رواية 'الديكاميرون' للإيطالي جيوفاني بوكاشيو أخذت فكرتها وأسلوب السرد المتوالد وأجواء الحب واللهو والمجون من كتاب 'ألف ليلة وليلة'. ميدل ايست أونلاين دبي - خاص الهروب من الموت عن طريق سرد الحكايات قديما قال الجاحظ "المعاني مطروحة في الطريق" بمعنى أن المعاني ممتدة وغير محصورة بألفاظ محددة، وهي متاحة لمن يمتلك الصياغة اللفظية لها، وهنا تكمن أهمية اللغة القالب الذي يشكل المعنى ويجسده. لكن في مسألة السرقات الأدبية إلى أي حد يا ترى يجب أن تقف عنده هذه المقولة وما هو الحد الذي يفصل بين السرقات الأدبية وبين الادعاء بالملكية اعتمادا على هذه المقولة؟ هذا الموضوع شغل نقاد الأدب في مختلف العصور كونه ظهر منذ أن ظهرت الفنون الإبداعية ونال اهتماما كبيرا وقد عالجه النقد العربي قديمه وحديثه في دراسات كثيرة من أهم أهدافها هي الوقوف على أصالة العمل الأدبي وصحة نسبته إلى أصحابه، وتقصي مقدار ماجاء فيها من أفكار إبداعية جديدة ومن أفكار متبعة ومنسوخة أو مقلدة. كما أظهرت الدراسات النقدية جوانب الاتفاق والاختلاف بين العمل الأصيل والعمل المبتدع وهذا احتاج من الدارسين فطنة ودراية عميقة وسعة معرفة بالأدب على مر العصور حتى يتسنى للدارس الحكم جوانب الإبداع والاحتذاء في العمل الأدبي. ولمفهوم السرقة كما جاء في المعجم الوسيط "الأخذ من كلام الغير وهو أخذ بعض المعنى أو بعض اللفظ سواء أكان أخذ اللفظ بأسره أم المعنى بأسره" تاريخ طويل وقضايا كثيرة وأمثلة مشهورة كثرت الكتابة عنها وتناولتها الدراسات بتفصيل وتقص وأحيانا بإشهار. لم يسلم الكاتب الإيطالي جيوفاني بوكاشيو الذي يعد رائد القصة في العالم وصاحب الأثر الخالد المسمى "الديكاميرون" أو "الليالي العشرة" وهو مجموعة قصص قصيرة تصل إلى المائة تقريبا، تروى في عشرة أيام على لسان عشرة شباب وتحكي بفنية عالية عن أحداث وقعت في القرون الوسطى وامتزج فيها الأدب بالتاريخ والواقع في الخيال، وكل حكاية منفصلة تروي أحداثا لشخصيات مختلفة، لم يسلم من تهمة السرقة الأدبية فقد قارن كثير من النقاد والدارسين هذا العمل بكتاب "ألف ليلة وليلة" الشهير الذي يحتوي على مجموعة كبيرة من القصص التي وردت في غرب وجنوب اسيا بالاضافة إلى الحكايات الشعبية التي جمعت وترجمت إلى العربية خلال العصر الذهبي للاسلام، والذي اتخذ من شخصية شهرزاد راوية للأحداث في ليالي الملك شهريار. أورد بوكاشيو قصة من "ألف ليلة وليلة" وضعها بين حكايات اليوم الأول بعنوان "كل النساء سواء"، وهي نفس الحكاية التي روتها شهر زاد في الليلة (568) ضمن القصص التي تتحدث عن دهاء المرأة وكيدها ومكرها. وكما في "ألف ليلة وليلة" حيث تلجأ شهرزاد لحماية نفسها من سيف الملك إلى رواية الحكايات والقصص، فإن بوكاشيو أقام روايته على أساس هروب سبعة من الشباب وثلاث من الفتيات من الموت هلعا من وباء الطاعون الذي اجتاح فلورنسا في العام 1348، ويذهبون للعيش في قصر فخم في الريف حيث صفاء الطبيعة، ويبدأ من خلال هذه الشخصيات في ذم المدينة التي تجلب التعاسة والهموم والموت لساكنيها. ومن أوجه التشابه التي استشهد بها القائلون بتأثر "الديكاميرون" بكتاب "ألف ليلة وليلة" أنه وعلى الرغم من أن كل قصة في عمل بوكاشيو مستقلة بذاتها، غير أنه يسجلها على غرار "ألف ليلة وليلة"، إذ يربط بينها بتعليق أو مقولة أو ملخص ويشير في بداية كل قصة إلى تأثير القصة السابقة في المتلقي وهذا تماما أسلوب القص في النسخة العربية. وكما يحدث في قصص شهرزاد في لياليها الألف ليلة وليلة يتدخل بوكاشيو في الأحداث أحياناً، فيدخل في السرد ليدافع عن نفسه في مواجهة انتقادات مفترضة من بعض القراء بطريقة لا تخلو من التهكم والسخرية، وقد بين المتتبعون لأثر "ألف ليلة وليلة" في الآداب العالمية أن بعض الحكايات في "الديكاميرون" تتقاطع مع مناخات العمل العربي حيث أجواء الحب والمجون والوله والغواية مروية بنفس الأسلوب السردي المتوالد. يقول الباحث المغربي الدكتور الطيب بوعزة في دراسة له عن العملين الخالدين "نلاحظ أن كتاب الديكاميرون مجموعة أقاصيص مضمومة في سياق حكاية كبرى، مثلها في ذلك مثل ألف ليلة وليلة لكن هناك أيضا شبه آخر وهو علاقة السرد بالموت فإذا كانت شهرزاد لجأت إلى فعل السرد لمقاومة خطر الموت، فإن الديكاميرون ينسج تقريبا ذات العلاقة، إنه يبدو توكيدا للارتباط الوجودي الصميم بين لحظة الموت وفعل السرد".