في الخامسة إلا ربعا من عصر الثلاثاء قبل الماضي كان مستمعو الإذاعة السودانية يحتضنون أجهزة المذياع بشوق وحنين، الكثير منهم أداروا مؤشر (الإف أم) عبر أجهزة الهواتف النقالة، كانوا يتوقون لمتابعة الحلقة الثالثة عشرة من مسلسل (بيت الجالوص)، "السايكو دراما" المثيرة للجدل بدأت تغوص في دهاليز المجتمع الصحفي، وتسلط الضوء على ظاهرة زواج المال والأقلام، مرت الساعة الخامسة بقليل، غابت المؤثرات الصوتية التي كان يضخها مبارك محمد علي عبر الفواصل والأثير، وغاب المسلسل نفسه عن الراديو، دون اعتذار أو توضيح، ثمة أمر قد حدث، أمر جلل، وبتعبير شكسبير (شيء ما يحدث في الدنمارك)! في الحقيقة كان هناك قرار من مدير الإذاعة الزبير عثمان بإيقاف المسلسل تماماً، صعق المتابعون، وفريق العمل، وصعق كاتب السيناريو الاختصاصي النفسي علي بلدو، ترى ماذا حدث؟ وما الدافع لإيقاف عمل إبداعي؟ ومن يقف وراء فكرة الحجب عن الأذن السودانية؟ تحولت الدهشة إلى دراما أخرى وانتقلت خارج الحوش العتيق، وكان (بيت الجالوص) يتداعى في مقرن النيلين حيث مقر نقابة الصحفيين. جوانب خفية قبل أن نعرض للجدل الذي صاحب العمل وتشظى في أوراق الصحف، هناك حاجة لقراءة (بيت الجالوص) بعيون بعض المستمعين، وبعيون كاتب النص الذي يؤدي دور البطولة في المسلسل، الدراما الإذاعية المحجوبة تعرض جوانب خفية في قصة رجل أعمال يقوم بالكثير من العمليات المشبوهة، من ضمنها الابتزاز والرشوة لأجل طمس ماضيه غير المشرّف، ويحاول الرجل من خلال الحبكة إخفاء مصادر ثروته، ما يدخله في صراعات نفسية عنيفة تقوده للطبيب النفسي، الذي يكتشف من خلال التحليل السيكولوجي الطبيعة المعقدة لهذه الشخصية. الصحافة حاضرة في النص بكثافة وهناك علاقة مشبوهة بين رجل الأعمال ورئيس تحرير، وهي ذاتها الطوبة التي سوف تقصم جدار (بيت الجالوص) في ما بعد، هناك أيضاً نجوم الدراما الإذاعية الذين شاركوا في العمل، على رأسهم الهادي الصديق، إنعام عبدالله، حاكم سلمان، حسبو محمد عبدالله، السر محجوب، محمد خلف الله، زكية عبد الله، وطارق علي، الأشعار والأغنيات من نصيب الصحفي معاوية السقا، الشاهد الذي رأى كل شيء. الممنوع مرغوب "أتوقع أن يثير العمل جدلا مستمرا، نسبة لتشابهه والواقع إلى حد كبير". قالها في نفسه هامساً ساعة الغروب، لكن مع ذلك بدا الدكتور علي بلدو مندهشاً لقرار الإيقاف، وهو الطبيب النفسي الذي عطن العمل الدرامي في شعوره وتجربته، الاتهامات ذهبت إلى جهات شتى، من بينها رجال البزنس والسلطة، لكن على الإطلاق لم يظن أحد أن غضبة اتحاد الصحفيين هي التي عجلت بإيقاف البث، بعدها اتضح أن هناك احتجاجات من صحفيين كبار وقادة رأي اشتكوا من أن المسلسل يحاول بث صورة قاتمة للوسط الصحفي على إطلاقه، ويرسل نحوه جملة اتهامات ظالمة بالرشوة والابتزاز. الانطباعات الأولى اتسعت دائرتها في الشارع الذي كان يتابع حلقات المسلسل، حتى إن البعض في الوسائل الاجتماعية، كان يتساءل من هو رجل الأعمال المشبوه ومن هو رئيس التحرير المرتشي؟ وكانت ثمة أسماء للمقاربة قد انتشرت بين الناس، لكن الدهشة تجلت في أن المسلسل اكتسب شهرة واسعة بعد إيقافه، وتفرغ العديد من الناس يبحثون عن الحلقات ال(13) التي بثتها الإذاعة، على اعتبار أن الممنوع مرغوب، وكل المفروض مرفوض، مثلما يغنيها محمد منير. غضبة الكبار في إفادة ل(اليوم التالي) يحاول نقيب الصحفيين الأستاذ الصادق الرزيقي أن يدفع بوجهة نظر مناوئة، ويدافع عن موقف الاتحاد الرافض لبث هذا المسلسل، كون العمل يتعرض للمهنة بالتشويه ويبث صورة مغلوطة للصحافة والصحفيين، الرزيقي قال إن مسلسل (بيت الجالوص) لم يتم إيقافه بناء على رغبتهم، لأن المدى الزمني بين خطابهم والإيقاف غير كافٍ، وذهب إلى أن الاتحاد جاءته احتجاجات من صحفيين وصفهم بالكبار، يعتبرون أن لكل مهنة قدسية وأن الصحف يفترض أن تكون مدافعة عن حقوق الناس وحاملة لمشعل الوعي والتبصير ومحاربة