في أوائل الثمانينيات كان صديقي يقول : كيف عاش آباؤنا دون جرائد وتلفزيون وطائرات. نفس السؤال يطرح اليوم كيف كنا نعيش بلا جوالات وفضائيات وإنترنت. السؤال الأكبر كيف عاشت الشعوب العربية مع القذافي وحسني مبارك وبشار الأسد وعلي عبدالله صالح. ساعدني الطرح الأخير على فهم العلاقة بين التغير الفردي، والتغير الاجتماعي والتغير السياسي. أتذكر عبارة لمثقف فرنسي يقول فيها إذا تحدثنا عن أي ظاهرة اجتماعية فنحن نتحدث عن السياسة بطريقة مواربة. لايمكن أن يعيش الإنسان بمعزل عن تأثير أدواته. فبقدر ما نصنع الأدوات أو نستوردها نتكيف مع التسهيلات التي تمنحنا إياها. التقنية امتداد ليد الإنسان وإضافة لها وانزياح (قليل أو كثير) في مفهوم الحياة. يتعدى أثر التقنية حدود حياة المرء الشخصية. لاحظ مثلا مقدار التغيرات التي طرأت على حيواتنا الاجتماعية منذ امتلكنا الهاتف الجوال. خط رسائل التواصل الاجتماعي ارتبك، ونمط العلاقات تغير والتسامح مع (النكت البذيئة بين الرجال والنساء المحترمين) تفشى ثم الآراء والتوغل في التعليقات السياسية. الحديث عن المجتمع يعني الحديث عن السياسة. التغير في الانماط الاجتماعية يمتد إلى السياسة. المفهوم السياسي الذي يعيشه العربي اليوم ولد قبل أربعين سنة خلت. نشأت في ظروف ثقافية وتقنية وأهداف لم تعد موجودة اليوم. الخطاب السياسي والثقافي الذي تخلق فيه القذافي وحسني مبارك والأسد وعلي عبدالله صالح غير مُدرك وغير مفهوم.عندما ألقى القذافي خطابه الشهير أبو زنقتين لم يفهمه الجيل الجديد.لم يكن سيئا بالدرجة التي صورها الإعلام العربي . كان خارج التاريخ فقط . ألقي على منصة تطل على مقبرة. جماهيره إما أنهم ماتوا أو على وشك. لينجح هذا الخطاب ويحقق أهدافه كان يفترض أن يكون النميري في السودان، وعبدالناصر في مصر وكاسترو في كوبا يصغون بحماسة. الثورات العربية المزدهرة اليوم ليست خروجا على أشخاص هؤلاء. هي ثورات على عدم الفهم. لا أشير هنا إلى الدكتاتورية والأوضاع الاقتصادية السيئة والمظالم وغياب العدالة. هذه النقائص سياق تاريخي يمتد إلى بدايات مفهوم الحكومة عند البشر. يقبلها الإنسان عندما تتسق مع المفهوم الثقافي السائد. الشعب الليبي لم يعد يقبل أن يعيش في خيال القذافي وفي زمانه. لا يوجد اليوم شاب يفهم ما يقوله القذافي: إنه ليس رئيسا لليبيا ولا وزيرا فيها، ولا منصب له لكي يستقيل منه. هكذا ردد. هو ثائر مثله مثل جيفارا وباتريس لوممبا، وسيمون بوليفار. فمطلب الشعب الليبي إذاً غير موجود، ولايمكن تحقيقه. يطالبه الشعب بالرحيل. ما الشيء الذي يتعين على القذافي أن يرحل منه أو عنه. الرجل يقول بكل بوضوح إنه بلا منصب؟ في خطابه الحاسم ذاك صرح أنه ثائر يحمل بندقية فقط.أكد بلسانه ولوح بيده قائلا: لو كنت رئيسا لرميت الاستقالة في وجوهكم. ما الذي يتصارع عليه الليبيون إذاً. لماذا تدور المعارك ويقتل الناس وتتدخل الأممالمتحدة وحلف الناتو والعرب والعجم. لا أعتقد أن الصراع ضد الظلم ولكنه صراع ضد غياب الاتصال ومع افتراق الأزمنة. الثورات العربية لايمكن أن تكون احتجاجات:هي أقرب إلى انهيار قيم الرياض