على غير ما أحدٍ كان يتوقع أو ينتظر، يطرح تواصل التظاهرات الشعبية سؤال المقارنة، بين ما يحدث في تل أبيب، وما يحدث الآن في العواصم العربية، من ثورات شعبية، ذلك أن التظاهرات في إسرائيل، ترفع تقريباً شعارات "الشعب يريد إسقاط النظام" نفسها، كما أنها تنطلق أيام السبت، في محاكاة واضحة لثورات الشعوب العربية، التي عادة ما تشتعل أيام الجمع. يبدو أن "القانون الموضوعي" الذي هو المحرك الحقيقي لهذه الثورات، كان أشدّ تأثيراً وأسرع في الوصول إلى تل أبيب من الشعارات، التي كان البعض يتوقعها، وكذلك أنه كان حتى أسرع مما هو متوقع من تأثير أعلى للدول العربية، بعد تغيير أنظمتها الحالية، على القضية الفلسطينية بالمعنى الإيجابي للكلمة، أي أكثر دعماً للموقف الفلسطيني والكفاح الفلسطيني، ذلك أن الشعوب الحرة، سواء في البلاد العربية، أو حتى في إسرائيل نفسها، تدافع عن الحرية في كل مكان، ولا يمكن لها أن تقبل بقهر أو احتلال شعب آخر. ربما مع تطور الأحداث الانتفاضية، خاصة في إسرائيل نفسها تجد بعض الأنظمة العربية المتهالكة، التي "تكافح" بكل الوسائل الفاشية من أجل البقاء في الحكم، في النظام الإسرائيلي "حليفاً في الواقع والمصير لكن "انتفاضة الشعب الإسرائيلي" ورغم أنها تنطلق من عوامل داخلية وبالمناسبة انطلقت الثورات العربية لأسباب داخلية، أيضاً، لا علاقة لها بالصراع في المنطقة إلاّ أنها تؤكد نظافة الثورات العربية، وتدحض بعض ما يروّجه أركان أنظمة الحكم المستبد وهي تواجه ثورات شعبية في بلادها، من أن إسرائيل أو أميركا، كانت وراء "الربيع العربي"! قد لا يمضي كثير وقت حتى تصل أصداء التحولات الداخلية، في الشرق الأوسط، إلى كل العالم، بما في ذلك أوروبا وأميركا، لتحدث ثورة من أجل الديمقراطية الشعبية الحقيقية، لكن يبقى ما يهمنا، هو تفاعلات هذه الثورة التي باستمرارها أكدت كونها ثورة وليست انقلاباً. ذلك أن سرعة الإنجاز في تونس ومصر، بإسقاط نظامي الحكم، بعد أسابيع قليلة من إطلاق شرارة الثورة، أوحى للبعض بأن ما يحدث إنما هو انقلاب سياسي "يسميه البعض تجاوزاً ثورة"، يكون من نتيجته إسقاط أنظمة الحكم القائمة، دون إحداث تغيير حقيقي واسع وشامل، لا في بنية وطبيعة النظام السياسي، ولا في بنية وتشكيلة المجتمع القائمة. وبعد إسقاط نظامي بن علي ومبارك، أظهرت التفاعلات، حيث لم تتوقف المفاعيل ولا التفاعلات الحقيقية، عند ذلك الحد، أظهرت اصطفافات سياسية جديدة في كل من تونس ومصر. ففي تونس، ظهر اتحاد الشغل، والمجموعات الشبابية، في مواجهة "أركان نظام ما بعد بن علي" أي تحالف الأحزاب التقليدية، مع البرلمان والجيش، حيث سعى هذا التحالف لفرض النظام الجديد مبكراً، تحت ذرائع الاستقرار، بل وسعى، ومن موقف ضعف إلى ضم قوى يمينية، مثل حزب النهضة، على أساس صفقة، يتم من خلالها التضحية بالمنجزات الليبرالية، التي حققها المجتمع التونسي في عهد النظام الدكتاتوري. أما في مصر، فإن الصورة كانت أوضح، وكانت المواجهة قد ظهرت بين القوى المحافظة والقوى الليبرالية في أكثر من مناسبة، كان أولها وأهمها التصويت على الدستور ، حيث أن مصر ما بعد مبارك تشهد الآن استقطابات وتحالفات سياسية، حيث تصطف على جانب القوى الدينية مع المؤسسة العسكرية وأركان النظام