منتخبنا فاقد للصلاحية؟؟    إدارة مرور ولاية نهر النيل تنظم حركة سير المركبات بمحلية عطبرة    اللاعبين الأعلى دخلًا بالعالم.. من جاء في القائمة؟    جبريل : مرحباً بأموال الإستثمار الاجنبي في قطاع الصناعة بالسودان    قيادي سابق ببنك السودان يطالب بصندوق تعويضي لمنهوبات المصارف    بعد رحلة شاقة "بورتسودان.. الدوحة ثم الرباط ونهاية بالخميسات"..بعثة منتخب الشباب تحط رحالها في منتجع ضاية الرومي بالخميسات    شاهد بالصورة.. (سالي عثمان) قصة إعلامية ومذيعة سودانية حسناء أهلها من (مروي الباسا) وولدت في الجزيرة ودرست بمصر    شاهد بالفيديو.. الرجل السودني الذي ظهر في مقطع مع الراقصة آية أفرو وهو يتغزل فيها يشكو من سخرية الجمهور : (ما تعرضت له من هجوم لم يتعرض له أهل بغداد في زمن التتار)    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان أحمد محمد عوض يتغزل في الحسناء المصرية العاشقة للفن السوداني (زولتنا وحبيبتنا وبنحبها جداً) وساخرون: (انبراش قدام النور والجمهور)    الخارجية تنفي تصريحا بعدم منحها تأشيرة للمبعوث    آفاق الهجوم الروسي الجديد    كيف يتم تهريب محاصيل الجزيرة من تمبول إلي أسواق محلية حلفا الجديدة ؟!    شبكة إجرامية متخصصة في تزوير المستندات والمكاتبات الرسمية الخاصة بوزارة التجارة الخارجية    مناوي: وصلتنا اخبار أكيدة ان قيادة مليشات الدعم السريع قامت بإطلاق استنفار جديد لاجتياح الفاشر ونهبها    يوفنتوس يتوج بكأس إيطاليا للمرة ال15 في تاريخه على حساب أتالانتا    مانشستر يونايتد يهزم نيوكاسل ليعزز آماله في التأهل لبطولة أوروبية    عثمان ميرغني يكتب: السودان… العودة المنتظرة    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    بعد حريق.. هبوط اضطراري لطائرة ركاب متجهة إلى السعودية    نهضة بركان من صنع نجومية لفلوران!!؟؟    واشنطن تعلن فرض عقوبات على قائدين بالدعم السريع.. من هما؟    د. الشفيع خضر سعيد يكتب: لابد من تفعيل آليات وقف القتال في السودان    الكشف عن شرط مورينيو للتدريب في السعودية    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني في الموازي ليوم الأربعاء    رسميا.. كأس العرب في قطر    وسط توترات بشأن رفح.. مسؤول أميركي يعتزم إجراء محادثات بالسعودية وإسرائيل    "تسونامي" الذكاء الاصطناعي يضرب الوظائف حول العالم.. ما وضع المنطقة العربية؟    عالم آثار: التاريخ والعلم لم يثبتا أن الله كلم موسى في سيناء    "بسبب تزايد خطف النساء".. دعوى قضائية لإلغاء ترخيص شركتي "أوبر" و"كريم" في مصر    شاهد بالصورة.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تنعي جوان الخطيب بعبارات مؤثرة: (حمودي دا حته من قلبي وياريت لو بتعرفوه زي ما أنا بعرفه ولا بتشوفوه بعيوني.. البعملو في السر مازي الظاهر ليكم)    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    انتخابات تشاد.. صاحب المركز الثاني يطعن على النتائج    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    روضة الحاج: فأنا أحبكَ سيَّدي مذ لم أكُنْ حُبَّاً تخلَّلَ فيَّ كلَّ خليةٍ مذ كنتُ حتى ساعتي يتخلَّلُ!    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    القبض على الخادمة السودانية التي تعدت على الصغيرة أثناء صراخها بالتجمع    الصحة العالمية: نصف مستشفيات السودان خارج الخدمة    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سَفِيرُ جَهَنَّم ! من ذاكِرةِ الرُّعْبِ المُخابَراتِي فِي بِلاطِ صَاحِبَةِ الجَّلالَة:
نشر في الراكوبة يوم 23 - 01 - 2017

خريف العام 1977م ، كنا مجموعة معتقلين سياسيين نشكو من مختلف العِلل، ونقضي فترات علاج بمستشفى سجن كوبر. فجأة ظهر بيننا، ذات صباح، نزيل لم يعرفه أيٌّ منا، رغم أننا كنا من أجيال شتَّى، واتجاهات فكريَّة متعدِّدة، وانتماءات سياسيَّة وحزبيَّة متنوِّعة، فتواصينا، كالعادة، بأخذ حذرنا، خشية أن يكون دسيسة أمنيَّة!
