كان الأسبوع الماضي بحق أسبوع التناقضات فى المؤتمر الوطني، فقد صعد الحزب الحاكم من لهجته تجاه الحركة الشعبية قطاع الشمال،على نحو مغاير لمسار الاحداث،وهذا رغم ان التوقعات كانت تذهب فى اتجاه التهدئة بعد توقيع الاتفاق الاطاري بين الجانبين بالعاصمة الاثيوبية الاسبوع الماضي،وهو الاتفاق الذي وجد ترحيبا من كل من الامين العام للامم المتحدة بان كي مون وجامعة الدول العربية والجارة القريبة الى السودان مصر،فضلا عن حكومات مختلفة من دول العالم كانت تتابع بقلق تصاعد الاحداث فى جنوب كردفان،علما بان الترحيب الواسع بهذا الاتفاق جاء لانه سيضع اساساً للتسوية ويمنع من العدائيات رغم طبيعة الاتفاق الاطارية،وعدم شموله لنص واضح يلزم الطرفين بوقف العدائيات،وهو ما حاول د. نافع ان يبرزه فور وصوله الخرطوم، بيد ان التوقيع على اطار التسوية من قبل الجانبين كان يؤذن بتوقف العمليات العسكرية المباشرة، لاتاحة الفرصة لحسم الخلافات عبر مائدة التفاوض،التي ينتظر ان تلتئم باديس الاسبوع الحالي برئاسة د نافع على نافع من جانب المؤتمر الوطني ومالك عقار من جانب الحركة الشعبية قطاع الشمال.وتصعيدات الوطني اطلقها غداة وصوله المشير البشير، فقد وجه رئيس الحزب الحاكم والبلاد بطبيعة الحال،بالجمعة من خلال منبر مسجد النور بكافوري،قوات البلاد المسلحة بمواصلة عملياتها العسكرية في جنوب كردفان حتى يتم تطهيرها من التمرد والقبض على عبد العزيز الحلو وتقديمه للعدالة، ووصف البشير في مسجد النور نائب رئيس الحركة بالشمال عبدالعزيز الحلو بالمجرم، وزاد على ذلك: «عبد العزيز الحلو مجرم وسيظل مجرما إلى أن تنفذ عليه أحكام العدالة» وتابع:» لن نتعامل مع من خرج حاملا السلاح وقتل المواطنين كمواطن عادي» مطالبا الجيش بالقبض على الحلو وتقديمه للمحاكمة، ومن الواضح ان تصريحات السيد الرئيس قد وضعت النقاط فى الحروف،واوقفت قطار التسوية السياسية بين المؤتمر الوطني والحركة،ان لم تكت ربطتها فى احسن الاحوال بحسم التمرد فى جبال النوبة وتحقيق العدالة عبر محاكمة الحلو ورفاقه.الا ان التناقض البين بين ما اقدمت عليه قيادات الوطني بالاسبوع الماضي، والمواقف التي اعلنها رئيس الحزب والبلاد ظهيرة الجمعة، يفتح ابواب التساؤلات حول كيفية اقدام الحزب الحاكم بالاساس على توقيع مثل هكذا اتفاق مع الحركة الشعبية،اتفاق لا يجد قبولا من البشير ولا ترضى عنه قيادات فى الحزب،وتؤلب الناس على بنوده اقلام محسوبة على النظام الحاكم،اما ما كان اشد غرابة ومدعاة حقيقة للارتباك لدى الاوساط المختلفة،ان الاتفاق خرج من بين ايدي قيادي بحجم د. نافع علي نافع مساعد رئيس الجمهورية نائب رئيس المؤتمر الوطني لشئون الحزب،وهو القيادي الذي اضحت تصريحاته ومواقفه مؤشرا واضحا للمسار الذي تمضي اليه البلاد بأكملها، وليس الحزب الحاكم فقط،خاصة وان كانت رؤية رئيس الحزب فى التعامل مع ما حدث فى جنوب كردفان تضع تحقيق العدالة والحسم العسكري للمتمردين، كاساس للدخول من بعد ذالك فى حوار مع الحركة الشعبية قطاع الشمال. فتصريحات البشير تشي بعدم تقبله لبنود فى هذا الاتفاق، وربما كان من ورائها التنوير الذي قُدم لسيادته حول مستجدات الاوضاع عسكريا وسياسيا بعد عودته من الصين .