاته، حين يستشعر أفكارا وأخيلة مبهمة المعنى وسريعة المرور، دون التعبير الواضح عنها. وهو متفاعل مع ذاته، في الوقت الذي يشعر بها كائنا مفارقا، من الممكن مراقبته والتفاعل معه والتعبير عنه. كما أنه متفاعل خارج ذاته، حين يشعر بالمحيط ويتفاعل معه ويعبّر عنه. في حين لا يتفاعل المحيط إلا في ذاته، ليشكل فعل السياق ومنتوجه المعرفي الثقافي. وينبني هذا الفعل التعبيري على الشعور، عبر مكونات الإنسان المعرفية، من حواس وغرائز وملكات وقدرات. ويبدأ الشعور بالحواس والغرائز وتفاعلها وانفعالها مع الذات والمحيط، ويستمر بتشكل الملكات والقدرات وتشكيلها، في سياق المحيط وفعله. بهذا التوصيف يبدو مسار الشعر، في طريقه إلى التحقق، خطيا، يبدأ بالمكونات المعرفية وينتهي بالمنتوج اللغوي، لكنه، في حقيقة الأمر، رحلة سائلة (من سأل وسال) في الشعور وفعل السياق والوجود الفعلي العياني، ليتحقق في الوجود اللغوي. طرق الشعور ولكن هل يتأرجح الشعر بين فعلين: العياني واللغوي؟ الجواب لا، فالشعر لا يكون إلا في الوجود اللغوي، وهو فعل تعبيري لغوي، أما في الوجود العياني فيكون شعورا، لكن بوسعنا القول: إنه يبدأ شعورا خالصا، يسعى إلى الإفصاح والكشف عن نفسه، فيتحول إلى القول والرمز المتفق عليه، ليصبح فعلا لغويا مؤسسا على الفعل العياني. ولما كان الفعلان منتوجين لفعل السياق، فإن الشعر يبدأ في السياق الكوني وينتهي ويضيع فيه. وماذا عن طُرُق الشعور؟ وكيف يكون الشعر فيها، وهو فعل لغوي؟ الطُرق جمع طريق، والأخيرة من طَرَقَ، والطريق لا تكون طريقا إلا بكثرة الطَرْق. وللشعور طُرق يتشكل عبرها، وهي المكونات المعرفية. ويطرق الإنسان غرائزه وحواسه وملكاته وقدراته بالنمو والتجريب، لتصبح طريقا لتشكيل الشعور وتشكله. ويتميز شعور عن آخر بكثرة التجريب، وبقدر ما يكون خاصا ومتميزا عن غيره، بقدر ما يكون جزءا عضويا من السياق وفعله المعرفي الثقافي. وهو يشكل عجينة الشعر وجذره، ويتصل به في وجوده اللغوي عبر ملكة التعبير، وبالتحديد التعبير اللغوي الذي يقع في سياق الشعور باللغة ومعرفتها، وكثرة التجريب اللغوي الذي يقود إلى التباين في التعبير، وأقصد هنا التباين الطبيعي وليس الحكم الاجتماعي، الذي يقوم على النظام التعبيري السائد. والشاعر ينتج شعرا منسجما مع النظام اللغوي التعبيري، ولا يخرج عنه إلا في محطات التغيير المتباعدة زمنيا. لذا لن ألتفت إلى الشكل وتقنياته بوصفه معيارا يحدد شعرية النص، فهذا أمر متغير كما دلّ تاريخ التعبير الشعري، فمن العمود إلى التفعيلة إلى قصيدة النثر إلى النص، إلى.. إلخ، وسوف أنسب هذا المتغير إلى التقويم الاجتماعي ومعايير الإجادة المتغيرة أيضا. إن معايير الإجادة في الشعر يجب لها الارتكاز على تتبع القدرة اللغوية التعبيرية، وإجادتها في التعبير عن الشعور الذي يجب له أيضا طرق المكونات المعرفية بعمق وتأمل.ولن يكون المعيار الشكلي ناجحا في تتبع شعرية النص ومعرفة مداها. الشعر هو التأمل الخارج عن الحد، الرؤية المتأنية والصبورة للشعور وطُرقه، إطلاق الفعل التخييلي دون حد مسبق، الخصوصية في التجريب والفعل التفاعلي، إنه حالة شعورية خاصة قادرة على ملامسة حالة الآخر الشعورية عبر التعبير اللغوي، وهو ليس صراعا بين الأشكال وتقنياتها وأيها أصلح للعصر ونظامه التعبيري.