منظره العام، وتصرفاته ذاتها، خلال الأيام التَّالية، فاقمت من شكوكنا حوله: رثاثة هيئته، العزلة التي أدخل نفسه فيها منذ أوَّل قدومه، هالة الغموض الكثيفة التي ضربها على حركاته وسكناته، نظاراته السَّميكة يجبُر كسر أحد ذراعيها بسلك نحاسي، بيجامته الواحدة، الممزَّقة، حائلة اللون، بائنة القذر، تكاد خطوطها لا تستبين، يسلخ سحابة نهاره يرتق ما انفتق فيها، وما نَسَلَ منها، بالشَّوك ينتزعه من بعض الشُّجيرات في فناء المستشفى، حذاؤه الجلديُّ ألأغبر، المشقَّق، يظلُّ ينتعله من دغش الصُّبح حتَّى يأوي إلى فراشه آخر الليل، ثمَّ تلك الطبقة القشريِّة تكسو جلده، كما سمكة عجوز، فلا يكفُّ عن حَكِّها بأظافره الطويلة المحشوَّة بالقشف. مع ذلك، إن أنت أمعنت التَّحديق في تقاطيعه الخمسينيَّة، وجرَّدته من تلك الأشياء التي بدت في عيوننا، وقتها، ولشدَّة توجُّسنا، محض (تزيُّد)، أو ضرباً من المغالاة في التَّخفي يفتقر إلى الذَّكاء، فسوف تتبدَّى لك، على الفور، ملامح شاحبة السُّمرة لغردونيٍّ نبيلٍ من جيل الحركة الوطنيَّة، والاستقلال، والسَّودنة!
مع كرِّ مسبحة الأيَّام، وعلى حين راح اهتمام المعتقلين به يذوي، رويداً رويداً، ويضمحل، ربَّما لكون الذي فيهم يكفيهم، أخذ انشغالي بأمره يزداد، لسبب ما، وبنفس المتوالية، مع أنني لم أكن أفضل حالاً من الآخرين! كان ثمَّة رنينٌ خافت، يأتيني من غور أغوار دواخلي، بأنني أعرفه! لكن.. كيف، وأين، ومتى؟! لا أعرف!
هكذا وجدتَّني أتتبَّع خطواته في غدوِّه ورواحه، وأرصد عاداته، في الأكل، والشُّرب، والتَّدخين، والمشي وحيداً يترنِّح، بخطوات مرتبكة، كما شبح، تحت الظلال المسائيَّة لحوائط السِّجن الصَّخريَّة، يلتقط، خفية، أعقاب السِّجائر التي يرمي بها المعتقلون، ليعيد إشعالها بولاعة مذهَّبة فاخرة، للعجب، يحتفظ بها دائماً في جيب البيجامة، حتَّى إذا تصادف واقتربت منه، رحت أدقِّق النَّظر في الأخاديد التي حفرها الزَّمن، ولا بُدَّ، على جبينه وصفحتي وجهه، مؤمِّلاً، عبثاً، أن أنتزع، من وسط رماد تلك الملامح الكالحة، شخصاً ما، عرفته يوماً ما، في مكان ما، وفي زمان ما!