السابق، في تحالف يبدو أنه اكتفى من الحقل بالعنب ولا يريد أن يقاتل "الناطور"، وتتجلّى مواقف هذا التحالف في مواجهة استحقاق محاكمة أركان النظام السابق، وفي مواجهة استحقاق الانتخابات وما إلى ذلك. وكانت مناسبة الخامس عشر من أيار وبعدها الخامس من حزيران قد أظهرت، اكتفاء "الإخوان" الواضح بما تحقق من إسقاط للنظام، دون متابعة حراك الثورة، ورغبتهم في إجراء الانتخابات بأسرع وقت ممكن، بعد أن قاتلوا من أجل عدم "تثوير الدستور" وتحويله إلى دستور عصري ومدني. مواقف القوى المحافظة في البلاد العربية، التي تشهد ثورات "الربيع العربي"، وفي مقدمتها القوى الإسلامية، لا تريد في الحقيقة ثورة سياسية/ اجتماعية شاملة، بقدر ما تسعى إلى إحداث انقلابات سياسية، تؤمن لها الوصول المقرر والمؤثر في الحكم، وهي بذلك تقف في منتصف طريق هذه الثورات. وهي من جهة تفعل ذلك، حين تتخذ مواقف "انتقائية" بين الأنظمة، مع أن كل الأنظمة العربية، هي أنظمة حكم فرد دكتاتور، لا فرق بين ملك ورئيس، بين معتدل ومتشدّد، بين مفاوض وممانع، وبعد أن شارك "الإخوان" في إسقاط مبارك، وتحمّست إيران، و"طبّل" الجهاد للثورة الليبية، لجأ كل هؤلاء إلى الصمت فيما يخص الثورة السورية ضد بشار الأسد، لكن الأهم من هذه الانتقائية، هو انكشاف الموقف فيما يخص تحولات الثورة واستمرارها، وقد ظهر "خطابا" الثورة واضحين وجليين في "ميدان التحرير" في جمعة "لمّ الشمل"، من خلال الشعارات الدينية، التي رفعتها القوى والحركات السياسية الإسلامية، لقطع طريق الثورة لإقامة مجتمع مدني، عصري وحديث. لا تدرك القوى التقليدية والمحافظة، بأن جذور ودوافع الثورة أبعد كثيراً من حالة الغضب ورد الفعل التي انتابت الشعوب العربية على القمع المتواصل لأنظمة الحكم المستبدة، على مدى عقود، وأن للأمر علاقة بتطور المجتمع الدولي، بعد انتهاء "الحرب الباردة"، وبعد انطلاق "ثورة الاتصالات"، و"عولمة الكرة الأرضية". لذا فإنه لا خيار أمام هذه القوى إلاّ أن تحدث ثورة في داخلها تواكب ما يحدث من ثورة في الواقع، وقد كان واضحاً أن الثورة الشعبية تضع حداً، أيضاً، "للإرهاب" وللخيارات العدمية والمتزمّتة، لذا فإن الدعوة الحسنة هي الممكنة فقط، ولا يمكن إقامة أنظمة "دينية" ولا بأي شكل. لقد كان درس السودان طازجاً، حيث أن إقامة نظام حكم "إسلامي" بتحالف الترابي والانقلابي البشير (أي تحالف الإسلاميين والعسكر)، هو الذي قطع الطريق أمام اتفاق الوحدة مع الجنوب السوداني وأدى في النهاية إلى انفصاله. كما أن النظام الديمقراطي وحده والحياة الليبرالية هي التي تؤمن ممارسة دينية حرة للفرد، وليس النظام الديني، والمقارنة ممكنة بين حرية المسلمين في إقامة شعائرهم، فضلاً عن الآخرين بالطبع في دول الغرب، وبين ما يسمح له بالمختلفين مذهبياً فقط، في أنظمة مستبدة، مثل إيران والسعودية، تركياً، أيضاً، تؤكد الخيار الممكن، بالدعوة الحسنة لمجتمع متسامح، يؤكد قيم المساواة والعدالة الاجتماعية التي يدعو لها الإسلام، في ظل النظام الديمقراطي والمجتمع الليبرالي، هذا هو خيار الجميع، وهذا هو الممكن، شعوب حرة في مجتمعات حرة، تتسع للجميع، ومن يقف في منتصف الطريق، فهذا شأنه، فالقافلة تسير حتى النهاية. [email protected] الايام