نضال الشعب الأيرلندي ضد المملكة البريطانيّة وسعيه إلى استقلال أيرلندا بقيا لفترة طويلة يقضّان مضجع السلطة، وهذا السعي الحثيث إلى تحقيق الحرية أخذ أشكالا كثيرة، من التظاهر إلى التسلح ثم أعمال المقاومة، وقد عانى جيل كامل من أجل أن يحصل الأيرلنديون على استقلالهم. العرب عمار المأمون شاعر انتصر بموته من الأعلام البارزة في التاريخ النضالي للأيرلنديين ضد الاحتلال البريطاني، نذكر الشاعر بوبي ساندز، وهو أيضا عضو في الجيش الجمهوري الأيرلندي، وقد قضى السنوات العشر الأخيرة من حياته في السجن، ومات إثر إضرابه عن الطعام في ظل استياء شعبي عالمي، وقد ترك ساندز وراءه العديد من النصوص والقصائد التي توثق تجربته في السجن وما عاناه هو وأصدقاؤه المضربون معه، وجزء من هذه النصوص صدر في كتاب بعنوان "كتابات من السجن". "كتابات من السجن" الصادر هذا العام عن دار طوى للثقافة والنشر بترجمة محمد الحموي هو عبارة عن مجموعة من النصوص تتراوح بين النثر والشعر واليوميات في السجن، وفيها يصف المناضل الأيرلندي بوبي ساندز معاناته اليوميّة، وحياته في زنزانته التي كان يعلم أنها ستتحول إلى قبر. محاكمة الجسد حساسية ساندز المرهفة تجاه ما حوله تكسب نصوصه شعرية مغايرة، فهو يكتب على إيقاع نبضه، بين صحو وإغماء إثر الجوع والهزال الشديد، متكورا في زنزانته القذرة إذ يقول "بَزغ الفجرُ ومن ظلال الليل الميت بدأ الكابوس يأخذ في التشكل، الوسخ والقذارة، الجدران المشّوهة، التخوم الداخلية لقبري هذا الذي تفوح منه الروائح الكريهة العفنة، قابلتني بالتحية مرة أخرى، أستلقي مستمعا إلى صوت تنفسي الناعم وإلى نعيق الغربان، الثلج يستلقي ثخينا فوق أرض الباحة الخارجيّة". القسوة والانتهاكات الجسدية التي تعرض لها ساندز ورفاقه نراها حاضرة في النصوص فيقابلها الشاعر بالسخرية والتهكم وأحيانا بالشفقة على معذبيه؛ الفكرة التي يدافع عنها ورفاقه "استقلال أيرلندا" لا يمكن أن تُكسر بمجرد التعذيب، القذارة التي غرق فيها السجناء نتيجة عدم تنظيف الحمامات ومنعهم من الاستحمام حولت ساندز إلى ساخر ومتهكم مما يحدث، بل إنه ورفاقه حولوها إلى إضراب عبر رفض الاستحمام أيضا، مثيرين غيظ السجانين وحنقهم، فزنزانة ساندز هي قبره وحمامه وسريره، عالم صغير يتسع لجسده ومفرزاته وأحلامه، برغم ذلك نراه مبتسما، يكتب الشعر، ويتحدث عن الجنيّات، فساندز يحارب لأجل فكرة، لذا فإن هذا المناضل سيبقى كما كتب "أنا، سأبقى دائما كما أنا، أيرلندي يقاتل من أجل حرية شعبي المقموع"، فالشاعر يقف وحيدا في زنزانته، هو ورفاقه في وجه دولة عظمى. الكتابة في الظلام طريق إلى الضوء الوحدة المهيمنة على ساندز جعلته يلجأ إلى خياله، ويعيد تكوين ذاكرته وزواياها، ليحافظ على وجوده، وعلى إيمانه العميق، حتى أن فقدانه لوزنه وضعفه الشديد لم يؤثرا على نقاء أفكاره، فالوحدة هي مفتاحه للاكتشاف، يتأمل الخارج من نافذته عبر السياج المحيط به، كله إيمان بأن هذا الذي حوله ليس بدائم، مجرد عقبات، والحرية التي يسعى إليها وشعبه طريقها طويل، كان مؤمنا أن معاناته الفردية لا تقارن بمعاناة غيره، والشعر سلواه في السجن، وهو سبيل للوقوف بوجه القمع في سبيل الانعتاق من وضعية السجين نحو الحريّة، لذا كان يرفض ما هو فيه لرفضه في الأصل شرعية التنصيف الذي اختير له. ضد المحتل موقف ساندز ورفاقه مما يحصل قام على رفض الدولة، بل حتى أنهم رفضوا الاعتراف بالأحكام الصادرة ضدهم ورفضوا السلطة التي سجنتهم، وهذا ما يتضح في نصوص هذا الشاعر الذي يرى في بريطانيا محتلا، بل عدوا، يقمع شعبه الأيرلندي ويهجره، ومن هذا الموقف ينبع الإضراب الذي قاده ساندز، من عدم الاعتراف بشرعية بريطانيا وسلطتها عليه، وكان الإضراب يدعو إلى عدم ارتداء لباس السجن الموحد، وعدم القيام بأعمال السجن الشاقة، والدعوة إلى التواصل مع السجناء الآخرين وإجراء جلسات تعليميّة، مع الحق في زيارة واحدة ورسالة واحدة كل أسبوع، إلا أن بريطانيا لم تتجاوب، بل عملت الحكومة على نزع صفة السجناء السياسيين عنهم، وحين تم انتخاب ساندز ونجاحه في البرلمان برغم سجنه، تم تعديل قانون الانتخاب ليمنع المساجين لأكثر من عام للترشح للانتخابات، منعا لترشح المضربين مع ساندز، فنزع ذلك صفة السجين السياسي عنه. نشر ساندز العديد من الرسائل والمقالات والقصائد وهو في السجن قبل أن يفارق الحياة عن عمر 27 عاما وذلك في 1981 بعد 66 يوما من الإضراب عن الطعام، وقد كان لموته تأثير كبير في العالم وخصوصا على المناضلين من أجل الحرية، إذ تلقت أسرته رسائل العزاء من السجون في فلسطين والهند وإيران وغيرها من الدول التي تقمع ثوارها، في حين صرّحت تاتشر عند وفاته "السيد ساندز كان مجرما مُدانا، وقد اختار أن ينهي حياته بنفسه وهذا خيار لم يكن ممكنا لضحايا المنظمة التي ينتمي لها". أغلب ما نشره ساندز كان يُوقع باسم أخته مارسيلا ساندز، كما كان لحكاياته ونصوصه أثر كبير في الثقافة والمجال الأدبي والفني، إذ ساهم بكتابة عدد من الأغنيات الثورية، كما تحولت قصته إلى عدة أفلام أشهرها فيلم "الجوع"، الذي نال مخرجه ستيف ماكوين السعفة الذهبية لأفضل مخرج في كان 2008.