(2)
الانشغال، طوال الوقت، بمشكلة واحدة، قد يُذهب العقل.. فما بالك بأن يحدث لك هذا في السِّجن بالذَّات! لذا، ولمَّا تطاول الزَّمن بلا جدوى، وراح التَّفكير في أمر ذلك المخلوق يجرفني بلا طائل، قرَّرت أن أجعل القصَّة الطويلة قصيرة، بالمخالفة لما كنَّا ائتمرنا عليه من أخذ حذرنا، فحزمت أمري، ذات ظهيرة، عندما أبصرته يجلس، كعادته، وحيداً، على أريكة خرصانيَّة تحت ظلِّ شحيح لشجيرة بالفناء، فاندفعت أقطع المسافة إليه بخطوات مسرعة، وأرمي بنفسي إلى جواره بقوَّة، كما لو كنت أخشى أن أتراجع عمَّا اعتزمت:
"كيف الحال"؟!
"هاي"!
فاجأتني اللفظة الأجنبيَّة، قذفها بتلقائيَّة، وبصوت عميق مثقَّف، غير أنه فعل ذلك بلكنة ليس فيها شيء من ألسنة السُّودانيين على تنوِّعها! تمالكت نفسي سريعاً بعد أن أدرت في ذهني (رُبَّماتٍ) كثر أتعلل بهنَّ، ثمَّ واصلت، متجاهلاً ردَّه:
"ما تعارفنا يا أخي.. تجلس دائماً وحدك"!
تنهَّد خفيفاً، وندَّ عنه طيف ابتسامة عابرة، ثمَّ أجاب بوقار، وبإنجليزيَّة مُبينة، لكنه فاجأني بأن فعل ذلك بلكنة إثيوبيَّة واضحة هذه المرَّة:
"توقَّعت أن يبادر أهل البلد بالتَّرحيب، لكنكم لم تفعلوا.. فما عساي أفعل"؟!
بين المفاجأة والدَّهشة ابتسمت كمَن يعتذر، وبين العجب والحيرة مددتُّ يدي أصافحه:
"كمال".
"تِرِّيكَن".
للوهلة الأولى لم أستوعب اللفظة، تماماً. أخذ الأمر منِّي ثانيتين، ثلاثاً، حتَّى إذا ما ملأ الاسم صماخ أذنَيَّ، وجدتني أتزحزح، دون إرادتي، مبتعداً عنه شيئاً، وأنا أردِّد:
"تِرِّيكَن .. تِرِّيكَن .. تِر .."!
ظنَّني أتساءل، فقاطعني مؤكداً:
"نعم .. نعم .. تِرِّيكَن، لا تبدو صغير السِّن إلى هذا الحدِّ، فلا بُد أنك تعرفني، على نحو أو آخر، أو أنَّك، على الأقل، سمعت باسمي يتردَّد في خرطوم أواخر السِّتينات.. نعم.. يا أخي، تِرِّيكَن، الملحق العسكري الإثيوبي في السُّودان قبل انقلاب مايو 1969م"!
قفزت كالملدوغ حين تبيَّنت الدَّويَّ الهائل للاسم المرعب، غير أنني ما لبثت أن هدأت شيئاً وأنا أتأمَّل حالته البائسة:
"إذن هو أنت! وأنا أقول أين يا ربِّي رأيت هذه الوجه من قبل"!
ثمَّ صمتُّ برهة ألتقط أنفاسي قبل أن أواصل:
"لكن.. ما جاء بك إلى هذا المكان؟! وما الذي بهدلك بهذه الصُّورة"؟!
لم يُجب، بل مضى يحدِّق في الفراغ، طويلاً، بطيف ابتسامة منطفئة، وبعينين كلبيَّتين، من خلف نظارات مكسورة الذِّراع، دون أن ينبس ببنت شفة! لكنه بدا محقاً في استغرابه عندما اعتقد أنني لم أعرفه حتى بعد أن نطق باسمه، إذ مَن ذا الذي في مثل سِنِّي، أوان ذاك، ويشتغل بالعمل العامِّ إلى حدِّ دخول السِّجن، ولا يعرف تِرِّيكَن، أو.. (سفير جهنَّم) كما كان يطلق عليه صديقنا الصَّحفي والشَّاعر والروائي الرَّاحل محمود محمَّد مدني؟!
