منسق الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية مارتن غريفيث: المدنيون في الفاشر يكافحون بالفعل من أجل البقاء على قيد الحياة    بايدن يؤكد استعداده لمناظرة ترامب    الأهلي يهزم مازيمبي بثلاثية نظيفة ويصعد لنهائي الأبطال    الأهلي يعود من الموت ليسحق مازيمبي ويصعد لنهائي الأبطال    أرنج عين الحسود أم التهور اللا محسوب؟؟؟    الصناعة.. قَدَر الخليج ومستقبله    وصول طائرة للقوات المسلّحة القطرية إلى مطار بورتسودان    شاهد بالفيديو.. ناشط سوداني يهاجم الفنانة عشة الجبل ويثبت غيرتها من زميلتها الفنانة مروة الدولية: (عرس الدولية حارقك وقاطع قلبك والغيرة دي ما حلوة)    السودان..تحذير خطير للأمم المتحدة    شاهد بالفيديو.. ناشط سوداني يهاجم الفنانة عشة الجبل ويثبت غيرتها من زميلتها الفنانة مروة الدولية: (عرس الدولية حارقك وقاطع قلبك والغيرة دي ما حلوة)    شاهد بالفيديو.. حكم كرة قدم سعودي يدندن مع إبنته بأغنية للفنان السوداني جمال فرفور    شاهد بالصور.. رصد عربة حكومية سودانية قامت بنهبها قوات الدعم السريع معروضة للبيع في دولة النيجر والجمهور يسخر: (على الأقل كان تفكوا اللوحات)    هل فشل مشروع السوباط..!؟    مخاوف من قتال دموي.. الفاشر في قلب الحرب السودانية    سوق العبيد الرقمية!    صلاح في مرمى الانتقادات بعد تراجع حظوظ ليفربول بالتتويج    أمس حبيت راسك!    راشد عبد الرحيم: وسقطت ورقة التوت    وزير سابق: 3 أهداف وراء الحرب في السودان    الصين تفرض حياة تقشف على الموظفين العموميين    (المريخاب تقتلهم الشللية والتنافر والتتطاحن!!؟؟    وكالة الفضاء الأوروبية تنشر صورا مذهلة ل "عناكب المريخ" – شاهد    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    "منطقة حرة ورخصة ذهبية" في رأس الحكمة.. في صالح الإمارات أم مصر؟    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    إيفرتون يصعق ليفربول بثنائية    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    إقصاء الزعيم!    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



موازنة العام المالي 2016م: العزف على أوتار الخيال

مدخل: منذ إنفصال الجنوب، زادت إلى حد كبير أجواء عدم اليقين المحيطة بمسار تعافي الأقتصاد السوداني نتيجة أثنين من التطورات السلبية المتزامنة. الأول هو الفشل في التكيف المالي مع الأنفصال؛ والثاني هو الزيادة المضطردة في عدم اليقين بشأن الأوضاع المالية العامة المتدهورة نسبة لعدم التكيف بكبح جماح الإنفاق الحكومي غير التنموي (الجاري) المتفلت. هذا الوضع يعكس الحاجة الماسة لإنتهاج سياسات قوية تعمل على تحسين الآفاق المتوقعة والحد من المخاطر التي تحيط بالإقتصاد، علماً بأن عدم وجود حيز في المالية العامة يتطلب إجراء إصلاحات هيكلية مكثفة ترفع الأنتاجية وتزيل الإختناقات التي تواجه الإنتاج وتغذي التنافسية علي أساس دائم. في هذا الإطار، تأتي موازنة الحكومة للعام المالي 2016م، خالية من أي عرض للأوضاع الأقتصادية العالمية والأقليمية الراهنة والمستقبلية، وتأثير ذلك على البيئة المالية والأقتصادية السودانية. أيضاً، وكما حدث في موازنة 2015م، فإن تقديراتها بنيت على الأعتمادات وليس على الأداء الفعلي/ التقديري لموازنة 2015م، ما يعطي حيزاً أكبر للتوسع في الإنفاق الجاري (جدول2). بالإضافة إلى ذلك، فإن تقديرات مؤشرات الإقتصاد الكلي يشوبها الكثير من عدم التناسق والإنسجام المنهجي، ما يؤشر إلى ضعف مصداقيتها وهشاشة الأهداف والسياسات التي بُنيت عليها.
