اللاعبين الأعلى دخلًا بالعالم.. من جاء في القائمة؟    جبريل : مرحباً بأموال الإستثمار الاجنبي في قطاع الصناعة بالسودان    قيادي سابق ببنك السودان يطالب بصندوق تعويضي لمنهوبات المصارف    بعد رحلة شاقة "بورتسودان.. الدوحة ثم الرباط ونهاية بالخميسات"..بعثة منتخب الشباب تحط رحالها في منتجع ضاية الرومي بالخميسات    على هامش مشاركته في عمومية الفيفا ببانكوك..وفد الاتحاد السوداني ينخرط في اجتماعات متواصلة مع مكاتب الفيفا    شاهد بالصورة.. (سالي عثمان) قصة إعلامية ومذيعة سودانية حسناء أهلها من (مروي الباسا) وولدت في الجزيرة ودرست بمصر    شاهد بالفيديو.. الرجل السودني الذي ظهر في مقطع مع الراقصة آية أفرو وهو يتغزل فيها يشكو من سخرية الجمهور : (ما تعرضت له من هجوم لم يتعرض له أهل بغداد في زمن التتار)    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان أحمد محمد عوض يتغزل في الحسناء المصرية العاشقة للفن السوداني (زولتنا وحبيبتنا وبنحبها جداً) وساخرون: (انبراش قدام النور والجمهور)    الخارجية تنفي تصريحا بعدم منحها تأشيرة للمبعوث    آفاق الهجوم الروسي الجديد    كيف يتم تهريب محاصيل الجزيرة من تمبول إلي أسواق محلية حلفا الجديدة ؟!    شبكة إجرامية متخصصة في تزوير المستندات والمكاتبات الرسمية الخاصة بوزارة التجارة الخارجية    مناوي: وصلتنا اخبار أكيدة ان قيادة مليشات الدعم السريع قامت بإطلاق استنفار جديد لاجتياح الفاشر ونهبها    يوفنتوس يتوج بكأس إيطاليا للمرة ال15 في تاريخه على حساب أتالانتا    مانشستر يونايتد يهزم نيوكاسل ليعزز آماله في التأهل لبطولة أوروبية    مطار دنقلا.. مناشدة عاجلة إلى رئيس مجلس السيادة    عثمان ميرغني يكتب: السودان… العودة المنتظرة    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    بعد حريق.. هبوط اضطراري لطائرة ركاب متجهة إلى السعودية    نهضة بركان من صنع نجومية لفلوران!!؟؟    واشنطن تعلن فرض عقوبات على قائدين بالدعم السريع.. من هما؟    د. الشفيع خضر سعيد يكتب: لابد من تفعيل آليات وقف القتال في السودان    الكشف عن شرط مورينيو للتدريب في السعودية    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني في الموازي ليوم الأربعاء    رسميا.. كأس العرب في قطر    وسط توترات بشأن رفح.. مسؤول أميركي يعتزم إجراء محادثات بالسعودية وإسرائيل    "تسونامي" الذكاء الاصطناعي يضرب الوظائف حول العالم.. ما وضع المنطقة العربية؟    عالم آثار: التاريخ والعلم لم يثبتا أن الله كلم موسى في سيناء    "بسبب تزايد خطف النساء".. دعوى قضائية لإلغاء ترخيص شركتي "أوبر" و"كريم" في مصر    شاهد بالصورة.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تنعي جوان الخطيب بعبارات مؤثرة: (حمودي دا حته من قلبي وياريت لو بتعرفوه زي ما أنا بعرفه ولا بتشوفوه بعيوني.. البعملو في السر مازي الظاهر ليكم)    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    انتخابات تشاد.. صاحب المركز الثاني يطعن على النتائج    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    روضة الحاج: فأنا أحبكَ سيَّدي مذ لم أكُنْ حُبَّاً تخلَّلَ فيَّ كلَّ خليةٍ مذ كنتُ حتى ساعتي يتخلَّلُ!    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    القبض على الخادمة السودانية التي تعدت على الصغيرة أثناء صراخها بالتجمع    الصحة العالمية: نصف مستشفيات السودان خارج الخدمة    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مسلسل الدهباية محاولة نقدية (2)
نشر في الراكوبة يوم 19 - 07 - 2016

ليس ثمة جدل في أن مبدأ الفن للفن قد تخلى عنه الكُتاب والمخرجون والدراميون الكبار، واصبحت النظرة الشمولية للعمل الفني تضع رموز الفن في مصاف رجالات دولة، يروجون للقيم الفاضلة، ويعكسون الأبعاد السياحية والوجه المشرق لشعوبهم وبلدانهم، يعالجون التعقيدات الاجتماعية بعيداً عن الترويج للجريمة والانحلال، سيما وإن كان مسرح الأحداث لا يزال بكراً امام العدسات، فمن المخل الانحصار في حدود العقدة الدرامية.