الفساد، وعندما ترسم لها صورة فاسدة، فإن هذا يطعن في مصداقيتها، ولذلك كان رأي هؤلاء الرموز أن المسلسل فيه إساءة بالغة، ومن هنا استمعوا لعدد من الحلقات وتوصلوا لنفس النتيجة: المسلسل ظالم ومجحف. ويرى الرزيقي أن أي عمل إبداعي فيه صراع بين الخير والشر، وليس من الإحقاق أن تقدم الصحفي في صورة الشر المطلق. رئيس اتحاد الصحفيين قال إنه استمع شخصياً للحلقات ووجدها أسوأ مما سمع، واكتشف أن كاتب السيناريو غير ملم حتى باللغة السائدة في الوسط الصحفي وبيئة العمل، ويقول إن من واجبهم حماية المهنة من الظلم والتعدي، حماية معنوية في المقام الأول. وحول تأثيرهم في حرية التعبير بمنع عمل إبداعي، يرى الرزيقي أن هناك فرقا كبيرا بين الحق في التعبير وتغبيش الصورة، حرية التعبير ضمن الحقائق الموضوعية، لكن الدراما عالم متخيل، والصورة التي تنعكس في ذهن المتلقي صورة مباشرة، كما أن المجتمع السوداني لم يصل مرحلة من الوعي ليفرق بين الواقع والمتخيل، ولذلك تترسخ انطباعاتهم عن الصحافة من هذا المسلسل. لكن ثمة سؤال عن اللجوء إلى القضاء الذي كان من الممكن أن يتخذه الاتحاد كخيار حضاري، هنا يعتبر الصادق الرزيقي أن إجراءات اللجوء إلى القضاء تأخذ زمنا، وعندما يتم إصدار قرار من المحكمة يكون المسلسل قد أذيعت كل حلقاته وأدى للنتيجة السلبية، ويستطرد بالقول إن مدير الهيئة هو سلطة قائمة ويمكنه إيقاف بث المسلسل إلى حين مراجعته، ويعترف الرزيقي أنه ليس من حق الاتحاد إيقاف المسلسل ولذلك لجأوا للكتابة والشكوى وكانت أقرب للالتماس من كونها وصاية، كما أنها ليست أول مرة توقف فيها الإذاعة عملا دراميا، والإيقاف واحدة من وسائل المعالجة بدليل أن الإذاعة استشعرت خطورة المسلسل. رمتني.. وانسلت هناك وجهة نظر مغايرة، تعتبر أن اتحاد الصحفيين مارس دوراً ظل يشتكي منه، على اعتبار أن الأعمال الإبداعية لا تجابه بالأفكار الشمولية منعا وحجبا ووصاية، وكان أمامهم خياران الذهاب للقانون بوصفهم جهة متضررة أو إنتاج مسلسل آخر يعيد لصاحبة الجلالة رونقها المفقود، على مقربة من ذلك تبدو إفادة الأستاذ فيصل محمد صالح، فيصل قال ل(اليوم التالي) إنه لم يستمع للمسلسل ابتداءً، لكن من ناحية مبدئية فإن أي وسط فيه الصالح والطالح، ومن حق أي عمل أن يقدم نموذجا لصحفي فاسد أو محام فاسد أو مسؤول فاسد، لأن هذا تجسيد طبيعي للواقع، وبالضرورة ليس من حق نقابة أو جهة أن تحتج، لأن احتجاجها هنا إنكار للواقع، وبالتالي فإن المسألة تكون غير طبيعية لو قدمت عشر مسلسلات - على سبيل المثال- تدور حول فكرة واحدة، هنا يمكن أن يكون الاستهداف حقيقيا، ويمضي فيصل إلى أن الصحافة نفسها تعاني مشكلة كبت ومصادرة، ولذلك أي جسم ينتمي للصحفيين يفترض أن يكون أكثر حساسية في قضايا الحريات، وإذا شعرت الجهة المتضررة أن هناك ما يستحق الاحتجاج فعليها أن تلجأ لأساليب كثيرة ليس من بينها المطالبة بالإيقاف أو الحجب حتى لا تقع في التناقض، ويشير الكاتب الصحفي المهتم بقضايا الحريات إلى أن اتحادي الصحفيين والمحامين بالتحديد تسمى نقابات رأي، والدفاع عن حرية الرأي جزء من مسؤوليتها، وبالتالي لا يفترض أن تمارس سلوكاً يتناقض مع مسؤولياتها الطبيعية. بقى أن نقول إن المسلسل توقفت حلقاته بالفعل منذ أكثر من أسبوع ولكن الجدل حوله لم يتوقف، وبدأ يتشظى في كل مكان، حتى إن الجالوص تداعى ظله في حيز آخر لم يطله تردد الإذاعة السودانية، وأضحى قرار مدير الإذاعة قضية (رأي عام) أطرافها ثلاث جهات، الاتحاد والإذاعة وجهة أخرى مجهولة، ومن هنا ينبع سؤال المليون دولار: من هم الصحفيون الكبار الذين أبدوا احتجاجهم واختفوا في محضر الإعلان؟ وبالرغم من أن الإذاعة تخفي الصورة، ولكن هنا الصوت أيضاً غير متاح، علاوة على ذلك فقد بدأت الإذاعة تستعيد صورتها التي حاول أن يهزها الإعلام المرئي، كونها تتولى الدراما بعناية فائقة، ومن هنا تثير سلسلة "السايكو دراما" كل هذا اللغط والغبار اليوم التالي