لم يتفاجأ الشعب الأمريكي حينما ظهر رئيسهم باراك أوباما على شاشات التلفاز، ليقدم اعتذارا علنيا عن عبارة قالها عرضا خلال مقابلة تلفزيونية أجريت معه قبل أكثر من عام، شبه فيها مستواه في رياضة البولينغ بفئة ذوي الاحتياجات الخاصة... ورغم الاعتذار الذي قدمه لفئة المعاقين، إلا أنه لم يسلم من الانتقادات التي ظلت تلاحقه لعبارته غير اللائقة.. ولم تكن تلك المرة الأولى، فأوباما اعتاد استخدام كلمة "Sorry " قبل أن يكون رئيسا، ولازالت الجالية السودانية في الولاياتالمتحدة تذكر شيماء الكارس، التي اعتذر لها أوباما علنا إبان حملة ترشيحه بعد أن سمع ما قام به منظمو الحملة حينما طلبوا منها عدم الجلوس وراء المنصة بسبب ارتدائها الحجاب، فما كان منه إلا أن اتصل بها محملا نفسه مسؤولية ما حدث، طالبا منها العفو والصفح! أما هنا في السودان فنسمع "حزب الأمة يطالب الشعبي بالاعتذار.. الشعبي يطالب الوطني بالاعتذار.. الوطني يرفض الاعتذار... الخ".. فكأن هذه الكلمة، السهلة النطق، القليلة الأحرف والكبيرة المعنى باتت انتقاصا من هيبة ورجولة السياسيون، فلم نسمع خلال سنوات مضت، أن الرئيس أو الوزراء أو قيادات المؤتمر الوطني من جهة، أو الحركات التي حملت السلاح وأحزاب المعارضة وأعضاءها وقياداتها من جهة أخرى، اعتذروا عن خطأ ارتكبوه أو ذنب اقترفوه.. ورغم أن بعضهم غير من صفاته وسلوكه وطباعه إلى الأفضل، إلا أن الناس تستحضر أخطاء الماضي وتستخدمها كورقة ضغط ضد الشخص المعني حال تذكرت أنه لم يعتذر عن ذلك الخطأ.. أحداث في الذاكرة، بلا شك تستحق الاعتذار طال الزمان أم قصر، وهذا التقرير ليس غرضه توجيه اتهام لشخص أو مسؤول معين، وإنما استحضار ماضٍ يعتبره البعض مريرا لأن من كان مسؤولا عنه لم يقل "أنا اعتذر".. بل الأمر تعدى هذه المرحلة بأن يخرج المسؤول عن الحادثة والواقعة مدافعا ليقول "لم نخطئ ولو تكرر الأمر لفعلنا ذات الشيء"... اسم مجدي محجوب لازال محفورا في ذاكرة العديد من السودانيين، وهو ذلك الشاب النوبي الذي ألقت الإنقاذ القبض عليه داخل منزله فور مجيئها إلى السلطة، واحتجزته لشهر ثم أعدمته بتهمة الاتجار في العملة.. كان الأمر قاسيا أن يعدم مواطن لثرائه أو ثراء أسرته وأن تلفق له تهمة الاتجار بالدولارات بغرض المحافظة على اقتصاد البلد، ومع أن هذه الحادثة المخيفة وقعت في ديسمبر 1989.. لكن لم يتحل أحدهم بالشجاعة لتحميل نفسه مسؤولية الخطأ والجرم الذي ارتكب.. مذبحة العيلفون التي وقعت عشية عيد الأضحى في أبريل 1998 ستظل من أقسى القصص التي تروى.. شباب في مقتبل العمر كانوا في معسكر العيلفون للتجنيد القسري، لم يستمعوا لأوامر إدارة المعسكر التي منعتهم وحرمتهم من الخروج لحضور العيد مع أسرهم.. لم يظنوا أن مخالفة التعليمات عقوبتها القتل الفوري.. ما أن تخطوا أسوار المعسكر الذي يبعد 40 كيلومترا جنوبالخرطوم، حتى كان قرار تنفيذ القصاص جاهزا من أحد المسؤولين، ولم يكن على الجنود إلا التنفيذ.. أطلقوا النار على الشباب المراهقين فأردوهم قتلى على الفور.. تتضارب الأرقام، منهم من قال عشرين وآخرين قالوا مائة.. وكان متوقعا أيضا أن تمر السنون دون إبداء اعتذار عن الحادثة، لكن لم يكن متوقعا أن يُكافأ من تورط في الحادثة بأن تعينه الحكومة سفيرا في إحدى الدول.. إعدام ضباط 28 رمضان، لازالت واقعة تُذكر كلما حل الشهر الفضيل، وهي الحادثة التي وقعت عام 1990 حينما اعتقل