الفقرة أعلاه، كانت خاتمة محاولتنا النقدية لمسلسل الدهابية في مقالنا السابق، والذي قصدنا منه تقديم طرح خفيف على القارئ الكريم خلال عطلة عيد الفطر المبارك اعاده الله على اهلنا وامتنا بالطمأنينة والعدالة والحرية، طرح يبعده بعض الوقت عن الشأن السياسي "الأصنج"، لكننا تفاجأنا بذائقة قراء الراكوبة الغراء للنقد الفني، وكنا نحسب أن مزاج روادها سياسي وثوري بحت، وايضا باغتنا زملاء افاضل في الفيس، وكذلك اخوة أكارم في منتديات حصرية، باغتونا بالظهور "منططين" اعينهم ومبدين الدهشة، هذا ما دفعنا لأن نقول لهم بعد المباركة والثناء "كل هذا بدون وضوء"، ليس غروراً بالطبع، وإنما لأننا لسنا متخصصين في هذا المضمار، وإنما مجرد "شوّيف سينما" على قول المصريين، ونؤمن ايمان العجائز، بمقدرة العمل السينمائي والدرامي المسئول، على احداث تحول ايجابي في حياة الشعوب، وإعادة العافية للنسيج الاجتماعي السوداني المهترئ، وترسيخ القيم والفضيلة ومعاني البطولة في ادمغة النشء، والحفاظ على التراث الإنساني الأصيل.
التصفيق الحار من جمهور القراء، اغرانا للاسترسال في تناول جوانب اخرى من مسلسل الدهباية، مع مقارنات عند اللزوم بمسلسل دكين، وللأمانة فقد شاهدت الأخير أولاً، فانبهرت به ايما انبهار، وأكبرت مقدرة الممثل والمخرج السوداني الذي استطاع ان ينتج مثل هذا العمل السينمائي الضخم، لذلك عندما شاهدت مسلسل الدهباية، بانت لي الفوارق، وظهرت لي "الكلّفتة" جليا.
ومرد اهتمامي بالداليّن (دكين ودهباية)، هو أن كليهما يعكس جمال واصالة الريف السوداني، والذي لا اخفي انحيازي التام له إنساناً وموروثا، لأنني لم اجد ما في البندر ما يجذبني، وقلقي الشديد على الاستلاب الثقافي من قبل المدن المركزية على هذه القطاعات، والتي تمثل المرجعية الأخلاقية والقيمية والتراثية للإنسان السوداني، وابذل ما في وسعي بألا يتم تشويشها من قبل المنتجين التجارييّن وحلفائهم من زمرة الرأسمالية الطفيلية الغير مسئولة.