(3)
كنت، خلال العامين(1967 1968م)، قد رُحت أتنقَّل، كما نحلة شغوف، وقد أن أنهيت المرحلة الثَّانويَّة للتَّو، بين عدَّة مؤسَّسات صحفيَّة، من (السُّودان الجَّديد) إلى (الأخبار)، ومن (وكالة أنباء أفريقيا الجَّديدة) إلى (الضِّياء)، جريدة الحزب الشِّيوعي التي كانت تصدر بدلاً عن (الميدان) بعد حظرها في عقابيل حلِّ الحزب، حيث مكثت بها عدَّة أشهر، قبيل سفري للدِّراسة الجَّامعيَّة في الاتِّحاد السُّوفيتي، وكان يرأس تحريرها القيادي، وقتها، المرحوم عمر مصطفى المكي، ويشرف عليها سياسيَّاً المرحوم الصَّحفي، والقاص النَّاقد، والقيادي، أيضاً، حسن الطاهر زروق. كان ذانك العامان هما الفترة التي ابتدأت فيها صداقة العمر بيني وبين المرحوم محمود والصَّحفي الأديب الآخر صدِّيق محيسي، فضلاً عن صداقات أُخر كُثر في أوساط ذلك الزَّمان الصَّحفي والثَّقافي.
لم تكن لأيٍّ من ثلاثتنا، في الواقع، معرفة شخصيَّة بتِرِّيكَن، أو حتى مجرَّد سبب لمثل تلك المعرفة، وإن كنت، شخصيَّاً، رأيته، من بعيد لبعيد، وبرفقتي صِدِّيق، في مناسبة واحدة سأسوق خبرها بعد قليل!
لكن الأهمَّ من ذلك أن مجرَّد ذكر اسمه كان كفيلاً بجعل الفرائص ترتعد، وبإثارة أقصى درجات الرُّعب في نفوس الإثيوبيين المقيمين بالخرطوم من معارضي نظام الامبراطور هيلاسلاسي، ونفوس الثُّوَّار الإرتيريين من منسوبي جبهة التَّحرير، وقتها، الذين كانت تنتشر الحكايات، بين الحين والآخر، عن تصفيات تتمُّ لبعض رموزهم! وعلى حين كانت أصابع الاتِّهام كلها تشير إلي (سفير جهنَّم)، كانت الألسن تضجُّ بالشَّكوى من استخذاء الحكومة إزاء جرائمه البشعة التي أزكمت رائحتها الأنوف، والتي غالباً ما كان يستخدم فيها بنات الهوى الإثيوبيَّات المغلوبات على أمرهنَّ، يرغمهنَّ على تقديم ما يحتاجه لنشاطه الإجراميِّ ذاك من خدمات، كاستدراج من يستهدف من الضَّحايا إلى مساكنهنَّ في منطقة (حديقة القرشي) بالخرطوم، حيث تجري تصفية بعضهم، ونقل جثثهم من هناك، تحت جنح الظلام، لتتمَّ مواراتها الثَّرى في سِرِّيَّة تامَّة، حتَّى لقد لقَّبه الكثيرون ب (الحاكم العام)، وتحدَّثت المجالس عن مقابر خاصَّة به، عندما اكتُشفت بعض تلك الجُّثث مدفونة على عجل، وكيفما اتَّفق، في الفضاء الكائن بين بُري ومطار الخرطوم، مكانَ (حيِّ الصفا) و(امتداد ناصر) حالياً!
