"بالحيل سمعت بيه، إلا ماني عارفاه بعمل فوق شنو".. بهذه العبارة تجيب الحاجة رقية من مناطق الحلاوين، على سؤال عن والي الجزيرة محمد طاهر أيلا. وبتعبير آخر يمكن تجريد معنى حديثها؛ "نعم هو حاضر بكثافة في الإعلام، ولكننا لا نشعر بوجوده". تم تعيين أيلا في منتصف العام الماضي، 2015، وبالتحديد في شهر يونيو، وتأخر كثيراً في إنفاذ التكليف، حتى يكاد يكون آخر الولاة الذين تسنموا مواقعهم، ما سرب إحساساً بأنه غير سعيد بهذا الاختيار، أو على الأقل، كان يتمنى ولاية أخرى مثل الخرطوم. بعد ذلك هبط في حاضرة الجزيرة مدني، وأعمل معاوله في هدم دولة الفساد -كما يردد أنصاره- بيد أنه في غمرة انتصاره ذلك هدم أشياء كثيرة، من بينها تجربة الحكم الفيدرالي نفسه كما سيتضح لاحقاً، لكن أكثر ما أُوخذ عليه تهميشه أبناء الولاية وتجاهلهم تماماً، والإستيثار بالقرار والرأي. 1 "ليالي لقانا" ابتداءً كان القرار رقم (42) والذي قضى بإيقاف إيجار العربات لمنسوبي الخدمة المدنية وإنهاء عقوداتها فوراً، وقرار آخر بإعفاء المدير العام لوزارة المالية، علاوة على التمحيص في كشف المرتبات والعثور على أسماء موتى يصرفون رواتبهم، وكانت تلك القرارات مثار حفاوة بالغة. بعد ذلك لم يخيّب أيلا المظان وهو يشرع في تأسيس نسخة مشابهة لمهرجان السياحة والتسوق، والبحث عن قناة فضائية تبث تلك الليالي الساهرة، وتركز الضوء أكثر على طلته البهية، وهو يهز بعصاه؛ فإذا هى لامعة تخطف الأبصار. كانت الموارد تحت خدمة ذياك البريق.. يقضي الشعراء والساسة والفنانون سحابة يومهم ما بين الخرطوم ومدني، ليجملوا الحياة هناك ولسان حالهم يقول: "ﻟﻴﺎﻟﻲ ﻟﻘﺎﻧﺎ ﺟﻤﻴﻠﺔ ﻛﺎنت، كانت ﻳﺎ ﺳﻼﻡ.. ﺃﻓﺮﺍﺡ ﻭﺳﻤﺮ ﻭﺃﻏﺎﻧﻲ ﻭﺍلدنيا ﻣﻨﻰ ﻭﺃﺣﻼﻡ"، وتستحيل كل أزمات الولاية إلى مهرجانات، وتعتقل مدني نقطة الضوء لبرهة ليست قصيرة من الزمن، بينما تلعق بقية القرى والنجوع جراحها، جراء الإهمال والتجافي. 2 إفقار المعتمديات نحن الآن في محلية الكاملين.. لعلها تنتمي للخرطوم بحكم الارتباط والجوار أكثر من انتمائها لمدني، وقد طالب عدد من أعيانها من قبل بالانضمام لولاية الخرطوم لتحظى بالعناية المفقودة، بعدها سوف ننتقل إلى محلية الحصاحيصا، ولن نتجاهل حادثة المعتمد السابق بابكر عبد الرازق، الذي فضل الاغتراب عوضاً عن الجلوس على مقعد وثير دون صلاحيات، ودون قدرة على العمل، وبلا موارد للتنمية، وهو مربط الخيل الذي جعل المعتمديات كلها محض لافتات، وجعل السيد المعتمد في المناقل وأم القرى وشرق الجزيرة والحصاحيصا، دون قرار؛ أو كما وصفه أحدهم: "لا بيحل ولا بيربط".. وقد وجه الوالي بتحويل كل موارد المحليات إلى الخزنة المركزية، ومنحها فقد ما يكفي لتموين السيارات، وقضاء بعض الاحتياجات الصغيرة، والحال نفسه انعكس على الأداء المالي، والتحصيل الذي تقلصت عوائده. وبالنسبة للوحدة الإدارية للكاملين فإنها تقوم بتوريد ستين ألفاً شهرياً، وتأخذ ثلاثة آلاف فقط -أي 5%- مما أدى إلى ضعف نسبة التحصيل. في الماضي كان نصيبها في الموارد يخصص جزء كبير منه لإصحاح البيئة وصيانة المدارس والمستشفيات، وكان ثمة صندوق يسمى صندوق الموارد اختفى بالضرورة، وانتشرت جيوش الذباب والبعوض وفقدت كثير من المدارس القدرة على تسيير شئونها، ما اضطر بعضها إلى الاستعانة بالطلاب. بعد ذلك جاء قرار إيقاف الوظائف العمالية، وانتهى الحال بأزمات متناسلة في الأرياف، وإنشاء هيئة النظافة في مدني، لتقوم مقام الأخريات، وتستأثر مدني بالنصيب الأكبر في كل شيء؛ ما رسخ انطباعاً لدى الكثيرين بأن أيلا دائماً يعادي الريف، ويتجاهله، بدلالة تهميشه لطوكر وامتدادتها عندما كان والياً للبحر الأحمر، وحرصه على أن تكون بورتسودان هى الفاتنة المزينة بالأضواء. ويحفز المسلك الأسئلة لتقفز على جلباب تجربة الرجل الثانية كوالٍ، هل يكره حامل الدكتوراة الفخرية القرى ويحبذ المدن؟ ولم لا يعبأ بها ولا يزُورها؟ وهل تصلح تلك الوصفة في تجميل العواصم في ولاية تتميز بالكثافة السكانية، ويعمل معظم أهلها في الزراعة بعيداً عن المدن الضّبابية سّرابية الكآبة وحائط التيه؟ 