حينما تقرأ تصريحات وزير الدولة بوزارة المالية عبد الرحمن ضرار، تشعر كما لو أننا نعيش في مدينة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، أو أننا نحيا في عهد عمر بن الخطاب. ولكن حينما تنظر إلى الواقع الذي نعيشه، تتيقن بأننا نتموضع في القاع تماماً، وتصل إلى قناعة واحدة وإلى حقيقة وحيدة، وهي أننا نعيش نموذجاً شائهاً للعدالة الاجتماعية المُضمّنة في دستور الإسلام..! ضرار يقول إن أي مسؤول اعتدى على المال العام، لن يكون له مكان في الحكومة.. وظني أن هذا أمراً جيداً وباعثاً على الانشراح، لكنه يظل محض حديث يُطلق هكذا في الهواء، لأن الممارسة السياسية لحزب المؤتمر الوطني تعكس نقيضه تماماً.. وكلكم تعلمون أننا لم نشهد معاقبة سُراق المال في عهد الإنقاذ، بل كثيرا ما شهدنا مكافأة المفسدين بمزيد من الترقي المُبهر..! يحدث هذا في حين أن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، يجزم بأنه لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطع محمدٌ يدها.. وهنا مكمن العلة والفرق..! وليت السيد عبد الرحمن ضرار توقف عند هذا التهويل، القائل بأن أي مسؤول اعتدى على المال العام، لن يكون له مكان في الحكومة، وليته اكتفى بما باعه لنا من وهم، لكنا قد صدقناه، ولكان ذلك على النفس أهون، لكن "ضرار" مضى إلى أكثر من ذلك، وأذاعنا سراً مباغتاً وعظيماً، بأن الحكومة كوّنت لجنة لمتابعة التجاوزات وحالات الفساد التي رصدها تقرير المراجع العام، تمهيداً لمعاقبة المتورطين فيها..! كنا نود تصديق السيد ضرار، وتمنينا ذلك، ولكن تقرير المراجع العام نفسه يصر على تكذيب مزاعم ودعاوى الرجل، لأنه اعترف – أي التقرير - بأن هناك تجاوزات حدثت في العام السابق، لم تجد الملاحقة المطلوبة، لأن يد العدالة الباطشة لم تتحرك لتطال المتورطين فيها. فكيف نصدق السيد ضرار بعد كل هذا..؟! المثير للشفقة، أن تقرير المراجع العام ظل يؤكد دورياً بأن نسبة استرداد المال المنهوب، لا ترقى إلى حجم التجاوزات والفساد الذي يحدث سنوياً..! أما المثير للغثيان، فهو أن الوزير توعّد إخوانه من أهل الاستوزار الجالب للنعم وللبنايات الشواهق، بالإبعاد من توليفة الحكومة، حال ثبوت تورّطهم في نهب المال العام. ونحن بدورنا نُطمئن السادة الوزراء – استناداً إلى وقائع كثيرة - بأن شيئاً من هذا لن يحدث، إذ أن الحكومة لم تقدم – طوال ربع قرن من الزمان – أيما وزير إلى مقصلة المحاسبة أو الإبعاد بتهمة الفساد..! وطبعاً، لست في حاجة لكي أجزم بوجود الفساد، لأن تقرير المراجع العام نفسه – وهو ذراع حكومي يتبع للمؤتمر الوطني – يخرج إلينا سنوياً، بفواجع ومُبكيات، عن حجم الاختلاسات والتجاوزات والفساد. ولست في حاجة إلى إدانة وزير بعينه، لأن البنايات الشاهقة المملوكة لبعض الدستورين تفضح الأيادي المرتعشة التي تعبث بمال الشعب، خلسة ومن وراء أعين الرقيب الانتقائية..! لست في حاجة إلى ذلك كله، فهو معلوم بالضرورة، لكنني في حاجة إلى التأكيد بأن محاسبة المفسدين أمر بعيد المنال، وإن شكلت الحكومة لذلك اللجان، وإن شرعنت لذلك بالقوانين. ببساطة لأن تجارب المؤتمر الوطني في محاربة المفسدين، برهنت على وجود مافيا وعراقيل مصطنعة، بمقدورها وأد أيما بارقة أمل، أو أيما هبّة للبطش بسُراق المال العام. نُشر بصحيفة (الصيحة)