-1- في حب بلاده يكتب الشاعر الشيلي الحائز على جائزة نوبل بابلو نيرودا : أُحِبُّكِ ولا أعرٍفُ كيفَ ولا متىَ ولا أينْ ! أحبُّكِ بلا مواربةٍ، بلا كبرياءَ بلا مشاكل ! أحبّكِ هكذا، ولا أعرفُ طريقةً أخْرَى للحُبْ !! ولو جاز لكاتب هذه السطور أن يستعير من قصيدة نيرودا هذه في حبِّ بلاده ، لما أخترت بيتاً أكثر تعبيراً عن حالتي بالأمس ، مثل بيته الذي يقول: (أُحِبُّك هكذا، ولا أعرِفُ طريقةً أُخرَى للحُبْ !!) وأقول إنّ حالتي بالأمس – وهي قطعاً حالة لا يدّعي صاحبُها امتيازاً في عشق الوطن أكثر من حبِّ الملايين التي طالعتنا وجوهها المبتهجة عبر شاشات التلفزة ووسائط التواصل الإجتماعي للوطن – في يوم عرس السودان الكبير. ولكنها حالة عشتُها وأعرف أنني كنت حيالها أقرب إلى الدرويش الغارق في "الحضرة"!! إن سألته عن إسمه أو عنوان بيته في تلك اللحظة بالذات لأجابك وهو صادق فيما يقول: لا أدري!! كان يوم أمس يوماً استثنائياً في تاريخ بلادنا. وكذا كان يوماً فاصلاً في عمري مثلما هو الحال مع الملايين التي ذرفت دموع الفرح بعد أن حبست الغصة في الحلق ثلاثين سنة. كان أمراً مبهراً إذ تلتفت حولك وتمعن النظر في الشاشة أمامك لترى كل هؤلاء الضيوف الكبار وقد جاءوا ليشاركوك الفرحة بميلاد وطن جديد. جاءوا ليحتفوا معك بالحرية التي أشرقت شمسها على الروابي والسهول، وتلونت صفحة مياه النيلين : الأبيض والأزرق بلونها الأرجواني البديع. حتى إذا عبرت الموجة وأختها ملتقى النيلين وتعانقتا "قبال شمبات" وبقعة الإمام في مجرى النيل الخالد، كان لون المياه بمثل تعدّد الأقوام واللغات واللهجات والمناخ في بلادنا. وكانت صفحة النيل الوحدة من خلال هذا التنوع الذي طالما أعطانا الخصوصة وهذا الجمال الخاص بل أعطانا تلك الجسارة التي هي منا وفينا. الجسارة التي حفل بها تاريخنا الغني بالبطولات منذ حريق المك نمر "في قلب الدخيل" كما قال صديقنا الشاعر مبارك بشير. لتمتدّ في أساطير الشرق على يد حرب عصابات الأمير عثمان أبو بكر دقنة الذي كسر مربع جيش الإمبراطورية البريطانية التي ما غابت شمسها إلا في السودان وعلى مدى سبعة عشر عاماً..حتى إذا ألحق الغزاة البريطانيون وآخرون بنا الهزيمة في ملحمة كرري، شهد شاهد من الغزاة – وينستون تشيرشل في كتابه حرب النهر – والحق ما شهدت به الأعداء : (كانوا أشجع من مشى على وجه الغبراء They (were the bravest ever who walked on earth وتستمر ملاحم المقاومة : علي دينار ، السلطان عجبنا سلطان النيمانج ، والسلطان تاج الدين الذي هزم الفرنسيين في معركتيْ "دروتي" و"درجيل". سألت نفسي وأنا في حالة أشبه بحالة الدرويش في الحضرة: هل غريب أن يحتار العالم في الشجاعة حد التهور التي أبداها حفدة وحفيدات أولئك الأبطال، ليحرروا وطنهم في القرن الحادي والعشرين من قبضة الإستبداد؟ -2- تكبر الأشياء في ناظر من يراها في حجم بذرّة تراب لتنمو إلى جبلٍ شامخ. وبمثل هذا التنامي تكبر الأحزان في الجوف. وعندما يرمينا قدرنا بالعجز ثلاثين سنة حسوما ، يلد فيها الحزن المصيبة تلو المصيبة، والبلية تلو البلية – عندما يحدث هذا طيلة ثلاثة عقود – فإنّ فاجعة الحزن تصبح في حجم جبل. ثلاثين سنة والمستبد ابن البلد ينهش لحم مواطنيه. يسرقهم ويقتلهم ويغتصب حرائرهم باسم الدين والتمكين. حتى إذا أنجبت حواء السودانية (الجيل الراكب الراس)- حفدة