3 بطل "الأنترلوك" والزينة لا مفر من التحديق في تجربة الرجل، والتي يصلح عليها الحكم -دون مبالغة- بأنها تجربة شخص مولع بالظل القصير، بمعنى أنه يختار جغرافيا محدودة، قد تكون مدينة أو عاصمة ولاية، فيعمل فيها كل جهده، من نظافة وتخطيط، ويكسوها بالأسفلت، والأشجار، حتى تبدو غرماً في عيون الناظرين، وتنسحب كل الحياة إليها، لتكون محط اهتمام الناس، وتظهر لمساته بسرعة فائقة، وغالباً ما يحج لها المسؤولون والمبدعون، وغالباً ما تزدهر في غضون أشهر قليلة، وتخرج بعض الجموع الملاصقون لها يهتفون: "أيلا حديد"، حتى وإن كان بصحبته نافذ من القصر الجمهوري. هنا بطل الأنترلوك والزينة.. هو الوالي وحده، وتكاد تكون نفس الأقلام التي كانت تحج إلى بورتسودان تختصر الآن الطريق إلى مدني، لتسكب ذات القصيدة؛ رجل الإنجازات المهولة.. لكن الصورة بالنسبة لآخرين لا تبدو كذلك، ففي الوقت الذي انهد المستوى الثالث من الحكم الفيدرالي، وتمت مصادرة سلطات المعتمديات، توقفت الطرق الزراعية، طريق المسيد المعيلق، وطريق ود السائح، وطريق المناقل، وسعى أبناء الهلالية إلى ردم الفجوات نحوهم بجهد خالص، كان مرسوماً منذ عهد الوالي السابق محمد يوسف، تعطل تلك الطرق التي تم التصديق بميزانيتها منذ عشرات السنين، ضاعف أعباء الوالي، سيما وأنها طرق تربط بين مناطق الإنتاج والتسويق، وبدونها تفقد الخضروات قيمتها ونضارتها. 4 "وجع الولادة" تبدو المشاهد نفسها ونحن ننتقل إلى محلية الحصاحيصا، ويكفي أن تلقي نظرة على دور السينما التي كانت تستأثر بالأخيلة والقلوب في السابق، ويكفي أن تطل على المدارس والمستشفيات، حيث توقفت البدلات التي كانت تمنح للأخصائيين ليبقوا في المستشفيات الريفية، ما أرغم الإخصائيين إلى هجر تلك المستشفيات، وضاعف معاناة المرضى. بل أن المأساة نفسها كانت حاضرة منذ حادث الحركة المشؤوم الذي أدى إلى مصرع أربعة من كبار اختصاصيي النساء والتوليد في مستشفى مدني، وكان من بينهم الدكتور عبد الرحيم حجازي الذي هو بمثابة أب روحي للجميع، وكان أكثر ما بكته ورفاقه النساء في وجع أعظم من وجع الولادة، وفشلت الولاية في تعويض غيابهم، رغماً عن أنه لا يمكن تعويضهم بالأساس، وتعاظمت الفجائع بإنتشار مرض السرطان في الولاية، واحتلت الجزيرة المركز الأول دون منازع، وأظهرت إحصائية لمعهد أبحاث السرطان في مدني أن نحو 40 ألف مريض يترددون على المعهد سنويا. 5 "عيشتين بجنيه" قبل أن نتوغل إلى الداخل، حيث تسهر مدني في حفل صاخب يحييه الموسيقار محمد الأمين، وتصحو بملامح فاترة. لقد رقصت كثيراً في الأسابيع الأخيرة، وتعبت أيضاً من الرقص. في الطريق الذي يفصلها عن الحصاحيصا تتعثر السيارة بالتواءات مخيفة، وتكاد السيارت تتصادم وهى تسب بعضها جراء الضيق. في الماضي وقبيل أن يتيسر السفر بالطائرات كان أيلا يقطع الطريق الشرقي نحو مسقط رأسه عبر هذه المفازات، مروراً بسنار وكسلا، واليوم بقلب الراعي يتحسّس الخطى في جغرافيا مأزومة، هكذا تبدو المناظر؛ لا شيء سوى جذوع الأشجار اليابسة و(فلنكات) السكة الحديد المنهوبة، الترع مكتظة بالحشائش، ثمة أطفال يعبثون بحمار يتضور جوعاً، يركلونه بشدّة دون أن يتحرك.. هو الحال إذن.. بعض النسوة بأسمال بالية يحملن الحطب الجاف على رؤوسهن ليستعضن به عن غاز الطبخ المعدوم، كما أن الجزيرة أول ولاية قررت مضاعفة معاناة المعيشة بأن جعلت عيشتين بجنيه، وقلصت أوزان الخبز..!! أطلال المشروع تفوح منها رائحة الفصول الميتة، المشروع الذي تعالت الصيحات ليترك أمره للوالي، ويكون حاضراً بقوة في مجلس إدارته، لكنها قضية متشابكة، إذ أن المشروع قومي، وتقاطعاته ممتدة، ومأساته طويلة، لكن النظرة التي تختبئ في عيون أبناء مدني، بعد أن تجملت أكثر للحاضرين تقول؛ كيف ستصمد هذه المدينة في مواجهة الخريف المقبل، والطرق أضحت أعلى من البيوت، وقليل من المياه يمكن أن يغمر المنازل عوضاً عن أن تنصرف في المجاري المسدودة؟ كيف..؟ اليوم التالي