مؤشرات الأقتصاد الكلي: حسب " تقديرات مشروع موازنة العام المالي 2016م"، من المتوقع أن يحققق إجمالي الناتج المحلي بالأسعار الثابتة معدل نمو كلي مقداره 6,4% بنهاية عام 2016م، بدعم من التحسن المرتقب في أداء الأقتصاد الحقيقي، خاصة الزراعة والصناعة، وبعض التعافي في أنتاج النفط والذهب وصادراتهما، مع إفتراض التراجع في حدة الصراعات المحلية والأقليمية. أما معدل النمو الكلي لإجمالي الناتج المحلي بالأسعار الجارية، والمتوقع أن يقفز من 585 في عام 2015م إلي 709 مليار جنيه في 2016م، سيصل إلى 21,2% حسب تضريباتنا (جدول1). فإذا طبقنا المنهج الصحيح بأن النمو الحقيقي يساوي النمو الكلي ناقص التضخم، فإننا نجد أن النمو الحقيقي المتوقع 8,2% وليس 6,4% حسب تقديرات الموازنة. هذا يعني ثلاثة أشياء: (1) خطأ في تضريب النمو الكلي؛ (2) خطأ في تقدير معدل التضخم؛ (3) سوء فهم في كيفية التوصل للنمو الكلي والنمو الحقيقي، وكل ذلك وارد في سودان اليوم. لكن الأهم هو أن معدل النمو الحقيقي يمثل القاعدة الأساسية لتقديرات الموازنة، وسوء تقديره له إنعكاسات سالبة على مصداقية ونوعية الأرقام والسياسات المقترحة في الموازنة.
أيضاً، هناك خطأ فهم النمو المرتفع الذي تركز عليه الموازنة العامة دائماً، لأن إرتفاع معدل النمو لا يؤدي بالضرورة إلى تحسين الأوضاع الإجمتاعية. فالنمو الجيد لا بد أن يشجع الأهداف النهائية لأي سياسة تنمية – أي تحسين مستويات المعيشة، خفض الفقر، وتقليل التفاوت الإجمتاعي. والنمو في السودان لم يحقق حتى الآن أي من هذه الغايات، ما يؤشر إلى عدم جودة النمو وعدم فائدته في تحسين الأوضاع الإجمتاعية والإقتصادية. لهذا لا بد من إعادة النظر في كيفية ضمان أن يكون النمو عريض القاعدة لكي يؤدي إلى تغيير النتائج الإجمتاعية إلى الأحسن بدلاً من التركيز فقط إلى حجم معدل النمو، بينما تستمر معدلات البطالة والفقر والتفاوت الإجمتاعي في الإرتفاع. وهذا يفترض أن يحقق صناع القرار الإقتصادي توازناً حكيماً بين دعم الإقتصاد وضبط أوضاع المالية العامة على المدى المتوسط.
بخصوص سعر صرف العملة الوطنية مقابل العملات الأجنبية الرئيسية، فقد أمن مشروع الموازنة في صفحة 31 على: " إستمرار العمل على إحكام وتنسيق السياسات المالية والنقدية وإتباع سياسة سعر الصرف المرن المدار والعمل على خفض الفجوة بين السوق المنتظم والموازي" ، دون تحديد حجم تلك الفجوة أو كيف ومتي سيتم خفضها. لكن إذا رجعنا إلى خطاب مشروع موازنة عام 2015م، صفحة 7، نجد أنه قد حدد " تضييق الفجوة ما بين سعر الصرف الرسمي والموازي إلى 30% بنهاية العام 2015م" ، علماً بأن الفجوة الكلية ما بين السعر الرسمي (6,2 جنيه للدولار) والموازي (8,8 جنيه للدولار) قد بلغت 42% بنهاية عام 2014م، وقفزت إلى 85% في نهاية عام 2015م نتيجة لإرتفاع سعر السوق الموازي إلى 11,45 جنيه للدولار، بينما بقى السعر الرسمي يدور في مكانه كحمار الشيخ في العقبة. في هذا السياق، فإن تضييق الفجوة بين السعرين يعني أن سعر الصرف الرسمي من المفترض أن يكون قد وصل إلى 8 جنيه للدولار بنهاية العام 2015م. لكن حتى هذا السعر، لن يوقف نشاط السوق الموازي ما لم يتم الضبط التدريجي الجاد لأوضاع المالية العامة وتحريك الإقتصاد الحقيقي لفك إختناقات العرض ونمو الإنتاجية المستدام وإستعادة التوازن في الإقتصاد الكلي.
