أكرمنى الزملاء فى رابطة الاعلاميين الاستقصائيين السودانيين باستجابتهم لمشروع توثيق تجارب الهجرة واللجوء والاغتراب لاجيال من أهل السودان وبدأنا فى اعداد الدراسات والاستبيانات لانجازه وكان أول الغيث دراسة أعدتها الرابطة عن أول أسير سودانى نقل الى بريطانيا عام 1886م فى سابقة هي الأولى من نوعها . وقام الزملاء الأعزاء بزيارة جامعة دارم البريطانية حيث يوجد أهم مركز للوثائق السودانية وقابلوا الآنسة (جين) المشرفة على القسم ووقفوا على الوثائق والصور الخاصة بهذه الواقعة التاريخية بمفاجآتها المدهشة ! المعروف فى تاريخ السودان انه عندما بدأ الإمام محمد أحمد المهدى حصار الخرطوم وسقوطها فى 26 يناير عام 1885 أرسلت قوة عسكرية لانقاذ حاكم عام السودان الجنرال تشارلس غوردون وتحركت القوة من مصر متجهة الى الخرطوم ،ولكن وهى فى طريقها أمرت بالرجوع بعد دخول قوات المهدى سراى الحاكم العام واغتيال غوردون ،وبالفعل أخذت القوة فى التقهقر فى طريق العودة الى مصر ووقعت بينها وقوات المهدى المنبثة فى الشمال عدة مناوشات ..وعند منطقة عبرى تقرر تجميع القوات للاستراحة وأقيم المعسكر بالقرب من حلة سيد أفندى. واثناء اعداد المخيم تلقت الفرقة معلومات عن قارب شراعى ضخم محمل بعتاد عسكرى ومؤنة لجيش المهدية ويحرسه عدد من المجاهدين الدراويش . وقرر الجنرال ويلزى إرسال مجموعة لمهاجمة القارب مكونة من عشرين جندياً من الخيالة وخمسة وعشرين جنديا من كتيبة درام للمشاة والتى سميت باسم المدينة التى تقع شمال شرق بريطانيا ، اضافة الى مجموعة من جنود الهجانة المصرية . وقطعت المجموعة ما يقارب (35) ميلاً جنوباً ،ولم تعثر على القارب ،وقررت مجموعتان الغاء المهمة والعودة الى المعسكر ،بينما اصرت مجموعة مشاة درام على اكمال مطاردة القارب ،وبالفعل، وبعد فترة وجيزة شوهد القارب قادما باتجاههم ،وكان الوقت ليلا والظلام يلف المنطقة ،واطلقوا نيرانا كثيفة تجاه القارب الذى أصيب واشتعلت فيه النيران وقفز معظم ركابه واختفوا وسط أشجار الشاطئ .و تقدم الجنود الى القارب،وبين الاشلاء والحريق وجدوا رجلا طاعنا فى السن مصاباً فى ساقه وقد نزف كثيرا وهو فى حالة احتضار والى جواره طفل صغير يقارب السنة الثانية من عمره ، يلبس جبة الدراويش المرقعة والمفصلة خصيصا له ،وكان ملطخا بالدماء التى تطايرت من أشلاء الضحايا. وعندما رآهم ( وفقا للنصوص الموجودة فى المركز والتى تتضمن يوميات القوة ومذكرات الجنرال آرثر) وقف منتصباً بجوار الشيخ المسن المصاب موجها كلتا يديه الصغيرتين ،مشيرا بسبابتى كفيه نحو الجنود وهو يصيح محاكياً صوت الطلق النارى : بوم ،بوم ،بوم ... موتوا ..موتو ا.! وأثار المشهد دهشة واعجاب واشفاق الجنود .. وبعد تفتيش القارب وتمشيطهم للمنطقة المحيطة به ، تقرر رجوعهم الى كتيبتهم ، وأخبرهم الرجل الجريح ان الطفل اسمه مصطفى وهو ابن لاحد شيوخ بربر من مجاهدى المهدية ،وقد قتل بالرصاص عند مهاجمة القارب وان والدته وشقيقه كانا فى القارب وتمكنا من الفرار . وبعد هذه المعلومات بوقت قليل توفى الرجل المسن . عندئذ قرر جنود كتيبة درام أخذ الطفل معهم الى معسكرهم ،كأسير حرب !! وقدموه الى النقيب الأسكوتلندى ستيوارت ،قائد كتيبة مشاة درام ،فأسماه ,جيمى الدرويش . ووصلت أنباء الى الفرقة بأن قوات من الدراويش تتكون من الفى جندى فى طريقها اليهم ،فصدرت الأوامر باخلاء الموقع ومواصلة السير تجاه مصر . واحب الجنود الطفل مصطفى لكنهم فضلوا مناداته بالاسم الجديد ، جيمى الدرويش ،وصنع له النقيب ستيوارت ،بردعة ، على مقاسه ،ثبتها أمام سرج حصانه ..