الجواب لا يقرأ من عنوانه هذه المرة... فدعوة (لقاء دارفور) أو المبادرة الجديدة التي طرحتها واشنطن لتجمع فيها بين الحكومة والحركات المسلحة الرافضة لوثيقة الدوحة للسلام في دارفور، تحمل في طياتها مؤشرات ودلالات لما هو أكثر من مبادرة للمساهمة في حل أزمة قديمة تعرف واشنطن تفاصيلها... وبعيدا عن التنبؤ بما يمكن أن تحققه مبادرة (لقاء دارفور) في حسم المشكلة وإحلال السلام في المنطقة... من الممكن الانتباه إلى توقيت المبادرة واللغة التي طرحت بها، والأهم من ذلك تجاوزها لما يمكن أن نسميه شرط الحكومة والأطراف الموقعة والراعية للوثيقة بعدم فتح منبر جديد للتفاوض وإلزام غير الموقعين من الحركات باتخاذ الوثيقة مرجعية وأساسا لأي نقاش في المستقبل... وما يدعو إلى العجب أن أمريكا كانت من الحاضرين لتوقيع الوثيقة وأمنت على ما فيها، بل تعهدت ببحث الرافضين الانضمام إليها دون تحفظ، كما أن مصادر أشارت إلى أنها طرحت المبادرة على الحركات قبل طرحها على الحكومة.. الطريقة التي طرحت بها واشنطن المبادرة ومواقف صدرت عن الإدارة الأمريكية تجاه السودان مؤخرا، تكاد تؤكد حقيقة النبوءة التي ترددت كثيرا في لقاءات المحللين السياسيين والخبراء المتعلقة بأن واشنطن تنتظر بصبر نافد اكتمال عملية فصل جنوب السودان والاعتراف بالدولة الجديدة لتغير سياستها ولهجتها تجاه السودان الشمالي. لا يوجد يومها ممن حضر أو شاهد لحظة الاعتراف بدولة جنوب السودان من لم تلفت انتباهه الفرحة الشديدة التي تملكت سفير الولاياتالمتحدة لدى الأممالمتحدة سوزان رايس، وبالذات كسودانيين شدنا مشهد القبلة التي وضعتها رايس في خد نائب رئيس حكومة الجنوب د. رياك مشار مع سبق الإصرار... وكأنها بذلك اطمأنت لقيام دولة جنوب السودان، وبعدها نشطت أكثر من ما كانت ناشطة في حث مجلس الأمن على اتخاذ مواقف تتعارض مع مصالح الحكومة السودانية على الأقل... فهي من قدمت مشروع مقترح نشر قوات تتبع للأمم المتحدة أثيوبية الجنسية تحت البند السابع أمام المجلس... وتكلل مشروع مقترحها بالنجاح.. والجدير بالذكر أنها المرة الأولى التي تدخل فيها قوات أممية أرض السودان وهي تحمل في يدها تفويضا تحت البند السابع... ووقتها سعت الحكومة إلى صرف الأنظار عن كون أنها قوات تحت هذا البند بعيدا عن الممانعة المعتادة منها، رغم أنها شديدة الحساسية تجاه هذا البند... وعقب عودته مباشرة وفي مؤتمر صحفي بمطار الخرطوم، أشار مساعد رئيس الجمهورية د. نافع علي نافع، إلى أنهم لا يكترثون إلى أن القوات تحت البند السابع أم لا، وقال مقللا من ما أثير حوله (البند السابع الذي منح للقوات الأثيوبية في أبيي لا يخرج من سياق الأممالمتحدة وتوصيف صلاحيات القوات لحفظ الأمن ومنع تدخل أية قوات أخرى للمنطقة)، وفي وقت سابق، أي قبل الاعتراف بدولة الجنوب لم تكن الحكومة تتساهل في الموافقة على دخول قوات أممية أرضها وتقبل تحت ضغوط شديدة ناهيك عن كونها تحت البند السابع. الحكومة على ما يبدو آثرت التماهي حيال لغة واشنطنالجديدة، بالإضافة إلى موقفها من القوات الأثيوبية تحت البند السابع الذي أشرنا إليه، رهنت رفضها ل(لقاء دارفور) بحال قصد منه منبر تفاوضي جديد أو مفاوضات خارج سياق الوثيقة، دون أن ترفضه من حيث هو أو تطالب بضمانات لتحقيق شروطها للمشاركة في اللقاء. الناطق الرسمي باسم الخارجية العبيد أحمد مروح قال (إن المبادرة الأمريكية إذا تحدثت عن منبر جديد أو تفاوض جديد فهي مرفوضة)، وفي الوقت عينه حذرت الحكومة واشنطن من مغبة دعم الحركات الرافضة لوثيقة الدوحة. وقال العبيد إن أمريكا بدعمها للحركات (سترتكب خطأ كبيرا)، وأشار إلى أن إساءتها بمثل هذا التصرف تتعدى السودان إلى الجهات التي دعمت اتفاق الدوحة، في إشارة إلى دولة قطر والاتحاد الأفريقي. انفصال الجنوب أغرى أمريكا بتغيير (تكتيكها) في التعامل مع مسألة السودان، حسب رؤية أستاذ العلوم السياسية بروفيسور الساعوري، وأوضح في حديثه ل(الأخبار) أن سياسات ومواقف الإدارة الأمريكية من حكومة السودان ظلت ثابتة لا تتغير، وتنحصر في تغييرها بوسائل سلمية أو الإطاحة بها بالقوة، وقال إن وجود دولة الجنوب ساعدها في رسم تكتيك جديد، تشارك فيه حكومة الجنوب والحركة الشعبية كعنصر رئيسي، وتستخدم فيه قضية دارفور والحركات المسلحة كمخلب قط.. وأشار الساعوري إلى التحالف الأخير بين حركات دارفور والمتمردين في جنوب كردفان وقال (مثل هذا التحالف يحقق أهداف أمريكا وخاصة أنه طالب بحكومة علمانية أو إسقاط النظام، وكلا الخيارين يناسب الإدارة الأمريكية).. الساعوري، لم يستبعد أن تتضح ملامح هذا التكتيك الأمريكي الجديد بصورة أكبر في المرحلة المقبلة. عداء واشنطن للخرطوم قديم، وظل سمة أساسية للعلاقة بينهما منذ وقت ليس بالقصير، في بعض الأحيان يشهد قليلا من التحسن، وتقدم واشنطن وعودا بإزالة الخلاف بشروط، وكلما أجهدت الخرطوم نفسها في تحقيقها، بدأت شروط جديدة، من التعاون في الحرب على الإرهاب وإنفاذ استحقاقات اتفاقية السلام الشامل، وإجراء انتخابات، إلى وقف العنف وفرض السلام في دارفور، وكثيرا ما تستخدم أمريكا السياسة التقليدية المسماة بالجزرة والعصا، إلا أنها كلما هوشت باستخدام العصا تذكرت حليفتها الحركة الشعبية وجنوب السودان.. اليوم جنوب السودان دولة مستقلة لن تتأثر بالعصا الأمريكية، لذا قد لا تتردد في استخدامها شمالا إن اقتضت الضرورة ذلك. الاخبار