فيما يتعلق بالتضخم، أستهداف مشروع الموازنة متوسط معدل تضخم كلي في حدود 13% لعام 2016م، مقارنة مع 18% لعام 2015م. لكن من الواضح أن هذا المعدل مجرد إستخارة لا يسنده منهج علمي ولا الحقائق على الأرض. صحيح أنه مع إستمرار تراجع الأسعار العالمية للنفط الخام إنخفض معدل التضخم الشهري إلى أدنى مستوياته في كثير من إقتصادات العالم في عام 2015م، نتيجة لهبوط أسعار المستهلك للوقود والغذاء. أما في السودان، فلقد ظلت أسعار المستهلك للوقود ثابتة وغير متأثرة بالتراجع في الأسعار العالمية للنفط الخام في عام 2015م، بينما إستمر معدل التضخم الشهري في الإنخفاض طوال العام، رغم التراجع الحاد في سعر صرف العملة الوطنية مقابل الدولار الأمريكي، الذي بلغ 30% في عام 2015م. إذا أخذنا في الإعتبار فقط الآثار التضخمية غير المباشرة لهذا الإنخفاض دون النظر إلى حركة سعر صرف الظل، الذي يعكس توقعات السوق لسعر الصرف المستقبلي، فإن نسبة زيادة الأسعار الكلية قد تصل إلى 45%. هذا يعني أن معدل التضخم لا يقل عن 55% مقارنة مع 38% لعام 2014م، ما يدل – للأسف – على أن إنخفاض الأسعار العالمية للنفط الخام لم يؤدي للحد من ضغوط الأسعار المحلية ومواطن التعرض للمخاطر الخارجية لأن الحكومة أستأثرت، كما سنرى لاحقاً، بتراجع الأسعار العالمية لنفسها وبالتالي حرمت الإقتصاد والعباد من فائدة الإنخفاض الحاد في تلك الأسعار.
أضف إلى ذلك، أن موازنة 2016م، ورغم الفرقعة الإعلامية حول بشرياتها وخلوها من أي أعباء جديدة على المواطنين، بدأت عامها بزيادات هائلة في أسعار السلع والخدمات نتيجة للآتي: (1) زيادة الربط الضريبي بنسبة 20%؛ (2) رفع أسعار غاز الطهي بنسبة 200%، دون وضع آلية لضبط سوق السلعة، ما أدى إلى تسارع إرتفاع وتعددية الأسعار؛ و(3) التصريحات الرسمية غير الموفقة للسماح للقطاع الخاص بإستيراد المشتقات البترولية من موارده الخاصة، أي بسعر صرف السوق الموازي، دون تحديد الآلية التي سيتم عبرها إنتقال سوق المشتقات النفطية من القطاع العام إلى القطاع الخاص بسلاسة تضمن إستقرار وعدالة الأسعار. كل ذلك يشير إلى أن هناك توجه لإخراج الحكومة نهائياً من سوق السلع والخدمات المدعومة وترك إدارته للقطاع الخاص وفق آليات سعر صرف السوق الموازي لكي يصبح بعد ذلك توحيد سعر الصرف والموازي مجرد عملية إجرائية. هذا يعني رفع الأسعار أولاً عن طريق القطاع الخاص ثم سعر الصرف الرسمي ثانياً، بدلاً من إصلاح سياسة سعر الصرفي الرسمي أولاً وتحريك الأسعار بعد ذلك. هذه السياسة كارثية إذا صحت قراءتنا لما وراء أكمة صناع القرار الإقتصادي، لأنها ستؤدي إلى فوضى عارمة في الأسواق وإلى تعقيد وتأجيل عملية الإصلاح المالي والإقتصادي، بما في ذلك إصلاح سياسة سعر الصرف الرسمي، إلى أجل غير مسمى. أما النمو المتوقع للكتلة النقدية (19%) لعام 2016م، مقارنة مع 21% لعام 2015م، فهو يتماشى مع نمو إجمالي الناتج المحلي بالأسعار الجارية، وقد يساعد نظرياً في تحجيم إرتفاع الأسعار وإستعادة الثقة في السياسات المالية والنقدية، لكن في ظل إستمرار السياسات المالية التوسعية وغياب الآلية للتحكم في عرض النقد (سعر الفائدة)، فلن تكون له فاعلية تذكر من الناحية العلمية.