النظام 28 ضابطا، بتهمة التآمر للقيام بانقلاب عسكري.. تم نقل الضباط إلى السجن العسكري بمدينة أم درمان.. واخضعوا لتحقيق عاجل قام به ضباط في القوات المسلحة، وقدموا إلى محاكمة عسكرية أدينوا فيها بتدبير محاولة لقلب نظام الحكم.. قدموا إلى محاكمة عسكرية وتمت إدانتهم، وأعدم كافة الضباط رميا بالرصاص.. وقد تكون هذه الحادثة مختلفة التفاصيل، لأن المعنيين والمسؤولين دافعوا عنها، بل قالوا "إن عاد الزمن إلى الوراء لفعلنا ذات الشيء"! ومن الجهة الأخرى.. لم تختلف المعارضة كثيرا في النهج الذي اتبعته، حيث لازالت تستحضر فقط أخطاء الإنقاذ دون أن تتذكر أخطاءها.. في مارس عام 1997 تسللت في ظلمة الليل مجموعات عسكرية من حركات المعارضة الإريترية وبعض فصائل المعارضة وتنظيمات التجمع الوطني الديمقراطي، إلى داخل أحياء مدينة قرورة الواقعة في أقصى الحدود السودانية الإريترية، وما أن استيقظ الشيوخ وعدد من المواطنين حتى هاجموهم.. قيدوهم وعصبوا أعينهم، وفور أن بزغ الصباح قامت وحدات من قوات المعارضة السودانية المسلحة بعمليات اقتحام ومداهمات لمنازل المواطنين.. اعتقلوا الشعرات وسط صرخات النساء والأطفال.. حملوهم في سيارات عسكرية وذهبوا بهم إلى أحد الميادين.. أعدموهم رميا بالرصاص أمام الناس.. لم يكن لهم ذنب سوى أنهم مواطنون من الطبقة المتعلمة المثقفة.. كانت المعارضة وقتها ترى ضرورة القضاء عليهم لتمرير أجندتها ومشاريعها.. وإلى الآن لم يشعر أي من مرتكبي الحادثة بتأنيب الضمير ليخرج ويعتذر.. حوادث أخرى وقعت لكنها لم تصل إلى درجة الإنقاذ التي حكمت السودان ولازالت، ربما لأنها حدود قدراتهم في نطاق (خارج السلطة).. ورفض الاعتذار يأخذ أشكالا مختلفة، منها تجاهل الواقعة، أو المكابرة على الخطأ، أو الرفض الواضح الصريح.. آخر الأمثلة، حينما رفض المؤتمر الوطني الاعتذار عن انفصال الجنوب أو تحميل نفسه المسؤولية، وهو ما قاله الأمين السياسي الحاج آدم يوسف في الأسبوع الماضي "الوطني لن يعتذر، لأن ما فعله يوجب الاعتزاز وليس الاعتذار".. وفي ذلك يقول أحد المحللين السياسيين إن ثقافة الاعتذار عموما ليست جزءا أصيلا من الثقافة السودانية، معتبرا أن الإصرار على الخطأ يعد ضمن سمات الرجولة، ورغم إيمان المحلل أن الشعب السوداني شعب مسامح، إلا أن تاريخ السودان، حسب وصفه، يسجل أشياء ووقائع لا تُمحى من الذاكرة لأنها موجودة وموثقة.. وقد علق عدد من المراقبين على المسألة من زوايا مختلفة، حيث أشار بعضهم إلى أن "مرحلة عدم الاعتذار" لازالت مستمرة إلى الآن، ولم تقتصر فقط على أنواع الحوادث التي ذكرت إنما أخذت أشكالا أخرى.. فإن كان الاعتذار في المعارك الصغيرة بين السياسة والإعلام خجولا وضعيفا، بلا شك، سيكون في القضايا الكبيرة والمهمة مستحيلا.. مثال على ذلك، وزير المالية علي محمود حينما أمر حرسه بإلقاء القبض على صحفي لأنه طلب منه إفادة حول معلومات، لم يعتذر عن الحادثة التي تناقلتها وسائل الإعلام، بل إن الصحيفة التي يعمل فيها الصحفي أجرت حوارا مع الوزير لم تتطرق فيه للقضية، وكان واضحا أنها تسوية دون اعتذار.. وكذلك ما حدث لوزير الخارجية علي كرتي الذي اتهمته إحدى الصحف أنه تسبب في أزمة مياه بري، وحينما تيقنت أنه لم يكن السبب أجرت معه حوارا دون أن تشير إلى الموضوع.. وهو الأمر الخطير، حسب المراقبين، أن ينتقل السلوك من الساسة إلى الإعلام! [email protected] الاخبار