كان نصيب الصَّحفيين السُّودانيين من ذلك الرُّعب وافراً! ولعلَّ الكثيرين ما زالوا يتحسَّرون على مصير (أ. ط)، ذلك الشَّابُّ الصُّحفيُّ النَّابه الذي تناقلت أوساط الصَّحافة والسِّياسة، حينها، قصَّة الابتزاز الوضيع الذي سلطه عليه تِرِّيكَن، بسبب إصداره كتاباً مؤازراً للثَّورة الإريتريَّة، فأجبره، رغم اعتراض زوجته، ووقفتها النَّبيلة إلى جانبه، على تبنِّي كتاب مضادٍّ لم يؤلفه، لكنه وافق على صدوره باسمه، تحت ضغط نفسيٍّ رهيب أفضى به، في النِّهاية، إلى الموت! وهي قصَّة مؤلمة أشبه ما تكون بقصص (المافيا) في أعتى عصورها الأمريكيَّة الصِقليَّة، بل أكثر رعباً، وقسوة، وحقارة، ووضاعة! وأذكر أن الصَّحفي سيد احمد خليفة، بحكم علاقة باسلة ربطته، وقتها، بدوائر الثَّورة الإريتريَّة، ولتأثُّره البالغ بقصة (أ. ط)، أقدم على نشر كتاب جسور يمجِّد فيه تلك الثَّورة، متحدَّياً تِرِّيكَن وعصابته الذين كانوا ينشطون وراء ستار (الملحقيَّة العسكريَّة الأثيوبيَّة)، حتَّى لقد خشي النَّاس على مصيره! ولعلَّه، وقد أفلت من كمَّاشة الرُّعب تلك بمعجزة حقيقيَّة، كان، إلى ما قبل وفاته، عليه رحمة الله، أفضل من يروي القصَّة كاملة للأجيال الجَّديدة، فمعلوماتي عنها مبتسرة للأسف!
(4)
الواقعة الوحيدة التي كنا، صِدِّيق محيسي وشخصي، ضمن شهودها المباشرين، بالمصادفة البحتة، حدثت يوم دعانا زميل صحفيٌّ متواضع القدرات المهنيَّة، ذات خميس من أوائل عام 1968م، لتناول طعام العشاء بمنزله بأم درمان، بمناسبة (سماية) مولوده الجَّديد. وفي طريقنا لتلبية الدَّعوة لم نكن نمنِّي النَّفس بأكثر من سهرة غاية في التَّواضع، لعلمنا بحقيقة إمكانيَّات مضيفنا الماليَّة! غير أننا، ما أن اقتربنا من (بيت السِّماية)، حتى لاحظنا زحاماً لم نكن نتوقَّعه، وأرتالاً من السَّيَّارات الفارهة حاملة لوحات المرور الدِّبلوماسيَّة! ثمَّ إن المفاجأة الأكبر كانت بانتظارنا داخل بيت أخينا، حيث أحالت الزِّينات المبهظة والثُّريَّات الضِّخام ليله نهاراً، وحيث تحلقت أعداد مهولة من المدعوِّين، أكثرهم صحفيُّون، حول طاولاتٍ نُضِّدت بأناقة، وفُرشت بالأغطية الفخمة، ورُصَّت عليها صِحاف الضِّيافة، وآنيتها، بسخاء باذخ! جلسنا، على استحياء، إلى أقرب طاولة، وما لبث مضيفنا أن لمحنا فخفَّ يستقبلنا ببشاشة وترحاب، ويأمر لنا بالمزيد من الضِّيافة، ونحن بين الدَّهشة والحيرة نكاد لا نصدِّق أعيننا!
وإن هي إلا لحظات حتَّى بدأت ترتفع أصوات آلات موسيقيَّة يضبطها عازفوها تمهيداً لبدء الغناء. التفتنا، لاإراديَّاً، إلى حيث منصَّة العزف في واجهة الفيراندا المطلة على الحوش، فأبصرنا ثلة من الفتيان الإثيوبيين بأقمصتهم وآلاتهم القوميَّة المميَّزة!
لكن، قبل أن نعِي الحاصل بالضَّبط، فرقع صوت امرأة كبيرة السِّن من داخل الفيراندا:
"الرَّسول يا بنات امِّي جيبوا المرارة لي .. تِرِّيكَن"!
قفَّ شعر الرءوس، وسرت الرَّعدة بين الطاولات. التفتنا، لاإرادياً أيضاً، إلى حيث فرقع الصَّوت، فإذا ب (سفير جهنَّم) ذاته الذي لفظت العجوز اسمه صراحة، بلحمه وشحمه، وقد أحاط به أهل البيت، رجالاً ونساءً، في مودَّة، كأنه وليُّهم الحميم، يضاحك الكبار، ويداعب الأطفال، وأمامه طاولة خاصَّة مُدَّت، وصحاف منتقاة رُصَّت، وبدا جلياً تماماً أنه هو، لا غيره، ضيف الشَّرف السَّخِي في تلك الليلة!