الفرضيات الكلية لموازنة 2016م، التي سبق ذكرها، تضعف كثيراً من مصداقيتها في التعامل مع أوضاع البلاد المالية والإقتصادية المتردية. ففي جانب الإيرادات، بُنيت الموازنة على فرضيات تستهدف في غالبيتها زيادة العبء الضريبي على النشاط الإقتصادي والمواطن. فحسب تقديرات مشروع الموازنة، فمن المتوقع إرتفاعا الإيرادات الضريبية بنسبة 22%، لتصل إلى 48 مليار جنيه (جدول2)، ما يعادل 71% من إجمالي الإيرادات والمنح الخارجية المستهدفة، مع توقع إرتفاع الضرائب على السلع والخدمات، والتجارة والمعاملات الدولية بنسبة 26%و 13% حسب الترتيب، لتبلغ 44 مليار جنيه، أي مايساوي91% من الإيرادات الضريبية المستهدفة. رفع العبء الضريبي بمقدار يفوق معدل التضخم المستهدف بنسبة 69%، وبوتيرة أسرع من النمو الكلي لإجمالي الناتج المحلي، سيؤثر سلباً، خصوصاً على أسعار السلع الإستهلاكية الضرورية – كالغذاء والكساء – بالنسبة لشرائح المجمتع الضعيفة، ناهيك عن التداعيات السلبية لذلك على تحفيز الإنتاج وتشجيع الإستثمار، وإنعكاس ذلك على إضعاف النشاط والحراك الإقتصادي. للأسف، هذا ما لم يتم التحوط له في الموازنة، خاصة بعد الفشل في تقليص وترشيد الإنفاق غير التنموي، علماً بأن هناك 34% من الواردات ما زالت معفاة من ضريبة الوارد و49% معفاة من الضريبة على القيمة المضافة (تقديرات مشروع الموازنة، صفحة 25).
أما الإيرادات غير الضريبية، فيتوقع لها الإنخفاض بنسبة 15%، نتيجة للظروف الأمنية في جنوب السودان، التي ستأثر على تحصيل الرسوم المفروضة على نفط الجنوب، والتراجع الحاد (40%) من عائدات مبيعات النفط المحلي. إنسياب نفط الجنوب عبر السودان من المتوقع أن يدر على الخزينة العامة 7,2 مليار جنيه، مايعادل 11% من إجمالي تقدير الإيرادات والمنح الخارجية، في شكل رسوم عبور ومعالجات (3,1 مليار جنيه) وتحويلات (مساعدات) مالية إنتقالية (4,1 مليار جنيه). المخاطر التي تكمن هنا تتمثل في إحتمال إستمرارية الصراعات السياسية والعسكرية في جنوب السودان في المدى القصير على أحسن تقدير، بالإضافة إلى توقع بقاء الأسعار العالمية للنفط على مستوياتها المتدنية حتى منتصف عام 2017م، ما يستدعي رسم تصور لكيفية التعامل مع إحتمال عدم الحصول على الإيرادات المتوقعة من صادر نفط الجنوب، كلياً أو جزئياً، في جانبي الإيرادات والمصروفات المستهدفة في موازنة 2016م. أما بخصوص المنح الخارجية، فمن المتوقع أن ترتفع بنسبة 14% لتصل إلى 2,5 مليار جنيه، من 2,3 مليار جنيه في عام 2015م، وهذا تقدير واقعي من الناحية الكمية رغم الهبوط الحاد في الأسعار العالمية للنفط الخام وأثر ذلك على مساعدات الدول النفطية الداعمة للسودان كقطر، والسعودية وربما روسيا، بالإضافة إلى الصين، التي من المتوقع أن تشهد تراجعاً في معدل نموها الإقتصادي.
