قرائن الأحوال – كلها - تشير إلى أن المؤتمر الشعبي سيكسب معركة "زواج التراضي" الذي دفع به كمقترح ضمن ملحق التعديلات الدستورية. بل ان الوقائع المرئية والمخفية، تُدلل على أن النص سيُجاز وسيتم تضمينه في الدستور، على الرغم من الرفض الذي أظهرته هيئة علماء السودان، ومجمع الفقه الإسلامي، وعلى الرغم من خطواتهما الساعية لمناهضة إجازة المقترح الذي منح الرجل والمرأة الحق في الزواج بالتراضي والتعاقد، سواءً كان بالأصالة أو الوكالة. الشاهد أن المؤسسات الدينية الرسمية للبلاد أظهرت – بلا استثناء - رفضاً مغلّظاً لهذا المقترح، واعتبرته مناقضاً لشرع الله تعالى، وقالت إنه يقود إلى ترويج الرذيلة والبغاء. بل أن رئيس مجمع الفقه الإسلامي البروفيسور عصام أحمد البشير وصف زاوج التراضي بأنه مهدد للسلم المجتمعي، وقال إن الأصل أن يتقدم الخاطب إلى والد الفتاة، ويعقب ذلك المشاورة بين الأسرة والعشيرة. وتساءل: "كيف يتم زواج المرأة والرجل بدون الرجوع إلى أسرتيهما؟". وعلى ذات النسق جاءت إفادة رئيس هيئة علماء السودان البروفيسور محمد عثمان صالح الذي جزم بأن الهيئة ستقف ضد إجازة زواج التراضي إلى يوم القيامة. الثابت أن المواقف المنددة بهذا الزواج لم تتوقف عند هذا الحد، بل مضت إلى أبعد من ذلك، حيث وصف بعض العلماء زواج التراضي بأنه تقنين للزنا، على نحو ما جرى على لسان خطيب المسجد الكبير كمال رزق. وقريباً منه جاء رأي الدكتور عبد الجليل النذير الكاروي الذي وصف زواج التراضي بأنه صورة طبق الأصل للزاوج العرفي، وقال لا فرق عندي بين هذا وذاك. حسناً، فالمتأمل لهذه الغضبة الكاسحة ضد زواج التراضي، سيصل إلى قناعة راسخة بأن النص لن يُجاز بصورته الحالية مطلقاً، خاصة إذا علمنا أن رجلاً مثل الدكتور عبد الحي يوسف، وهو نائب رئيس مجمع الفقه الإسلامي، شنّ هجوماً عنيفاً على زواج التراضي الذي منح الفتاة حق تزويج نفسها لمن تراه مناسباً، وقال إنه "بمثابة ترويج للكفر والزندقة، وتسويق للبغاء، ومعاقرة الخمور، وتعاطي الموبقات". ولكن بالمقابل، فأن المتفحِّص للمشهد السياسي ببصيرة حاذقة، سيصل إلى قناعة لا تقل رسوخاً عن سابقتها، بأن النص سيُجاز على النحو الذي يشتهيه المؤتمر الشعبي، ليس لطلاقة النص والفكرة، وانما لأن الشعبيين مارسوا – بغض النظر عن صحة زاوج التراضي من عدمه – إرهاباً فكرياً كبيراً على المجموعة التي تُناهض مقترحهم. المثير في القصة كلها، ان ذلك الترهيب الذي مارسه أهل المؤتمر الشعبي لم يصدر من منطلقات فكرية وفقهية راكزة، وإنما من تسليمهم الكامل، بصحة كل ما يكتبه الراحل الدكتور حسن الترابي، صاحب مقترح زواج التراضي، كما لو أن الترابي لا ينطلق إلا بالحق..! وظني أن ذلك خصم من حجية أهل المؤتمر الشعبي التي تبدو مقنعة بدرجة كبيرة، وهو ما يعني أنه لا توجد حاجة لتقديس المقترح لمجرد أن كاتبه هو الراحل الدكتور الترابي..! ويبدو أن السلطة الحاكمة وقعت تحت هذا التخدير والذي لا يخلو من تحذير مبطن، مفاده ان من يرفض مقترح زواج التراضي، كأنما يطعن في معارف الترابي..! وهذا التبرير – تحديداً - جرى على كل ألسنة الذين تحدثوا باسم المؤتمر الشعبي، بما فيهم أمينه العام إبراهيم السنوسي الذي قام – في حالة نادرة – بالتعقيب على خطبة الجمعة التي تلاها البروفيسور عصام البشير، بمسجد النور، بحجة أن "النقد الذي وجهه عصام لزواج التراضي أثناء خطبته مرفوض وغير مقبول، لأن كاتب النص هو الراحل الدكتور حسن الترابي، ولأنه أعلم من غيره في هذا المجال".. فتعجّب يا صاح..! نعم، فقد تصدّى قادة المؤتمر الشعبي لكل الفتاوى التي صدرت تناهض زواج التراضي، وهذا من حقهم، ولكن ما ليس حقهم ولا مستحقهم، هو أن يزعموا زعماً كاملاً بأن فكرة زاوج التراضي جديدة على المجتمع.. ببساطة لأن هذه الفكرة مطبقة - بصورة أو بأخرى - عند الجمهوريين، وهو ما يعني أن المؤتمر الشعبي – صحّ مقترحه أم فسد – يعاني من اضطراب مفاهيمي والتباس فكري، لجهة أن الدعوة إلى تحرير المرأة في شكلها الحالي يبنغي أن يقابلها اعتراف من الشعبيين بأسبقية الجمهوريين في هذا المضمار.. فهل سيفعلوا.. لا أظن..! (الصيحة)