ما حدث، بعد ذلك، كان عبارة عن (كوميديا سوداء)، إذ ألفينا نفسينا، صِدِّيق وشخصِي، نتدافع، في صمت، مع آخرين كثر، دون سابق اتِّفاق، عند باب الخروج! وفي الشَّارع استغرقتنا موجة من الضَّحك الهستيريِّ عندما رأينا أن بعض الزُّملاء ما كادوا (يتخارجون) حتى أطلقوا سيقانهم للرِّيح!
لم نكفَّ عن الضَّحك إلا صباح اليوم التالي، حين فوجئنا بقنبلة تدوي من منشيت الصَّفحة الأولى لجريدة (الضِّياء): "الملحق العسكري الإثيوبي يقيم حفل علاقات عامَّة للصَّحفيين لتجنيد عملاء جُدُد".. أو نحو ذلك! طالعنا الخبر، وفي ما يشبه اللوم همس لي صِدِّيق، الذي ساءته كثيراً تلك الصِّياغة، بأنها تمسُّ صحفيين شرفاء كلُّ ذنبهم أنهم لبُّوا دعوة عشاء عاديَّة دون أن يعلموا أنها ربَّما كانت مصيدة! تركت صدِّيق يدلف وحده إلى (السُّودان الجَّديد)، حيث نعمل سويَّاً، وتوجَّهت إلى (الضِّياء)، حيث نقلت إلى المرحوم حسن الطاهر زروق لوم صدِّيق وتفاصيل ما جرى. وكان مِمَّا قال (أبو علي) في ذلك، بلهجته المصريَّة المحبَّبة:
"أيوه يا بني .. كلام صِدِّيق صح، وأكيد راح نطيِّب الخواطر، بس كمان أخوانا دول لازم يتفهَّموا إنِّ مَكانش ممكن نهدر القيمة التحذيريَّة في الصِّياغة"!
وحول صحن الفول السَّاخن بزيت السِّمسم الذي دعاني إليه راح يضحك ويستزيدني من حكاية الرُّعب الذي أصاب الكثير من الضِّيوف الصَّحفيين حين فوجئوا بعلاقة تِرِّيكَن بالحفل. وفي اليوم التالي نشرت (الضِّياء) تنويهاً مهذَّباً في ذات المعنى الذي ذهب إليه (أبو علي)، فطابت خواطر كثر.
(5)
انتبهت إلى أن نهر الذِّكريات جرفني بعيداً عن ذلك (الرِّمَّة) المكوَّم إلى جواري على الأريكة الخرصانيّة في باحة مستشفى السِّجن، والذي كان يوماً (سفير جهنَّم) ناشر الرُّعب المخابراتي في ليالي الخرطوم! عدت أتفحَّص هيئته الرَّثة، وأتمعَّن في عينيه الكلبيَّتين تتصيَّدان أعقاب السِّجاير الشَّحيحة حولنا، وأسأله عن سبب كلِّ تلك (البهدلة)، وعن سِرِّ وجوده، أصلاً، في ذلك المكان. فعلمت أنه هرب من أديس بعد إطاحة (الدرق) بالإمبراطور، وأنه قضى فترة في بريطانيا، ثمَّ قرَّر المجئ لطلب اللجوء في السُّودان الذي (يحبُّه كثيراً!) كما قال، لكن جماعة النِّميري غدروا به، فاعتقلوه وزجُّوا به في غيهب السِّجن!
نهضتُّ، وقد تبدَّد، لسبب ما، شغفي بقصَّته!
لكنَّني، وبعد أن خطوت بضع خطوات باتِّجاه العنبر، تذكَّرت، فجأة، أن معي ثلاث سيجاراتٍ، فرميت له بواحدة قفز يلتقطها في الهواء، ككلب صيد مدرَّب، ثمَّ.. مضيت مبتعداً!
كمال الجزولي
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.