أما تقديرات مساهمة القطاعات الهامة في إجمالي الإيرادات العامة، فتشير إلى توقع (100) مائة ألف جنيه فقط من قطاع الموارد المائية والكهرباء، بينما تبلغ الجملة الكلية لتقديرات صروفات القطاع 528) مليون جنيه)، (مشروع الموازنة – صفحة 53)، ما يدعو للتساؤل عن أسباب دعم هذا القطاع بواسطة الخزينة العامة، التي لا سلطان لها على إيراداته ولا حتى على عائدات حصص مساهمة الحكومة فيه! فيما يتعلق بقطاع الدفاع والأمن والشرطة، والمفترض أن يكون مصدر إيرادات هائلة للخزينة العامة، فقد قدرت جملة إيراداته المتوقعة بحوالي 17,5 مليار جنيه، منها 16,2 مليار جنيه إيرادات جمركية، ما يعني أن 1,3 مليار جنيه فقط هي المساهمة الفعلية المتوقعة من هذا القطاع، وتحديداً من وزارة الداخلية. أما القطاع السيادي، الذي يبتلع 3,3 مليار جنيه من إجمالي تقديرات القطاعات، فمن المتوقع أن تبلغ مساهمته 466 مليون فقط، بينما تبقى مساهمة قطاعي النفط والطاقة في خانة الصفر! بالمقابل، يعتبر القطاع المتنوع أكبر مصدر للإيرادات العامة حيث يتوقع أن تصل إيراداته إلى 27,4 مليار جنيه منها: 7,2 مليار جنيه رسوم عبور وتحويلات إنتقالية من صادر نفط دولة جنوب السودان؛ 5,1 مليار جنيه مبيعات النفط المحلي؛ 2,4 مليار جنيه أرباح وفوائض الهيئات والشركات الحكومية؛ و 12,5 مليار جنيه رسم تركيز وفروقات أسعار المحروقات، وهذا يؤشر إلى أن الحكومة تتكسب من تراجع الأسعار العالمية للنفط الخام ومشتقاته كما أشرنا سابقاً.
في جانب الإنفاق الكلي، لم تتضمن الموازنة أي إجراءات ذات مغزى لخفضه أو إعادة ترتيبة ليتماشى مع شعار الموازنة، " الإنتاج من أجل الصادر وتحسين مستوى المعيشة"، (خطاب الموازنة، صفحة 17. ) بالعكس، تفترض الموازنة إرتفاع الإنفاق الجاري أو التشغيلي (غير التنموي) إلى حوالى 70 مليار جنيه في عام 2016م، من ما يقارب 60 مليار جنيه في عام 2015م، بنسبة زيادة مقدارها 12%، لتصل حصته إلى 87% من إجمالي الإنفاق الكلي (جاري+تنموي)، المتوقع أن يصل 77 مليار جنيه (جدل2). بالتالي، من المتوقع أن يزداد الإنفاق التشغيلي بنسبة 40% فقط خلال العامين 2015م و2016م، وبأكثر من 100% منذ إنفصال الجنوب، مع ملاحظة أن هذه النسب قابلة للزيادة لو بُنيت موازنات 2015مو 2016م على الأداء الفعلي كما هو متعارف عليه عالمياً، وليس على الإعتمادات التقديرية. لكن رغم التوسع غير المبرر في حجم الإنفاق الجاري المتوقع، فقد جاءت الموازنة خالية من تقديرات بعض أوجه الصرف الجاري، كمتأخرات الحكومة للقطاع الخاص (أكثر من ثلاثة مليار جنيه) وسداد الإستدانة المتوقعة للبنك المركزي (أربعة مليار جنيه). لذلك، فإن إجمالي الإنفاق الجاري قد يفوق كثيراً تقديرات الموازنة في نهاية العام، ما سيؤثر سلباً على حجم الإنفاق التنموي من أجل المحافظة على مستوى العجز المستهدف كما جرت العادة.