غير ان تصريحات السيد الرئيس بالجمعة، سبقتها عدة ملاحظات قدمها اعضاء بارزون فى الوطني قد تتوافق فى مضمونها مع ما قال الرئيس،وكان مسرح ذلك اجتماعات المكتب القيادي للحزب، مساء الخميس،وذلك اثناء مناقشته للاتفاق الإطاري الذي وقع بأديس ابابا. فقد ابدى المكتب القيادي ملاحظات لم يكشف النقاب عنها حول صياغة بنود بعينها يرجح انها تختص بالترتيبات الأمنية في النيل الأزرق وجنوب كردفان،والتي توصل الجانبان حولها الى تكوين لجنة أمنية مشتركة تتولى معالجة كافة القضايا الأمنية، وفى صدرها استيعاب منسوبي الجيش الشعبي قطاع الشمال في القوات المسلحة، ضمن برامج إعادة الدمج والتسريح، وملاحظات المكتب القيادي للوطني من المنتظر ان تصبح ملزمة للجنة السياسية برئاسة نافع والتي ستجتمع مع نظيرتها من الحركة للوصول الى اتفاق نهائي حول القضايا الخلافية بين الجانبين. ويعيد تصويب الرئيس البشير لمواقف حزبه تجاه احداث جنوب كردفان بالجمعة، حادثة مماثلة حين اضطر لتقديم توضيح آخر لموقف الحزب والحكومة من قضية منح اقليم دارفور منصب نائب الرئيس، وذلك حين قال للوفد الاعلامي المرافق لسيادته فى رحلته الاخيرة الى الصين بانه لا يوجد التزام بتخصيص منصب نائب رئيس لدارفور، مشيراً الى ان المنصب لكل أهل السودان وليس دارفور وحدها. وحديث الرئيس لن يفهم بغير انه تصحيح لاعلان د. غازي صلاح الدين مستشار الرئيس ومسؤول ملف دارفور في الخرطوم،عن موافقة الحكومة على تَعيين نائب رئيس من دارفور لإستكمال الدورة الإنتخابية الحالية،برغم ان غازي قد اكد على موقف الوطني القاضي بعدم تضمين ذلك في الدستور. ولان موقف الرئيس المعلن من القضيتين المثارتين اثناء غيابه فى الصين «نائب الرئيس وجنوب كردفان» قد جاء اما توضيحا تفصيلياً فى حالة « نائب الرئيس»عن الطريقة التي ينظر بها لمطلب اهل دارفور بالمقعد،والتي تختلف على ما بدا عن الطريقة التي ينظر بها قيادي الوطني المسؤول عن الملف، او بالحسم القاطع لمحاولات تجاوز ماحدث فى الشهر الماضي بجنوب كردفان،على النحو الذي اتخذه نافع وقيادات من الوطني بمضيهم فى تسوية سياسية على اساس الاتفاق الاطاري، فان ذلك ينم عن تناقض من قبل الحزب الحاكم فى التعامل مع القضايا الراهنة، وهو ما ذهب اليه المحلل السياسي حاج حمد محمد خير،مرجعا التناقضات فى مخاطبة المؤتمر الوطني للقضايا الراهنة الى دوران الحزب الحاكم فى دائرة مفرغة بفعل عدم وضوح الرؤية لدى قيادته حول كيفية التعاطي مع الازمات المختلفة التي تعيشها البلاد، مشيرا الى ان الوطني يعيش حالة من الضبابية تفرز هذا التضارب فى القرارات الصادرة، وتشكك فى موضوعية و مصداقية التصريحات الحكومية بشأن القضايا الساخنة مثل دارفور وجنوب كردفان.ويؤكد المحلل السياسي الذي تحدث ل» الصحافة «بالامس على ان القرارات داخل الحزب الحاكم اضحت تخرج من مراكز قوى متضادة،نتجت بفعل التنافس حول السلطة واحتكار اصدار القرارات،لافتا الى ان الاتفاق الذي وقعه الحزب فى اديس ابابا تم الاعلان عنه فوراً، دون مشاورة بقية القيادات ذات الصلة فى الحزب الحاكم،ذلك رغم ان المفاوضات التي ترتبط بمثل هذه القضايا المصيرية يعتمد النجاح فى تحقيق اهدافها على مشاورة واطلاع الاجهزة