ولقى الدرويش الصغير عناية واهتمام الجنود واخذوا يلقنونه كلمات بالانجليزية . وبعد وصول الفرقة الى مصر قدم النقيب ستيوارت الطفل الى قادة القوات البريطانية ، الجنرال بتلر وبيكر باشا . وبعد فترة تقرر سفر كتيبة مشاة درام الى الهند على ان يلحق الطفل باحدى المدارس التبشيرية أو دار لرعاية الايتام فى مصر ,الا ان الكابتن ستيوارت كان أكثر تعلقا بالطفل وكذلك أفراد كتيبته ،فكتبوا رسالة استرحام الى قيادة القوات البريطانية للسماح لهم بأخذه معهم ،وتعهدوا باقتطاع جزء من معاشهم التقاعدى ورواتبهم الشهرية ،مدى الحياة ، لتربية وتعليم الطفل . وتجاوبت معهم كتائب أخرى مغادرة معهم الى الهند ،تبرعت بمبلغ روبية من مرتباتهم لتوضع فى حساب خاص باسم الطفل الذى تعدل اسمه مرة اخرى ليصبح ، جيمس فرانسيس درام ، تيمنا بالمدينة التى قدمت منها الكتيبة التى انتمى اليها. وتسابق الضباط والجنود لخدمة الطفل ، اللفتنانت جيمى بيرلى يتولى اعداد الحمام الصباحى للطفل والاعتناء بملابسه ، كما تبرع آخر بقراءة قصص ما قبل النوم .. ووافقت قيادة الجيش بمرافقة الطفل للكتيبة فى رحالتها الى الهند عام 1887 حيث التحق هناك بالمدرسة الخاصة بأبناء العسكريين . واهتمت الصحف البريطانية بقصة الطفل السودانى وطغت على فشل حملة انقاذ الجنرال غوردون . ومن الهند انتقلت الفرقة ومعها طفلها الى بورما حتى بلغ الرابعة عشرة من عمره ، ودخل تاريخ الجيش البريطانى ،عندما تقرر ادخاله فى الخدمة العسكرية ، وكانت القوانين لا تسمح فى ذلك الوقت بالتحاق السود بكل مخصصات الخدمة ومساواتهم بأقرانهم من البيض . ونشطت حملة داخل الجيش وبمساندة الصحف ، لاستثناء الدرويش الصغير واتخذت قيادة الجيش البريطانى فى بورما خطوة جريئة اثارت جدلا واسعا لقرارها باستيعابه بكامل شروط الخدمة العسكرية ومخصصاتها ،وكان ذلك خرقا لقوانين الجيش الصارمة ، وكانت الملكة فكتوريا من المعجبين والمتابعين لقصة الدرويش الصغير وتدخلت لمنحه استثناء تاريخىاً وصدر فى يوليو 1899م ، قرار خاص من قيادة الجيش البريطانى ليصبح مصطفى - الدرويش الصغير- أول أسود يلتحق رسميا بالخدمة العسكرية وأول جندى أسود فى تاريخ الجيش البريطانى ينضم الى الخدمة الكاملة ويحمل الرقم (6758) . وبعد بورما تنقل فى انحاء عديدة فى خدمة الامبراطورية البريطانية . وسجل فى ملف خدمته بأنه كان عسكرياً ورياضياً و من المتميزين جداً . وفى عام 1902 عاد الى مدينة درام واستقبل استقبالاً حافلاً من سكان المدينة. وتزوج فى عام 1908 من جين جرين شقيقة نقيب فى الجيش فى قاعدة بيوشوب باوكلاند ، وبعد فترة نقل الى منطقة كورك بايرلندا الشمالية ، ونتيجة للطقس البارد هناك ، اصيب بالتهاب رئوى حاد وتوفى وعمره لم يتجاوز السابعة والعشرين، وشيع فى جنازة عسكرية. وبعد ثلاثة أسابيع من رحيله ،انجبت زوجته ابنته الوحيدة فرانسيس وعاشت فى بيشوب اوكلاند حتى وفاتها عام 1998 م. وخصصت مدينة دارم ،بقاعة بلديتها ،معرضا يروى قصة حياته .. (أمدتنى رابطة الاعلاميين الاستقصائيين السودانيين، بمجموعة من الصور من بينها صورة له مع الجنرال وينزلى وهو فى الثانية من عمره ومع الجنرال ستيوارت فى مصر،و صورة بالزي العسكرى بعد التحاقه بالجيش ، وأخرى لمراسم تشييع جنازته وصورة لابنته فرانسيس. )