الملاحظ أيضاً، أن تقديرات الأجور والمرتبات (19,1 مليار جنيه، وتحويلات حكومات الولايات (18,9 مليار جنيه) تمثل 57% من إجمالي الإنفاق الجاري. وإذا أضفنا تقديرات الإنفاق المتوقع لشراء السلع والخدمات (8,7 مليار جنيه) ولدعم السلع الإستراتيجية كالقمح والمحروقات (9,2 مليار جنيه) إلى بندي الصرف السابقين، نجد أن هذه البنود الأربعة تستحوذ على 84% من تقديرات الإنفاق الجاري و 73% من إجمالي الإنفاق الكلي. هذا الوضع يطرح سؤالين مهمين عن: (1) الحاجة إلى وزارة مالية (وتخطيط إقتصادي كمان)، في الوقت الذي تبتلع فيه أربعة بنود فقط حوالى ثلاثة أرباع إجمالي إنفاق الحكومة، و (2) الكيفية التي ستواجه به الموازنة أي إلتزامات مالية قد تطرأ خلال العام المالي، كظهور فجوة غذائية، أو نشوب صراعات جديدة محلياً أو إقليمياً، بعد التضييق الشديد للحيز المالي للمناورة. في هذا السياق، فالحديث عن، "ترشيد وضبط الإنفاق الحكومي في مجالات سفر الوفود والمباني والأثاث "(خطاب الموازنة، صفحة26)، هو مجرد حرث في البحر.
أما النظر إلى توزيع تقديرات الإنفاق الجاري على القطاعت في موازنة 2016م، فيؤشر إلى أستحواذ قطاع الدفاع والأمن والشرطة والقطاع المتنوع على 76% من إجمالي تقديرات الصرف القطاعي (جدول3)، مقارنة مع 8% فقط لقطاعات الزراعة – بشقيها النباتي والحيواني، الصناعة والزراعة، الصحة والتعليم، مع ملاحظة الإنخفاض الحاد في حصة قطاع الصحة، والتحسن الطفيف في حصص الصناعة، بينما من المتوقع أن تتحسن بشكل ملحوظ حصة التعليم. ورغم أن هذا التحسن يعتبر خطوة في الإتجاه الصحيح، إلا أن توزيع الموارد العامة يكشف أن الطريق ما زال طويلاً لإعادة ترتيب الأولويات الإنفاقية في الموازنة بتوجيه الإنفاق العام نحو الإستثمارات العامة المعززة للنمو وخلق فرص العمل، ونحو المساعدة الإجتماعية الموجهة لفئات المجمتع المستحقة لذلك، بهدف إعادة التوازن السليم بين دعم الإقتصاد وضبط أوضاع المالية العامة في المدى المتوسط. فمن المؤسف أن يفوق الصرف السيادي الصرف على قطاعات الزراعة، والصناعة والتعليم مجتمعة في بلد فقير كالسودان، وأن يساوي الصرف على الضيافة الرسمية (724 مليون جنيه) حوالي نصف الصرف على التعليم. أيضاً هناك ملاحظة هامة، وهي أن 75% (12,7 مليار) من مصروفات قطاع الدفاع والأمن والشرطة، المقدرة بحوالي 17 مليار جنيه، مرصدة لتعويضات العاملين، و25% (4,2 مليار جنيه) لشراء السلع والخدمات، ما يعني أن الموازنة لا تتضمن أي إعتمادات إضافية لتمويل حاجيات القطاعات الأخرى.
