عن دار مداد للنشر بدبي صدر مؤخرا رواية فليّن جذور الصفصاف الحائزة على جايزة الطيب صالح التقديرية للابداع الروائي من مركز عبد الكريم ميرغني للعام 2016 للقاص والروائي جمال الدين علي الذي يقول عنها: هي رواية تغوص عميقا في نهر الواقع الذي يجري متدفقا تحت الأرض و محاذيا للنيل. لا يحمل مياه جوفية صافية انما كدرا وعرقا وقيحا ودماء تنبع من بحيرة الظلم والفساد التي كانت تفور أسفل خرطوم الترك. انها رواية صراع الطبقات المسحوقة تحت ضرس الأسياد. والمدهوسة تحت الأقدام وحوافر الخيل. منها تشكّل هذا الخليط من السائل اللزج الآسن. انها صراع الانسان الاذلي من أجل البقاء ليس حيا وحسب. ولكن حرا في مجتمع طبقي تباع فيه كرامة الانسان وتشترى. وتستخرج له شهادة ملكية بأمر السلطات هي بمثابة شهادة للتملك حد الفناء. شهادة ميلاد للعبودية ووفاة للآدمية في الآن نفسه. تصور الرواية هذه التجارة المربحة الخاسرة. تتبع مراحل انتاجها منذ أن كانت بذرة في أرحام الأمهات. فرزها وترقيمها وتعبئتها وتسعيرها وحتى لحظة عرضها للزبون بلا تاريخ صلاحية. تصور الرواية بعين الحقيقة المجردة كفاح الطبقة المستعبدة البائسة من أجل البقاء. تعيش معهاحياتها في الحواري والأزقة الضيقة المكتظة بالأنفاس والأجناس والانجاس. تعيش أحزانها وأفرحها. آلامها وأحلامها. نزقها وفسادها. انها رواية الخيال الذي يتلبس الواقع ويلتحم معه حد التماهي حين يكتشف العبد الخصي فلّين أن له قلب بداخل صدره ينبض بالحب. وحين تكتشف سيسبانة الجارية الهجين الحسناء كمية الحب الروحي الذي انسكب خلسة حين انسربت روحها وانسكبت بروح فلّين لتحلق روحيهما عاليا في سموات الحب ليكتشفا لاحقا أن للجسد لغة أخرى ليس من بينها لغة العيون. فهل يتقاضى الحب الروحي عن مطلوبات الجسد ويحيا؟ انها رواية الواقع الذي يفوق الخيال حين تتعثر الباخرة التي كانت في طريقها لانقاذ الجنرال غردون بمركب صغير قبالة مدينة بربر. ومن بين النار والدخان والحطام يخرج طفل صغير لم يتعد عمره العامين. يهب الطفل واقفا كشبح يلبس جبة مرقعة. وجهه ملطخ بالدماء والسخام. يرفع سبابتيه بوجه الجنود الانجليز المشدوهين لحظتها ويطلقها حمما متفجرة من سلاحه الطفولي الصغير ( بوم. بوم... موتوا موتوا). يعجب الجنود بجرأة الفتى فيقرروا أخذه معهم كأصغر أسير حرب في الكون. و برغم أنهم عرفوا أن اسمه مصطفى ود بربر وأنه ابن لزعيم قبلي معروف. ولكنهم فضلوا أخذه معهم شمالا. حملوه مثل أيقونة بدلا عن انقاذ الجنرال غردون. في القاهرة بدلوا جبته المرقعة بلبسة افرنجية أنيقة. و بدلوا اسمه و لسانه ودينه. ولكن ترى هل نجحوا في تغيير لونه و دمائه؟ ينشأ الطفل مصطفى الدرويش الصغير أو جيمي الصغير في مصر ويترعرع في مندلاى في بورما والهند ليعود أخيرا الى بريطانيا جيمس فرانسيس درام كأول جندي أسود بالجيش البريطاني وبمخصصات كاملة. هناك يجد الفتى الأسمر نفسه مثل شامة سوداء بوجه حسناء شديدة البياض. يهفو قلبه لشقيقة صديقه النقيب الفتاة الشابة البيضاء جين و التي بادلته الغرام بأحسن منه. فهل ينجح من قام بتغيير هويته الدينية والثقافية في تغيير نظرة المجتمع الأبيض المتحضر. أم لم يعمل لذلك حساب؟. هذه الأسئلة الشائكة المعقدة و الكبيرة تجدون اجاباتها بين السطور. لا لفضح زيف الحضارة الغربية المتقدمة وحسب بل لمقاربة ذلك الزيف مع الواقع المعاش في مجتمعاتنا المسلمة. فلّين