السياسية والتنفيذية الاخرى،متسائلا عن كيفية توقيع مثل هذا الاتفاق،بدون حتى انتظار عودة رئيس الجمهورية الذي تقتضي التقاليد انتظاره للمضي فى الامر، بخاصة وان البلاد تعتمد النظام الجمهوري الرئاسي، مرجحا ان يكون وفد المؤتمر الوطني بقيادة نافع قد رضخ لضغوط محتملة من الولاياتالمتحدة والوساطة الأفريقية بقيادة امبيكي،وذلك لعلم قياداته بضيق خانة المناورة المتاحة لهم كحزب، فى ظل الضغوط التي تمارس من امريكا وحلفائها لتحقيق اجندتها فى السودان والمنطقة. غير ان لقيادات المؤتمر الوطني تفسيرا آخر لحديث السيد البشير،وهذا التفسير كما اشار اليه الدكتور ربيع عبد العاطي ينطلق من طبيعة الاتفاق الاطاري الذي يرسي مبادئ عامة تتحدث عن الحرية والعدالة والمشاركة فى السلطة وما الى ذلك من القضايا العمومية،ومضى ربيع فى حديثه ل» الصحافة « الى ان اتفاق اديس ليس اتفاقا كاملا كما يعتقد البعض،وانما هو فى حقيقة الامر نصوص مفتوحة للتداول حولها بين الطرفين للوصول الى تفصيلات، مشددا على ان الاتفاق لا ينتقص من حق الرئيس البشير، لجهة انه المسؤول الاول عن تحقيق الامن للمواطنين فى جنوب كردفان وبقية انحاء البلاد، ثم ان الاتفاق بحسب قيادي الوطني، لا يتعارض مع ما قاله السيد الرئيس في كافوري اذ انه يدعو لحل كافة الخلافات بالحوار، في حين ان ذلك لا يعني عدم الرد من قبل الحكومة على المجموعات التي هاجمتها وتهاجمها الآن، وعدم تحميل هذه المجموعات مسئولية ما اقترفت ايديها من جرائم. بيد ان مراقبين يقولون ان اعراض التباعد بين التشكيلات التي تضطلع بمهام الحزب السياسية المختلفة فى المركز والولايات، قد برزت اول مرة للعيان بعد اعلان التشكيل الحكومي الحالي، غير ان قبضة قيادة الحزب القوية اضعفت من تأثير ذلك على اداء الحزب،وعلى صورته امام اجهزة الاعلام والجماهير، الا ان الخلافات بين د. نافع والفريق قوش حول صلاحيات المستشارية ومتطلبات الحوار مع القوى السياسية فضلا عن سقوفات الحوار نفسه،كما قال استاذ العلوم السياسية اسامة فضل المولى ل» الصحافة «، قد وضعت لاول مرة امام انظار الجميع حقيقة التباينات وحجمها بين قيادات الحزب حول الطريقة التي تنظر بها لتحديات الوطن والبلاد،مشيرا فى هذا الاطار الى ان خلافات نافع وقوش لم تكن الا واجهة لاختلافات اخرى كبرى، بين تيارات داخل جسم الحزب تتبنى افكاراً ورؤى مختلفة ومتضادة، حول الطريقة التي يجب ان يتعاطى بها حزب السلطة مع تحديات المرحلة المقبلة من تاريخ النظام، مدللا على ذلك بما تموج به الصحف هذه الايام من تصريحات متعارضة من قيادات الوطني، ليس فقط في القضايا السياسية الساخنة وانما تعدت الى قضايا الاقتصاد والحياة العامة. الا ان القيادي بالحزب الحاكم يحمل رؤساء تحرير الصحف والكتاب مسئولية هذه التحليلات التي يصفها بغير الدقيقة، ويشير ربيع عبد العاطي الى انها رؤى شخصية لا تعبر عن الحقيقة لجهة ان المؤتمر الوطني حزب مؤسسات تملك حرية ابداء رأيها فى كل القضايا المثارة، معتبرا ان بروز اى تباينات فى وجهات النظر داخل مؤسسات الحزب من هذه القضايا تعبير عن الطريقة الصحيحة التي يتبعها الوطني فى اتخاذ القرار، وفي إتاحة المجال واسعا لحرية الرأى والفكر. الصحافة