حينما قدمت لأول مرة مغتربا في السعودية قبل سنوات وعملت بمجلة " سعودي شوبر" مديرا للتحرير ،ولحق بي الزميل أسامة الوديع الذي وضع عصا الترحال بعد سنوات خدمة طويلة بوكالة الأنباء الكويتية في الرياض، وقبل أن أنضم لكوكبة "صحيفة اليوم " ، كنت أحدث كل من حولي بأني عائد الى السودان بعد أشهر قليلة .. ولكن الأشهر أضحت سنوات ، ولم نزل في دوامة الغربة ، غير أن حنين السنوات الأولى يعصف بنا حاليا. صحيح أن الغربة توفر لك قدر ممتازا من العيش، وتحصيل بعض الدراهم التي تعين حين الاستقرار، ولكن هذه الدراهم لن تعوض لحظة معايشة أناس عزاز فارقناهم منذ سنوات، وفي الدواخل حلم مقيم بلقاءات فرحة، ولكن يد المنون أختطفتهم بلا مقدمات ، وأصبح الدعاء أن يكون الملتقى الجنة. أشعر بألم أن فقدنا خلال غربتنا الطويلة عدد نضيد من افراد الاسرة والاصدقاء والزملاء والأحباب، لم نحضر لحظات ألمهم ومنهم من لم يكتب لنا الله أن نشيعهم الى الدار الاخرة مع المشيعين، ولعل هذه احدى منغصات الغربة ، التي لا يدركها الا من جربها. من بين معشر المغتربين من فقد والديه، وأعز الناس لديه ولم يسعفه الحظ حتى بإلقاء نظرة أخيرة .. هذه من مواجع الغربة الكثيرة.. أيضا أفراح جميلة لم نسعد بمشاركة الأهل أيضا والأحباب فيها، زغاريد وتهاليل لم تعانق اذاننا ونحن في غربتنا ، أيضا هذه من مواجع الغربة التي قد لا يعرفها الا من جربها. هناك جانب غاية في الأهمية ترى الى متى يظل معشر المغتربين والمهاجرين يعيشون بعيدا عن وطنهم وهم يقفون في حالة عجز تحول دون مشاركتهم الاهل والاحباب الأتراح والأفراح..نعم هي أيضا الالام وأوجاع الغربة. كثيرون في هذه اللحظة لربما يفكرون في الاغتراب والهجرة ولهم إستعداد أن ينفقوا في سبيل ذلك ما يملكون ،نظرا للظروف الاقتصادية بالغة الصعوبة التي تعيشها البلاد في الساعة الراهنة، لكن رغم ذلك للغربة مرارات لا يدركها الا من يجربها، فمهما كان عملك ودخلك مرموقا تبقى هناك مساحات في الدواخل لا يشبعها الا هواء الوطن العليل بكل معاناته .. ففي السودان لك أن تطلق لسانك كيفما شئت ،تسافر تغادر تخاصم تعازل تصالح .. نعم هناك مساحات للبوح الجميل قد لا تتوفر في أي مكان الا في السودان. فنحن في غربتنا الممتدة، ظللنا نضبط المنبه (يوماتي )حتى أصبحت الساعة البيولوجية غاية في الدقة حتى في أيام العطل، يكاد المغترب لا يذكر اذا تأخر عن العمل لحظة ناهيك أن يتغيب وهو في دوامة لأتعرف التوقف .. لذلك دعونا بلحظة نضع فيها عصا الترحال ونعانق الوطن ونحن نردد من "أهلنا سافرنا و سفر الغربة بهدلنا" . [email protected]