قضية الفساد في السودان بدأت تتصدر المشهد السياسي؛ لأن الحوار حولها أخذ بعداً جديداً نتيجة لقضايا عديدة كشف عنها النقاب وبعضها وصل إلى ساحات المحاكم وبعضها لا زال في طور التحري، وكثير منها تتداوله المجالس والمنتديات غير أن كل هذا لا يشكل شيئا سوى الجزء البارز من جبل الجليد الذي لا زال أغلبه مخفياً وسط ركام جليدي ضخم، لكن الظاهرة الملفتة للنظر والمثيرة للاهتمام هي أن بعض المسئولين الحاليين بدؤوا يَشْكُون من انتشار الممارسات الفاسدة، بينما كشف مسئولون سابقون عن وقائع محددة وبعضهم جاءت إفاداته عبر منابر ابتدر عقدها البرلمان، ولعل الأبرز في هذه (الكشوفات) ما أشار إليه وزير المالية الأسبق في حديثه حينما روى واقعتين حسب ما هو منشور من أقواله أولاهما: أن مسئولا عرف بحكم منصبه أن قرارا قد صدر بتخفيض قيمة العملة السودانية فاستولى على مليار جنيه من أموال المؤسسة التي يديرها واستثمرها في شراء دولارات وانتظر إلى حين إعلان قرار التخفيض وما أدى إليه من ارتفاع كبير في سعر الدولار في السوق الموازي فباع الدولارات محققاً لنفسه ربحاً ضخماً ثم ذهب للمسئولين وأعلن عن الذنب الذي ارتكبه وقبلت السلطات (تحلله) من المال الحرام ليعيد المليار الذي اختلسه ويحتفظ لنفسه بالأرباح الضخمة التي حققها فهي بموجب بدعة (التحلل) أصبحت ملكاً مشروعاً وقانوناً في حوزته!! وفي واقعة أخرى سافر أحد المسئولين إلى ولاية (دبي) في إجازة قصيرة أشرف خلالها على تأسيس شركة باسمه ثم عاد للسودان ومن موقع مسئوليته الحكومية أرسى لصالح شركته عطاءً حكومياً كبير القيمة دون أن تكون لشركته القدرة أو الإمكانات لإنجاز العمل!! هذا الضرب من الفساد يحدث في منطقة رمادية يصعب ملاحقتها والكشف عنها ولا تصل إلى تقرير المراجع العام ولا لساحات المحاكم فهي تكتمل في سرية وتعالج داخل الجهاز التنفيذي دون شفافية ولا تسرب المعلومات إلا حين يكشف عنها مسئول سابق. وهذه الوقائع تعكس خللاً مؤسسياً ذلك أن الرقابة على الضوابط ضعيفة والجهاز الحكومي مستعد للمساعدة في حالات الإفلات من العقاب عبر ممارسات حكومية مستقرة مثل بدعة (التحلل) التي تستعيد أصل المبلغ المختلس وتترك المفسد حراً؛ ليتمتع بثمار ما اختلسه بعد أن يدفع أصل المبلغ، ولا يقل عن هذه الممارسة سوءاً إضفاء حصانة على أغلب كبار المسئولين في الدولة بما فيها الأجهزة النظامية وهي ممارسات تضرب عرض الحائط بقاعدة دستورية راسخة وهي أن جميع المواطنين متساوون أمام القانون فيضفي حماية قانونية على متهمين لا يستحقون حماية وتوضع العوائق أمام الإسراع في رفع تلك الحصانة، أول دستور سوداني بعد الاستقلال صدر عام 1956م كان يضفي الحصانة فقط على أي أقوال يدلي بها النائب البرلماني تحت قبة البرلمان، وليس هناك أي حصانة لأحد سواها، أما الآن فإن كل من يتولى مسئولية يتمتع بحصانة يصعب تماما انتزاعها، وقد ضج الكثيرون بالشكوى من كل أصناف الممارسات التي تمنع سيادة حكم القانون، وكاعتراف جاء متأخرا من الحكومة بضرورة مكافحة الفساد شرعت في تشكيل مفوضية لمحاربة الفساد على أساس قانون عهدت للجنة اختارتها بنفسها لإعداده ورغم أن كثيرين كانت لديهم ملاحظات على مسودة القانون التي أعدتها تلك اللجنة وكانوا يسعون لإصلاحها وجعلها متواكبة مع القواعد والأسس المتعارف عليها عالميا لمكافحة الفساد إلا أن مجلس الوزراء آثر أن يجهز تماما على مشروع القانون عندما شطب المادة الوحيدة التي كانت تعطي القانون حق توقيع عقوبات مشددة على المفسدين متى ما يثبت جرمهم أمام المحكمة فدخلت المسودة المجلس وهي تحمل تلك المادة وخرجت من المجلس بعد أن جرد القانون منها!! إن الفساد يستشري بصورة اكبر حيثما ضاق مجال الحرية التي تتيح للناس أن يتابعوا ويكشفوا ما يحدث ويجدون الفرصة للتعبير عن رؤاهم وأفكارهم ومعلوماتهم عن تلك الممارسات الفاسدة في أجواء تتوفر فيها الشفافية وترفع حواجز السرية عن كل المعلومات المتصلة بالرأي العام ويتوفر حكم القانون الذي يساوي بين الجميع ولا يضفي حماية على أحد أو يسمح بالإفلات من العقاب وكلما ضعفت هذه الأسس أو اختفت ارتفعت وتيرة الفساد حتى يخلق لنفسه دولة داخل دولة. وحتى لو توفرت كل هذه الأسس والقواعد لابد من وجود إرادة سياسية ونظام حكم مؤسسي يتيح الرقابة الكاملة والانضباط في الأداء عبر أجهزة كاملة الصلاحيات والاستقلالية وملتزمة بمكافحة وملاحقة كل أوجه الخلل التي تخلق بيئة مواتية للانحرافات وتوفر الحماية الكافية لمن يتصدون لمحاربة الفساد؛ لأن المستفيدين من الممارسات الفاسدة قد اكتسبوا تجارب وأساليب متعددة ومصالح راسخة وسيسعون بكل قواهم لخلق مراكز قوى في مواجهة الجهود المبذولة لمحاصرة أنشطتهم. إنها معركة مجتمعية كبيرة لها جوانبها السياسية والاقتصادية التي لابد من استصحابها في أي مشروع جاد لمحاربة الفساد الذي أصبح من الأسباب الرئيسة في زيادة الفقر والتمايز الاجتماعي الخطير وخلق طبقة ثرية ونافذة تدافع عنه!! العرب