على صعيد الدعم، فمن إيجابيات تراجع أسعار النفط الخام والغذاء عالمياً، تقليل دعم الخزينة العامة للمشتقات البترولية والقمح والدقيق، كما أن إنخفاض تلك الأسعار وأسعار المواد الأولية وبعض منتجاتها النهائية سوف يقلص فاتورة الواردات، ما قد يؤدي أيضاً إلى تحسين الميزان التجاري (جدول1)، وخفض معدلات التضخم إذا أستقر سعر صرف العملة الوطنية. لكن المدهش أن الموازنة تتوقع إنخفاض إجمالي دعم السلع الإستراتيجية بواحد مليار جنيه فقط (11%)، من 10,2 مليار جنيه في عام 2015م إلى 9,2 مليار جنيه في 2016م، مع توقع تراجع دعم المحروقات والكهرباء بنسبة 1% من 7,8 إلى 7,7 مليار جنيه في نفس الفترة. وبما أن متوسط سعر برميل النفط الخام (36 دولار) هبط حالياً إلى ما دون سعر النفط الخام المدعوم (50 دولار للبرميل)، فمن المفترض أن يكون الدعم قد تلاشى تماماً. لذلك من غير المفهوم إعتماد دعم المحروقات بحجم 5,6 مليار جنيه في موازنة 2016م، وهو ما يتعارض مع قول خطاب الموازنة (صفحة22): "... وسنستفيد من إنخفاض الأسعار العالمية بتحويل ما نوفره من موارد إلى تحسين مرتبات وظروف العاملين ومساعدة الشرائح الضعيفة...". أما "مساعدة الشرائح الضعيفة" المتمثلة في دعم 600 ألف أسرة فقيرة، فتعكس قمة الهزل والإستخفاف بالعقل البشري. 600 ألف أسرة تساوي ثلاثة مليون شخص، بمعدل خمسة أشخاص لكل أسرة، كما هو متعارف عليه عالمياً. إعتمادات دعم الأسر الفقيرة في موازنة 2016م تبلغ 1,125 مليونجنيه، ما يعادل 31 جنيه للفرد في الشهر، وخمسة جنيهات في اليوم للأسرة الواحدة، ما يساوي نصف طلب فول مصري!!
السمة الأخرى البارزة في موازنة 2016م، التي تستحق الملاحظة، هي توزيع تقديرات التنمية الثومية على القطاعات ذات الأهمية الإقتصادية والإجتماعية. للأسف الشديد، هنا لا بد من التعبيري عن خيبة الأمل الكبيرة في التراجع الحاد لحصة القطاع الزراعي في جملة تقديرات التنمية القومية من 19% في 2015م إلى حوالي 14% في عام 2016 (جدول4)، علماً بأن خطاب الموازنة (صفحة 27)، يقول "سيشهد العام القادم إهتماماً بالقطاع الزراعي لزيادة الإنتاج والإنتاجية لتأمين الغذاء ولزيادة الصادرات..."!! أما قطاع الصناعة، فمن المتوقع أن تشهد حصته تحسناً نسبياً ملحوظاً، بينما من المتوقع أن تسجل حصة قطاع الكهرباء أكبر نسبة إرتفاع، مع توقع هبوط مقدر في حصة قطاع السدود. أما القطاعات الخدمية الثلاثة، الإداري والإجتماعي، الصحة والتعليم، فمن المقدر أن تنخفض حصصها بنسب متفاوتة، الأمر الذي لا يتماشى مع خطاب الموازنة (صفحة 28): " ومن هنا يسرني أن أعلن بأن العام 2016م هو عام الإهتمام بالخدمات الأساسية للمواطنين وزيادة الصرف على تعليم الأساس وبرامج محو الأمية والصحة خاصة الرعاية الصحية الأولية...". أما إذا نظرنا إلى إجمالي حصص قطاعات الطرق والجسور والنقل، والكهرباء، والسدود، فإنه يصل إلى 55% من إجمالي تقديرات التنمية القومية، مقابل 29% لقطاعات الزراعة، والصناعة، والتعليم، والصحة والقطاع الإداري والإجتماعي، ما يكشف خطأ فقه الأسبقيات عند صناع القرار الإقتصادي. لكن إذا وضعنا في الإعتبار تقديرات التحويلات الرأسمالية (التنموية) للولايات، فإننا نجد أيضاً إنخفاض حصة القطاع الزراعي في إجمالي تقديرات التنمية (قومية + ولائية)، المقدرة بحوالى 18,9 مليار جنيه، من 13,5% إلى 10,8%، مع ملاحظة تحسن معتبر في حصص قطاعات التعليم من 2,5% إلى 4,4%، الصحة من 0,2% إلى 4,2%، والقطاع الإداري والإجتماعي من 0,6% إلى 3,7%. هذه خطوة في الإتجاه الصحيح يجب تعزيزها بزيادة الإهتمام بقطاعي الزراعة والصناعة.
