هتف المعزون في سرادق عزاء والدة الرئيس السابق (رحمها الله)، (عايد، عايد يا البشير)! وكذلك فعل الكثيرون عندما عاد الرئيس الأسبق جعفر نميري من منفاه، هاتفين، (عايد، عايد يا نميري)! وهتف آخرون عقب انتفاضة أكتوبر التي أطاحت بنظام إبراهيم عبود قائلين، (ضيعناك وضعنا معاك)! وما يجمع بين هؤلاء الرؤساء الثلاثة شكلا، المؤسسة العسكرية المستأثرة بأطول فترات حكم في البلاد منذ الاستقلال، وتجمعهم الدكتاتورية والاستبداد، مضمونا. لكن ما الداعي للحنين الجارف الطاغي المتمثل في ذلك العود الأبدي (المستحيل) الذي يخرج بقوة من حناجر هؤلاء (الهتيفة)؟ وما الداعي لهذا الهتاف اليائس الأليم؟ تعتقد إحدى النظريات الاجتماعية أن أمثال هؤلاء الذين يمكن التأثير عليهم بسهولة وكأنهم أطفال نصف مستيقظين يرحبون بتسليم قيادهم لأي شخص يتكلم بصوت عذب أو مهدد بما يكفي للسيطرة عليهم، عبارة عن خراف. والخراف تريد أن تتبع أحد ما حتى وإن كان يقودها إلى حتفها، فقط عليها أن تسير آمنة مطمئنة هانئة من دون تفكير، وأن يظل العالم على حاله دون أن يطرأ عليه أي تغيير أو يعتريه تبديل وتحويل. ومثل هذا السلوك (الاتكالي والارتكاسي) يمكنه أن يفسر حالة الخوف من التغيير التي تسيطر على عقول كثير من الناس، ويعلل حالة الخضوع التام لمشيئة الدكتاتور الذي يحذر ويخوف من المصائر المجهولة إن خرج الشعب عليه أو أراد الخروج. وهو في نهاية الأمر لا يُري شعبه إلا ما يرى وما يهديه –زاعما-إلا سبيل الرشاد. والمواطن الخروف هو الذي يهتف دائما بحياة الزعيم: أبوكم مين؟ قائدكم مين؟ تقعد بس! لأنه يريد أن يظل في كنف هذا الأب أو الأم الكبيرة ويصبح رضيعا أبديا يأبى الفطام، وهو في ذات الوقت الصامت القانع اللطيف الذي يخشى الفتنة ويأتمر بأمر خراف آخرين يحرمون ويجرمون الخروج عن السلطة، لأن السلطان هو ظل الله في أرض الله، لا يُزال ولا يمحى وإن علا وتجبر. ولأنهم يريدون من جهة أخرى للمجتمع أن يعيش متفقا منسجما لا يتنازع فيه أحد حتى يحصل على الطمأنينة وراحة البال، وهذا لا يتحقق إلا تحت راية وقيادة هذا الزعيم أو ذاك…لذلك عندما يخضع أصحاب السلطة الدينية لأصحاب السلطان الدنيوي يصنعون دينا تسلطيا ليس هو دين الله الذي ارتضاه لعباده، ومن هنا تأتي خطورة الأيديولوجيات الفكرية التي تتحول بدورها هي الأخرى من أفكار تحتمل الصواب والخطأ وقابلة بذلك للمراجعة والتصويب إلى دين يقدس ويعبد ومسلمات صحيحة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها. تظل عملية التغيير صعبة وعسيرة لكنها ضرورية وحتمية فلا بد من التنازع من أجل التحرك إلى الأمام، فالسكون والثبات يقتل الحياة. ويظل الذين يدعون للتغيير والحرية غرباء لأنهم يدعون لمجهول يصادم فكرة الاطمئنان والسكون التي ألفها الآخرون وعاشوا عليها، ويتعارض مع أصحاب المصالح -وهم كثيرون-لأنهم سيفقدون امتيازاتهم التي حازوا عليها بفضل التصفيق والهتاف للطغاة والمستبدين. الذين يحصدون أرواح التلاميذ الصغار في كل يوم يقفون ضد التغيير ويقمعون الحياة والأمل والمستقبل. والحديث عن الماضي الجميل الذي يعشش في عقول المواطنين (الخراف) لا يمنح مستقبلا، ولكن الحرية هي من تمنح المستقبل لأن الحرية هي الحقيقة، وهذه الأجيال تؤمن بالحرية إيمانا لا يزعزعه الرصاص، لذلك لا تهتف ولا تصفق إلا لها………حرية. عبد القادر دقاش [email protected]