كاميرات المخرجيّن في كلا المسلسلين، لاحقت فاريّن من العدالة، دكين انحصر في الريف، اما عباس فزاوج بين الريف والحضر، والممثل القدير والمخرج محمد نعيم سعد (سينما)، استغل هذه الملاحقة، فعرض للمشاهد ارض البطانة الواعدة من شندي إلى ابودليك، وحتى مشارف سِنكات في اقصى الشرق، ورغم أن مسلسل الدهباية بها مواضع action أكثر من مسلسل دكين، إلا أن المخرج فاروق سليمان قد اكتفي ب 30 حلقة وكان بإمكانه ان يمط المسلسل إلى 60 حلقة دون ان يخل بالعقدة الدرامية، كما انه وضع شكائم لكاميراته، ولم يوظف ال zoom-out بشكل إيجابي.
على سبيل المثال، على غرار ما فعل محمد نعيم سعد في مسلسل دكين، كان بإمكان فاروق سليمان، أن يلاحق عباس وهو سائق لوري، عاشق لابنة خالته الدهباية، يلاحقه في سوق الخضر والفواكه بنيالا، وسوق الشطة وهو عالَم بحاله، وسوق العيش، والسفر من رهيد البردي ونيالا إلى ام دافوق وعد الفرسان وبُرام وتُلس، وكيف يتجاسر على عبور الوديان والخيران الجامحة لحظات غضبها، ويلاحقه وهو هارب من العدالة راجلاً بعد الاعتداء على الافندي، وعلى غرار هروب دكين، بإمكانه اللجوء أي عباس، إلى فُرقان البقّارة الرُحّل ما بين ام دخن وحفرة النحاس وقريضة وكفيا كنجي حتى حدود افريقيا الوسطى، وليس هنالك بقعة في جنوب دارفور خالية من حشائش السافنا الغنية أو الغطاء الغابي الكثيف او المزارع النضرة، ومعلوم أن جنوب دارفور هي ثاني ولاية من حيث الكثافة السكانية، بعد ولاية الخرطوم جلهم في الريف الأخضر، اين هذه المشاهد في مسلسل الدهباية؟
وبما ان عباس سافر بالقطار ملاحقا الدهباية في البقعة، هنا يمكن تصوير القطار من نيالا الخرطوم، وعكس من يحمله من منتجات غرب السودان، ورصد ادبيات هذه الرحلة الممتعة، وتصوير طلاب الجامعات، والجنقو مسامير الأرض، هم وأطفالهم وقليل متاعهم وبعض حيواناتهم من نيالا وحتى محطة سنار التقاطع او مدني، ثم الترّجل والتوجه إلى حوّاشات القطن في بركات بمشروع الجزيرة، أنني على يقين، ان سلّط المخرج كاميراته على عباس وهو يحكي لرفيقه (زوج نصره) عن همومه ومخططاته وهو داخل هذا القطار العجيب في اطول مشاويره، لنام الشعب السوداني قرير العين، مطمئن على خيرات بلده.
لقد سنحت هذه الفرصة مرتين، عندما قرر عباس السفر إلى البقعة ملاحقا الدهباية وزوجها الأفندي، والمرة الثانية عندما تمكن الهرب من المستشفى وعاد إلى نيالا، سنحت فرصتان ذهبيتان لتصوير مخازن السكة حديد في نيالا والسجّانة، ورصد الناتج القومي من الزراعة في الريف، والمصانع في المدن، إن حدث هذا، حتى ان لم ينطق احد بكلمة، وترك الحديث للعدسة، سيكون بلا شك هذا امتع ما يشاهد المواطن السوداني، ويكون بذلك قد وثق جزءاً من تراث وادبيات القطارات وحركاتها ودور السكك الحديدية في خدمة الاقتصاد السوداني، لأن الكثيرين لم تتح لهم فرصة السفر عبر هذا الساحر، ناهيك عن الجيل الجديد الذي ولد بعد افول نجمه. فشل المخرج حتى في تصوير مناسب لحادث انقلاب القطار الذي ادى بوفاة زوج نصره، ورفيق عباس للبقعة.
