الذي حدث اننا قد فقدنا أجمل الشباب. الذي حدث ان الألم اعتصر قلوب الآباء وان جوف الأمهات قد انحرق. الذي حدث ان حيوات في ميعة الصبا تم إخماد جذوتها والقذف بالأجساد التي كانت تزغرد فيها الى عمق النيل. الذي حدث ان الاعتصام العظيم صار أثرا بعد عين، وان ذلك كان جريمة بشعة، تقشعر لها الأبدان. ما الذي حدث؟ حدث انه لم يتم تقديم اعتذار حتى الآن، ولم يتم تحمل للمسئولية ولم تتم محاسبة للجناة الذين سلبوا النوم عن أعين الأهل، وحرموا اجمل الفتيات والفتيان حق الامان بل وحق الحياة نفسه. ما الذي حدث؟ حدث اننا قد استيقظنا ذات صباح، فاذا حناجر صادحةبالأمل، واذا بباقات ورود من شباب السودان من كل ربوعه، قد سحقت حد الموت تحت الخوذات والأحذية العسكرية، وتحت زخات الرصاص وبين ألسنة النيران. حدث ان الخيام الآمنة حالت الى رماد بعد حياة، وبعد ملح وملاح يتقاسمه الناس فيصبحون اسرة واهلا، وبعد أمل واطمئنان. حدث، ان ساحة الإعتصام التي كانت تتزين عروسا معيدة، وصيفات شرفها الحلوات فاقدات المأوى الصغيرات قد صارت الجحيم لا غيره. الصغيرات كن قد تزين، وصففت لهن شعورهن امهاتهن واخواتهن المعتصمات العطوفات. صرن شقيقات مزهوات ببعضهن البعض فكأنما انجبهن جميعا- من جديد- رحم الاعتصام الدفئ. حدث اننا قد انشرحنا، وانفرجت اساريرنا مع كل ضربة فرشاة طلاء ملون على أظافر اصابعهن الصغيرة. حدث ان ارواحنا قد اشرقت بجمال وجوههن الطفولية السعيدة، وبوسامة اشقائهن وابتهاجهم بحلاقة العيد وبملابسه الأثيرة، وسط أسرة وعائلة جديدة، هي اعظم هدايا العيد. حدث اننا كنا ننتظر رغم البعد والمسافة، ان نتذوق طعم خبيز القيادة، وان نفض عن الحلوى اغلفتها البراقة، فنذوق عيد الوطن، فكيف بنا نصحو وقد فض- قتلا واغتصابا وحرقا واغراقا- الإعتصام؟ ما الذي حدث؟ حدث اننا قد سففنا التراب بدلا عن السكر المطحون على الكعك المعد في الخيام وفي آلاف المنازل. حدث اننا شربنا دموع الحزن. الغضب والقهر بدلا عن عن شربات الكركدي والتانق والتبلدي والليمون والموجود مما تجود به البيوت السودانية في احتفالها باستقبال المعيدين والمعيدات. ما الذي حدث؟ حدث ان لون الدم الاحمر قد طغى على كل الألوان ذاك الصباح. انطمس الأصفر الزاهي في فستان الصبية، وتراجع الأخضر في قميص شقيقها، واحتضنت عمائم الاباء، وثياب الأمهات البيضاء اجساد الأبناء المقتولين، فتضمخت بلون الإستشهاد القاني. ما الذي حدث؟ حدث ان جدار ثقة منيع ، بين ثوار عزل وقيادة جيشهم قد انهدم. حدث ان عرس البلاد الأسطوري قد انقلب مأتما، دق صوانه بطول الوطن وعرضه، داخلا وخارجا، فأبكى بناته وابناءه، واصدقاء ثورته. ما الذي حدث؟ حدث أن: "سقطت ما سقطت صابينها" " عندك خت، ما عندك شيل" "الطقة الطقة تعال اتعشى لو متعشي اقعد حلي" " ارفع ايدك فوق، التفتيش بالذوق" والشاي الما عادي، وكل نداءات وأنس الاعتصام العظيم لم يبق منها ذاك الصباح المأساوي، سوى واحد منها.كان نداء ينغم ويردد مثل بقية الاهزوجات، ولكنه كان النبوءة والحدس بالغدر الوشيك: "ما تخلونا، بالليل بيجازفونا" ما الذي حدث؟ حدث ان مفقودات ومفقودين لم يظهر لهم اثر، وان رفاقا لهم يظهرون بغتة، ذابلي الأجساد، يلفهم الذهول، وهم هم من فتنوا العالم بحضورهم الوثاب، وشجاعتهم المبهرة بالأمس القريب. ما الذي حدث؟ حدث ان اسطع النجوم قد غابت عن سمائنا، وان وجوها لا تشبه سوى طلوع البدر المنير، قد طواها باطن الأرض الى الأبد. ما الذي حدث؟ حدث ان غصة القلوب لا زالت باقية، وان المآقي التي تقرحت لا زالت تسكب دموعها، وان المقاطع المسجلة- عجبا- تنتشر وتدخل علينا مثل كي فوق كي على القلوب. ذاك ما حدث، فلنوقف تطبيع هذه العبارة، في حواراتنا اليومية، وفيما نكتبه.تلك العبارة، سواء ورد فعلها بالنطق السليم (حدث) او الشائه(حدس) فهي ليست سوى تلك الكلمات المعجونة بشؤم تراجيديا فض الاعتصام، المتنصلة عن كل مسئولية، وكأن ما حدث انهم قد أخطأوا في درجة حرارة الطقس خلال نشرة جوية. فلنوقف إستخدام تلك العبارة البغيضة، ولنقذف بها راجعة الى من اطلقوها، فهي لا تذكر الا بالفجيعة! رقية وراق الوسوم