في جانب العجز الكلي للموازنة (إجمالي الإيرادات والمنح الأجنبية – الإنفاق الكلي)، فمن المتوقع أن يصل إلى 11 مليار جنيه من 9,2 مليار جنيه في عام 2015م، بنسبة إرتفاع 20%. يتوقع تمويل (4 مليار جنيه) 36% من العجز - الأكبر في تاريخ السودان - من الإستدانة على المكشوف من البنك المركزي، و 36% من الضمانات، و18% من إصدارات شهامة، مع التوسع في إصدار الصكوك الإستثمارية والتمويل الخارجي لتغطية باقي العجز. هذا يؤكد أن إستمرار الطلب الفائض في القطاع العام الناتج عن ضعف الإدخار العام نتيجة للتوسع المستمر في الإنفاق الجاري، هو مصدر أساسي من مصادر غلاء الأسعار وتدهور الأوضاع المعيشية.
في الختام، إختناقات العرض (الإنتاج)، وإرتفاع تقييم العملة المحلية يعوقان التنافسية ونمو الأنتاجية. أما البطالة فلا تزال مرتفعة بمعدلها الرسمي المقدر بحوالي 19.4% (نهاية 2015م – مشروع الموازنة صفحة 10)، وهناك شرائح إجتماعية عريضة لا تصلها ثمار النمو ما يؤدي إلى إرتفاع معدلات البطالة والفقر. عدم كفاية التحسن الإقتصادي في خلق فرص العمل ومستويات المعيشة يهدد بتفاقم الصراعات الإجتماعية والسياسية. في هذه البيئة المحفوفة بالتحديات، يصبح الإصلاح أمراً لازماً. فينبغي وقف العزف على أوتار الخيال والبدء في الضبط التدريجي الجاد لأوضاع المالية العامة. ومن خلال حيز المناورة المتاح للسياسات بفضل إنخفاض أسعار النفط والغذاء عالمياً، يمكن زيادة الإنفاق الداعم للنمو، مثل الإستثمار العام الذي لا يزال عند مستويات متدنية أقل من 3% من إجمالي الناتج المحلي مقارنة مع الدول النامية الأخرى. كما يمكن تقليل الأثر السلبي على النمو بسبب تخفيض العجز إذا إنصب التركيز على إتخاذ تدابير موجهة على صعيد الإيرادات – كإلغاء الإعفاءات الضريبية والجمركية وتعزيز التحصيل الضريبي – بالإضافة إلى تعديل أولويات الإنفاق بتحويلها من الدعم المعمم إلى المساعدات الإجتماعية الموجهة والإستثمار في التعليم والصحة والزراعة والصناعة والبنى التحتية. ومن شأن زيادة مرونة سعر الصرف أن تساعد على تعزيز التنافسية. أيضاً، هناك حاجة ماسة إلى الإصلاحات الهيكلية لدعم توسع القطاع الخاص وخلق فرص العمل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.