بالطبع مثل هذه المشاهد تكلف مليارات الجنيهات، لكن اقول بكل ثقة أن العمل الجيد سيدر مضاعف هذه التكلفة
هنا نذكر كيف ان هوليود استطاعت إعادة تصوير حركة قطارات البخار في الغرب الامريكي في نهاية الستينات من القرن الماضي لِما كانت عليها هذه القطارات في نهاية القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر، وإبراز ما كانت لها من سطوة وجبروت، وكيف أن لصوص القطارات، ينهبون الخزائن المالية والمرتبات والحوالات المرحّلة عبرها، وكانت من افضل افلام الكاو بوي على الإطلاق حتى الآن. عرضت هذه الأعمال الفريدة من خلال سلسلة افلام Alias ل Kid Curry و Hannibal Heyes واسميهما الحقيقيان Ben Murphy و Pete Duel وعندما انتحر الأخير عام 1971م واصل Ben Murphy مع Roger Davis ، ولكن ليست بالأريحية والانسجام مثل ما كان عليه مع ابن عمه المنتحر، ومن المفارقة هما ايضا كانا فارين من العدالة، ومطلوبين أحياء او اموات dead or alive ، وفي ذات الوقت، موعودين بالحصول على الإعفاء ان احسنا من تصرفاتهما، يستغلان القطارات والخيول للهرب والعيش في الأدغال والأحراش والصحارى، ولم يتركا بقعة من الغرب الأمريكي لم يصلا إليها. متعة هذه السلسلة تتمثل في مشاهد قطارات البخار والطبيعة العذراء والتنوع المناخي والبيئي, واعتمدت على كفاءة الكمرات المستخدمة لتوثيق هذا العمل.
كلا (الدالين) يعرضان رجل البوليس السوداني على انه مغّفل وقليل الحيلة، فلا يعقل أن يوكل ترحيل اثنين من "عتاولة" السجناء من شندي إلى ابودليك، مسيرة اكثر من ثلاثة ايام بلياليها، إلى نفر واحد من افراد البوليس، وهما يدركان أن مصيريهما الإعدام، او المؤبد على احسن تقدير، وعندما تحرك مأمور المركز (انجليزي) قائداً لعدد كبير من قوته، بعد مقتل هذا العسكري على يد دكين، تم تضليلهم ببساطة من قبل الهمباتة (مجموعة موسى الأمير) لأنهم يريدون دكين حياً لتصفية حسابهم معه شخصياً، كان بإمكان المخرج، إظهار اكتشاف المأمور للخديعة، وتصحيح المسار، أو من البداية، يقوم بتقسيم قوته إلى فريقين، فريق يعمل بإرشاد الهمباتة، والآخر ضده، لأنه ببساطة، رجل البوليس لا يثق في كل من يصادفه، أي يظهره حصيفا، حتى وإن كان مستعمراً، لأن ذراعه الأيمن هو الشاويش الفذ حمّيده (الممثل الكبير الراحل عثمان حمّيده)، ومن المفارقات، ذكر الأخير ان بعض مشاهد مسلسل دكين صورت في جبل مره. وبغض النظر عن انه كاتب قصة دكين، جاء اختباره كشاويش مناسباً، حيث انه كان اطول جنوده قامةً واكبرهم حجما.
كذلك استطاع عباس بمعاونة الممرض أن يسقيا رجل البوليس المكلف بحراسته في المستشفى، يسقياه عصير ممزوج بمخدر، تمكن بعده عباس من الاستيلاء على سلاحه والهروب. كان بإمكان المخرج أن يظهر العسكري الحارس على انه مهني ومدرب و"تفتيحه" لمقالب المجرمين، بحيث يدلق العصير توجسا، ويبحث المخرج عن حيلة اخرى لهروب عباس، سيما وأن السلاح الذي استولى عليه غير ضروري له في ملاحقته للدهباية.
