خرجت علينا الكثير من الأقلام التي تملأ الأسافير الآن تتحدث أن ما جرى بالأمس من تنحي الفريق أبنعوف ونائبه عبدالمعروف عن رئاسة المجلس العسكري، وتولي الفريق البرهان رئاسة ذلكم المجلس، بأنه محض مسرحية أخرى من مسرحيات جماعة الكيزان المعروفة، وأن الأمر لا يعدو كونه محاولة أخرى للإلتفاف على الثورة، وسرقتها، والتمهيد لإعادة إنتاج الإنقاذ 2، مع المحافظة على كل مؤسساتها ومراكز قوتها العميقة. مدعمين فرضيتهم تلك بكثير من الشواهد والأدلة التي لا ضرورة لذكرها. وأنا بدءاً أؤكد إتفاقي مع ما أوردوه من إحتمالية وجود مؤامرة كيزانية أخرى، تستبطن المحافظة على النظام السابق بكل مؤسساته ومراكز قوته، ولا أستبعد ذلك بتاتاً، ولكن لديَّ بعض الملاحظات التي قد تُضعف تلك الفرضية، ولكن لا تلغيها، وهي: – أصحاب تلك النظرية يفترضون أن كل خيوط إدارة اللعبة بيد الكيزان، وأنهم الوحيدون الموجودون في ملعب الفعل السياسي حالياً، وهذا ليس صحيحاً. -أصحاب تلك النظرية يفترضون أيضاً أن كل الكيزان الآن على قلب رجلٍ واحد، وأن لديهم غرفة عمليات واحدة تدير الأمور من خلف ستار، ولا إنقسامات بينهم. وهذا لا يمكن أن يكون صحيحاً، حتى وإن بدوْا على السطح، وفي الواجهة، موحدين ومتحدين، وذلك لأن ما يحدث الآن هو أكبر تحدي يواجهه الكيزان خلال فترة حكمهم الطويلة للبلد، ولابد له أن يخلخل صفوفهم، ويُحْدِث الإنشقاقات بينهم، كما أن الخلافات بينهم كانت قد وصلت ذروتها قبل هذه الأحداث بشهور، مما يجعل كل المحاولات الحقيقية للتوحد فيما بينهم، ولم شملهم، تكاد تكون مستحيلة، وإن حدثت فهي ظاهرية فقط وليست حقيقية وأصيلة.. كما أن جماعة الكيزان في السنوات الأخيرة إنفض عنها معظم الصادقين والمؤمنين حقيقةً بالفكرة، وتحولت لمجموعة من المنتفعين والحرامية، وهؤلاء لا يمكن لهم قيادة معركة ضد هذا الطوفان الشعبي الهادر.. – أصحاب تلك النظرية ينسوْن أو يتناسوْن درجة الوعي السياسي الكبيرة التي تجمَّعت لدى السودانيين طوال فترة حكم الكيزان، ومعرفتهم بكل أساليبهم وحيلهم، لذا لا أعتقد أن هذا الشعب يمكن خداعه مرة أخرى بسهولة.. – أصحاب تلك النظرية لم يلتفتوا إلى أن جموع الشعب السوداني المعتصمة قابلت خطوة تنحي أبنعوف وتَسلُّم البرهان الأخيرة بشيء من الترحيب المشوب بالحذر والترقب، وأن قيادة الإعتصام لم تقل أبداً أنها ستترك الميادين.. – أصحاب تلك النظرية لم يُشِيروا البتةَ لردة فعل الشارع الكبيرة لخطاب تولي أبنعوف المسئولية، وهي ردة فعل كانت قوية جداً، ووجهت رسالة تحذير شديدة اللهجة للفريق البرهان، ستجعله غير قادر على الإلتفاف على إرادة الشعب، حتى إن هو أراد ذلك.. – أخيراً أقول: يجب على قادة الثورة عدم التصلب في المواقف، ورفض كل ما يلوح لهم من فرص نتيجة وسواس الشك القهري بالآخر. كما يجب عليهم عدم تضييع كل فرصة تسنح لهم، متى ما تأكدوا من نَفْعِها لهم. كما يجب عليهم التحلي بالدهاء والمرونة السياسية، لأن خصمهم ليس سوبرمان لا يخطىء. كما أن التشكيك في كل ما يحدث بدون شواهد قوية، وقراءة عميقة لتوازنات القوى المتصارعة، قد يؤدي بالبعض إلى اليأس و التعجل في حسم الأمور، والوقوع في محظور اللجوء للعنف، وزيادة حدة الإحتقان والمواجهات في الشارع، مما قد يُخرِج الأمور من دائرة سيطرة الجميع، ويفقد قادة الثورة تحديداً التحكم بمجريات الأحداث، مما قد يدخل البلد في نفق مظلم يصعب الخروج منه. لذا وجب التحذير والتبصير.. والسلام..