من ذكرنا من أبطالنا التاريخيين- قصر الظل عن طول النخلة السامقة ، وارتجت الأرض تحت جذع شجرة التبلدي بادية الشموخ والكبرياء ، ولتطلع شمس قانية في لون دم شهدائنا الأبرار من وراء الأفق. كان لابدّ لخفافيش الظلام أن تذهب إلى حيث جاءت. أرى فيكم شبابي أيها الأبناء والبنات من جيل الثورة. قمنا بكل ما نستطيع لنلحق الهزيمة بالنازيين الجدد. لكننا لم نقدر، فقد دخلوا في حسابات المصارف والشركات الوهم والمشاريع العديدة حاملةالأسماء الوهم. أبادوا مئات الآلاف في دار فور. قصفوا بالبراميل المتفجرة أطفال الكهوف في جبال النوبة. أحرقوا المزارع في جنوب النيل الأزرق والنخل في الشمال. عشرات معسكرات النازحين في كل ركن بالسودان. أحسنوا لعبة فرّق تسد بالعودة بنا إلى عصبية القبيلة واللون والمذهب الديني. قاومناهم وفضحناهم وأضعفنا حيلتهم. لكننا لم نسدد لهم الضربة القاضية كما فعلتم أنتم أيها الجيل الراكب الراس. وأمس كنت أبسم كلما سمعت دوي هتافكم: (ثوار أحرار ..حنكمل المشوار)! هذا هو الوعي الذي جاءت به ثورة ديسمبر – بأنّ مشوار ثورتنا الضخمة قد بدأ، لكنه لم يصل الضفة الأخرى للنهر. -3- وأخيراً.. أستأذن قارئ المقال في إزجاء التحية إلى جهات ، إعترافاً بما قدموه وما نأمل أن يواصلوا بعده صوب الأمثل: * تجمع المهنيين السودانيين: تصديتم لقيادة دفة هذه المهمة الصعبة منذ فجر الإنفجار الكبير لثورة ديسمبر المباركة. نتفق مع أدائكم هنا ونختلف هناك. لكننا مدينون لكم بأنكم أحييتم جذوة العمل النقابي الشرس الذي قاد العراك منذ تصدى النقابات لمعركة إستقلال بلادنا حتى معركة الإٌستقلال الثاني الذي سنصنع منه السودان الجديد. لكم التحية. * قادة أفريقيا : أنتم – بما قمتم به – عبر قنوات الإتحاد الأفريقي من عمل ماراثوني شاق وصبر يفوق الوصف ، وبحضوركم عرس بلادنا ، شهوداً على ميلاد دولة المواطنة والحرية قد أعدتم إلينا الثقة بأننا من هذه القارة البكر ، وبأنّ هويتنا لا يمكن البحث عنها في صحارى خارج غابات وأنهار أفريقيا. لكني أستأذنكم في تحية خاصة للجارة أثيوبيا ، فقد حملت همنا بما يكفي. * الطبيب الشاب محمد ناجي الأصم: أخصك بتحية لوحدك ، ليس لأنك أكثر فلاحة من زملائك في الحرية والتغيير . لكني أعجبت كثيراً بثباتك وأنت تتلو أمام الحضور – ومنهم رؤساء دول وقادة منظمات إقليمية – تتلو خطاباً كان الأطول ، لكنه كان منفيستو الثورة دون شك. أعرف أن صياغة الخطاب كان جهداً مشتركاً مع آخرين كما تكرمت وأوضحت ذلك لاحقاً. لكنّ إيصال الرسالة عبرك للعالم كله بهذا الثبات وهذه القدرة في الأداء يستحق أن تشكر عليه. كن هذا الرمز الجسور لجيلك. وليسمح لي قاريء المقال أن أختم بالخاص الذي هو بعض العام. وصلتني في الآونة الأخيرة رسائل من الأهل والصحاب وآخرين وأخريات شرفت بعرفتهم عبر هذا الفضاء يرجونني العودة للوطن. أقول لهم: لم يدر بمخيلتي ذات يوم أنّ غيابي أو حضوري إلى الوطن يعني شيئاً ذا بال. وما أقوم به من فعل التحريض على الوعي عبر الكتابة ، فعل قام ويقوم به الكثيرون. لكن وقد كثر السؤال فإنني أفيدهم بأنّه وقد أنتهت أسباب المنفى الإختياري الذي دام 29 سنة فإنّ العودة إلى بلدي هي خياري هذه الأيام. وأنا مثل الكثيرين أرتب حالي بعد هذا الوقت الطويل للعودة لحضن بلدي. شكراً لاهتمامكم. فضيلي جمّاع لندن في 18/08/2019 [email protected]