من مصلحة من يظهر المخرجان رجالات الشرطة على انهم تعساء ومغفلين؟ لا يحدث هذا إلا في السينما الهندية كنوع من ال fun، وحسب علمي أن كافة المشاهد السينمائية المحتوية على لقطات تخص القوات النظامية، تعرض على الجهات المختصة قبل البث، ولا اظن أن حدث ذلك ليوافق اصغر ضابط بوليس على اداء الكندي الامين لدور ضابط التحري في جنايات عباس، ببساطة لأنه شديد النحافة، ويبدو غير لائق بدنياً، وملابسه فضفاضة عليه، مما يظهره غير منضبطا، ومن المعروف ان معظم افراد القوات النظامية، يملؤون العين مظهرا وقواما، فارعي الطول، حازمي التقاطيع، لقد استمعت للفنان المبدع الكندي الامين في حوار معه عبر احدى الشاشات، وذكر ان عائلته يسكنون جوار مبنى التلفزيون القومي بالملازمين، لذلك جاء احترافه للتمثيل بالصدفة، وكانت اولى ادواره، دور ضابط بوليس في مسلسل الدهباية. وهنا يظهر المخرج الراحل فاروق سليمان على انه مجامل وغير جاد.
اظهار رجل البوليس ضابطا كان او عسكري نفر، في موضع الغفلة وعدم اللياقة، يضر بثقة المواطن فيه، ويثير البلبلة وعدم الطمأنينة في المجتمع، وهذا ما حدث بالضبط للدهباية، تقول باستمرار لخالد أنها خائفة من أن عباس سيهرب من ناس البوليس ويلاحقهما، رغم انه حُبس في نيالا وهما انتقلا إلى البقعة، وهذا ما حصل بالضبط، هرب عباس، فدخلت هي في نوبة كوابيس وهلوسة، وطلبت اللجوء إلى الفُقراء والشيوخ، لعدم ثقتها في البوليس، لردع عباس وايقافه عند حده، وخالد بدوره، دخل معها في هذه الحالة، عندما قال، أنا عامل حسابي، في اشارة إلى حصوله على مسدس.
و لمصلحة من يصور الممرض (علي) على أنه مرتشي وخائن؟ ساعد عباس على الهروب، وقبض الثمن، دون ان يردع، مما شجعه للمرة الثانية للتعاون معه في اختطاف ابن الدهباية، هذه المشاهد ليس مستبعداً أن يغري الآخرين على حذو ذات المسلك، كان ينبغي أن يطرد الممرض من الخدمة، ويوبخ على تصرفه، ويظهر الندم، واظهار بؤس حالته فيما بعد، جراء تصرفه المخجل هذا. ليس جميع من يشاهدون مثل هذه الاعمال الفنية هم من البالغين أو الراشدين أو المحصنين إعلاميا ضد مثل هذه الرسائل السالبة.
ونحن ما زلنا نحوم حول المسائل الأمنية، اعتقد ان مخرج الدهباية كان موفقا في اختيار خفير عمارة البرجوازي حاج مبارك وعائلته الكريمة من شخصية غير نمطية (محمد خلف الله)، فكما درجت السينما المصرية على تصوير محمد احمد السوداني على أنه الخفير الأوحد لكافة بنايات مصر، كذلك درجت السينما السودانية على اسناد هذه الوظيفة إلى جهويات وشرائج معينة من التركيبة المجتمعية السودانية، إلا ان الراحل فاروق سليمان كسر هذه القاعدة.