جذور الصفصاف صراع الطبقات والأمم والحضارات حين تستفيق أوربا على صراخ بريطانيا العظمى الهستيري صبيحة السادس والعشرون من يناير وتكتشف أن الامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس قد فقدت عذريتها على يد جنود سود لم يأبه لهم أحد يوما. يومها لم تجد بريطانيا حرجا في أن تقف وهي عارية والدماء تسيل من بين فخذيها وتغني مع أشعار كبيلينج في الحانات الليلية. ( هناك في السودان غاب عنا. غاب عنا). اولئك الحفاة العراة الذين كانوا يلبسون الجبب المرقعة حطموا كبرياء بريطانيا ومرغوا أنفها بالتراب وهم يكسرون أسطورة المربع الانجليزي. انهم فيزي ويزي. هذا حين كانت صرختهم (الله أكبر ولله الحمد). ولكن حينما خلطوا الدين بالعجين ونفض الامام المهدي طرف ثوبه ثلاثة مرات وهو يقول من منبر صلاة الجمعة ( ود سليمان خرب الاشراف. أنا بري منهم دنيا وآخرة). لحظتها كان الجنود الحفاة العراة يلبسون القفاطين المنقوشة بالحرير و الجبب السابلة بالأرض. ويتزوجون الأبكار مثنى وثلاث ورباع غير السراري وملك اليمين. لذا حين صرخ الأمير إبراهيم الخليل يوم الكسرة ( المهدية مهديتكم الا نحن قدنا بنسدو. المهدية مهديتكم الا نصرة مافي. ن..صرة. ما اا ف ي). لم يسمع صدى صوته سوى جبل سركاب الصامت والقبة الفاغرة يافوخها للسماء. حينها انفتق الرتق وتكشّفت عورة الثورة والوطن الذي كانت تسترههما جبة مرقعة في يوم من الأيام. فلّين جذور الصفصاف دموع تغسل الحزن ودموع تنبّت الفرح على الخدين. دماء تغسل عدار العار. ودماء تسقي بذور الحقيقة. حقيقة الشرف الباذخ المتوهم. انها ملحمة وليست رواية يذرف فيها الابطال الدموع حزنا وفرحا وتسيل دمائهم وتختلط بعرقهم وأنفاسهم الحارة. يقفون أمام كاميرا التوثيق التاريخي بلا أقنعة. يحكون قصصهم بلا خوف ولا مجاملة ولا حياء. فلّين جذور الصفصاف ليست رواية لتزكية الوقت. ولا المتعة. ولا للتثقيف حتى. انها عمل ملحمي نهدف من ورائه الى رتق ثوب التاريخ كثير الثقوب. انها رواية تصور دوي تصادم الحضارات إن كان للصوت صورة واضحة غير الذبذبات التي تظهر على أجهزة الرادار. انها رواية القصص الصادمة والأحداث الجسام والبطولة المطلقة والخيانة المتجزّرة في النفوس. والحب الروحي الكبير. انها رواية للبحث عن حقيقة. حقيقة الأبطال المغمورين الذين صنعوا ثورة والذين لم يذكرهم التأريخ اما لوضاعة نسبهم أو لنزالة الأعمال التي قاموا بها أو لبؤس المهن التي امتهنوها. انها رواية الحقيقة الصادمة حقيقة مصطفى ود بربر. من هم أهله؟. كيف نستطيع الوصول اليهم؟ لا لفتق جروح قديمة. ولا لمحاكمة أحد فقد تقابلنا في ميدان المعركة قاتلنا بشرف انتصرنا في معارك وخسرنا في أخرى. ولكننا لم نفنى. نقوم بذلك لأننا أحفاد أولئك الأبطال و نظن وليس كل الظن اثم بأننا ندين لبريطانيا العظمى باعتذار. آملين أن يأتي يوم يقف فيه أحفاد ذلك الطفل الأسير على قبره في مدينة درام وربما قرأوا الفاتحة على روحه عسى الله أن يقضي أمرا كان مفعولا. انها رواية الفيلم الحقيقي بلا مناظر قبل العرض ولا بعده. ليس من انتاج هوليود ولا بليود. انه انتاج سوداني خالص وبامتياز لأناس عاشوا على هامش هذه الحياه وقد سطروا لنا بدمائهم قصصا لواقع كان سائدا ومعاشا فيما مضى. وقد شكّلت حيواتهم وقصصهم وجدان هذا الشعب. فكانت ذكراهم في حياتنا كما الأثر تحدثه القدم بالطين فلا يزول. جمال الدين علي الحاج