رغم ان دكين قتل انفس عديدة غدراً، معظمهم قد احسنوا إليه، لم يعدم النزعة الإنسانية، فنقطة ضعفه هي شقيقته الرضيّة (هادية طلسم)، التي اراها لا تقل حنينا ووفاءً لشقيقها عن تماضر شقيقة صخر، ولولاها لما عاد دكين إلى شندي، كما أن دكين ازجى معروفا للزين، فقد انقذ حياته من اعتداء الهمباتة، والزين في مسلسل دكين، هو عباس الدهباية ذات نفسه (صالح عبد القادر)، وقد عشق دكين شقيقته بدور بت العمدة من اول نظره، وهي الدهباية ذات نفسها (هالة اغا)، وهنا نجد أن نظرات الاعجاب كانت متبادلة رغم ان الحب كان سراً، عكس عباس للدهباية، حب من طرف واحد. وعندما تم القبض على دكين، نجح في التنكر، فمنح المأمور الشاويش معاش حميّده ساعة واحدة لإثبات انه دكين، وكان بإمكانه ان يفلت مرة اخرى من العدالة، لولا نقطة ضعفه، أي حنينه لشقيقته الرضية، والتي كسرت قلب المأمور قبل دكين بشعرها المؤثر، وكلامها الرقيق، والتي سار بها الركبان إلى يومنا هذا، والتي اذابت جَلَد وصلابة قلب دكين، واجبرته على الانهيار والاعتراف انه دكين وليس سالم، مسلماً عنقه طائعا للمقصلة، في مشهد ملحمي، أي أن نهاية دكين، رغم جرائمه، كان بطولياً، اجبر المشاهد على التعاطف معه.
اما عباس، فقد صوره المخرج على انه عديم الإنسانية، منزوع الرحمة، أناني لا يحب ألا روحه والدهباية، لم يعرف له جميل على احد، ورغم انه يوصف بكتّال الكتلا، لم نعرف على وجه التحديد من الذين قتلهم قبل عشقه للدهباية، نعم أنه شرع في قتل الأفندي الذي تجرأ لنيل شبّال من بنت خالته، ومحبوبته في تحدي واضح امام خلق الله، وكذلك شرع في قتل السيدة نصرة ارملة زميله لأنها افشت سره للأفندي، وافسدت عليه كافة مخططاته التي هاجر من دلال العنقرة إلى البقعة من اجلها، أي قد يوجد من يتعاطف مع عباس، في بعض تصرفاته، إلا ان المخرج، اظهر نهايته كإنسان همجي، حيث انه خطط وشرع في اختطاف ابنة خالته وابنها بقوة السلاح ليتخذها زوجة له، رغم علمه أنها حليلة إنسان و(مرة راجل) آخر شرعا، وان حبه لها من طرف واحد، هذا التصرف يضع عباس في موضع البهيمية والهمجية، يتصرف خارجا عن العرف والشرع، سيما وان ما يعرف بزواج (الجبونقا) في غرب السودان، قائما في الأساس على الرضاء والاتفاق، وقد رسخ الأدب الشعبي لهذا المبدأ، حيث غنى زكريا الفاشر:(اسمعو يا بنات جبونقا اتفاق) وهذا النوع من الزواج القائم على اضطلاع القاضي الشرعي بمحل ودور الولي في شروط صحة الزواج، في حال تعنت ولى البنت البكر، ورفضه طالب الزواج من وليته، فيأخذها الخطيب سرا ويهرب بها إلى محراب القاضي الشرعي، لتصبح زوجة له شرعا، وهنالك من الفقهاء من يجوّز هذا المسلك، واظن المالكية منهم. وهذا النوع لا ينطلق على حالة عباس والدهباية، لأنها متزوجه، وهي غير راغبة في عباس من الأساس، لذلك صورت السينما السودانية دكين كبطل، وعباس كهمجي وارهابي يهاجم محبوبته بالسلاح الآلي وهي على سرير الوضوع، وأنه جبان و"خايب" يطلق النار على نسوان عزّل!!
مسلسل الدهباية تم انتاجه من قبل شركة أنهار للإنتاج الفني، أما مسلسل دكين فقد تكفّل به التلفزيون القومي، ويحدونني كبير العشم، أن يتولى الأخير، إعادة تصوير مسلسل الدهباية مع مراعاة كافة ابعاده الممكنة بميزانية مفتوحة، وبتؤدة وروية مهما استغرق من زمن.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.