عبر تأريخ الثورات السودانية، لم يكن لفنان ثوري الحضور كما كان له، ولم تتفاعل الشوارع والبيوت والغرف المغلقة وسكانها من الرجال والنساء والأطفال كما فعلت معه، ويشهد بذلك كل من تابع الانعكاس الفني والأدبي لثورة ديسمبر المجيدة، حيث اهتزت جنبات الشوارع ورقصت أقدام المارة على أنغام أغانيه، وسجل أيمن ماو إسمه صموداً وثباتاً وإلهاماً في تأريخ الثورات السودانية، وبالرغم من أنه غامر بالغناء بلونية غير معروفة لدى السودانيين، وطريقة غنائه – قد لا تتوافق مع الشرائح التقليدية بالسودان، غير أنها تحظى بإعجاب الشباب الذي شكّل وقود الحراك الذي نجح في اقتلاع النظام- ، إلا أنه أصبح (رابَر) الثورة وفنانها الأول دون منازع، وشكل بأغانيه فن الثورة ووثق لها وقادها لتغدو أغانيه إحدى شعارات الثورة، متجاوزاً بذلك مبدعين سطروا التأريخ الفني لثورات الشعب السوداني. بداية صارخة! ظهر أيمن ماو كفنان ثوري مصادم بعد العشرة أعوام الأولى من الألفية الثانية، وسرعان ما التف حوله آلاف المعجبين الذين مثلت أغانيه تطلعاتهم وعبرت عنهم، في وقت عانى فيه الغناء الثوري من العزلة الاجتماعي، ولم يكن هنالك رابط بين الأجيال الحالية وغناء الثورات الماضية، فبرز نجم ماو وهو يتغنى بكلمات محرضة ومحفزة على الثورة، جاءت بطريقة (الراب السوداني)، واحتملت الأغاني الخطَ السياسي الثوري المطروح آنذاك، بكون أن النظام الحاكم فسد في الأرض وفصل البلاد ولم يكن هنالك بد من طرح إسقاطه عبر انتفاضة شعبية، آمن بها أيمن ماو كفنّان ثوري طليعي تقدم الصفوف وتغنى للثورة داعيا لإشعالها، فصدح مغنياَ :"أبو الشباب .. يلا سوا نمشي نعمل انقلاب"، ولم يكن الانقلاب المعني انقلاباً عسكرياً وإنما كان انقلاباً سلمياً على النظام الإسلامي الحاكم، وكان أيمن ماو واعياً حيث وصف بالمتقدم فكرياً، بكونه ضمّن أغانيه مفاهيماً فكرية وثورية، وحمّلها للشباب الثائر، فتغنى مهاجماً ل(تجار الدين)، ومنادياً بالحرية والسلام والعدالة. الوعي والمنفى! ولأن أيمن ماو كان متميزاً بتفرده بالغناء المباشر ضد نظام الإنقاذ، لم يستطع مواصلة نشاطه الفني داخل السودان، فاضطر للخروج من البلاد نظراً للمضايقات الأمنية، وبالإشارة لكونه ناشطاً في حركة قرفنا الشبابية، وفي هذا الصدد تغنى بأغنية قرفنا المشهورة التي توضح سخط الشباب واستياءهم تمهيداً لاندلاع الثورة، وقبل انفجار هبة سبتمبر المجيدة، غنى أيمن ماو برفقة فرقة "ناس جوطة" أغنية "لا للديكتاتورية"، التي انتشرت في أوساط الشباب وكانت معبرة جداً، وحملت مضاميناً سياسيةً عبرت عن أحلام هذا الجيل في بناء دولة ديمقراطية تحفها العدالة والتقدم والنماء بعيداً عن الحكم الشمولي والقمع، وتقول الأغنية :"لا للديكتاتورية، لا لحكومة شمولية، لا للسلطة الأبدية، نحن نريد الحرية"، وفي المقطع الذي يتغنى به ماو يقول :"الشعب جاكم بالرسالة، يا حاكم أحكم بعدالة"، ويواصل:"دي عصابتك حالفين نطيحها، أحسن ترحل من غير فضيحة"، إلى أن يصل إلى قوله : "سلمية سلمية، والناس في السجون مرمية، عشان بلدي تعيش محمية، ماسك المايك بدل البندقية"، وتعكس السطور مدى وعي الفنان الثوري بقضايا بلاده، وكيفية تمليكه الوعي لشباب الثورة. ماو والثورة! وحين اندلعت ثورة ديسمبر المجيدة، وتحققت آمال الشعب السوداني بالخلاص من الظلم، و طيلة أربعة أشهر من الاحتجاجات ونحو ثلاثة أسابيع من الاعتصام أمام القيادة العامة للجيش، كانت أغاني أيمن ماو تلهم الثوار، ومثلت أغانيه شعارات الثورة، فهتف الثوار: "مرقنا من البيت، ما عشان بنزين، ما عشان أسعار، نحن ناس مارقين، عشان نجيب التار، من تجار الدين، الكتلوا الثوار"، معلنين قيمة الثورة من أجل القصاص لكل الشهداء، ومؤكدين أن الثورة ثورة وعي. وكانت أغاني ماو تُبث عبر مكبرات الصوت في كل مكان وبكل خيم المعتصمين. إلى أن حل أيمن بين المعتصمين وأقام حفلاً حضره الملايين من أبناء الشعب السوداني. عن الحفل! وتحدث للقنوات الفضائية عضو اللجنة الإعلامية للاعتصام عن حفل ماو قائلاَ إن الحفل جاء بمبادرة شخصية من ماو ومجموعة "قرفنا" التي نجحت أيضا في إحضار "جوطة باند"، وهي فرقة راب سودانية يقيم أعضاؤها في أميركا أيضا، مشيداً بماو بوصفه أحد الفنانين السودانيين الذين غنوا للثورة منذ وقتٍ مبكر حيث انتهج مساراً ثورياً في أعماله الفنية التي اهتمت بقضايا الوطن وكل احداثه، وأشار في حديثه إلى أغنية "بن علي هرب" التي تغنى بها في العام 2011 بعد سقوط النظام التونسي، وقال فيها :"بن علي هرب، يا كيزان يومكم اقترب" وصدق وقتها، وأكد أن أغاني ماو تحظى بقبول في الشارع، وظلت محركا للمواكب خلال الاحتجاجات التي بدأت منذ ديسمبر الماضي، وعزا تأثير أغاني الفنان المهاجر إلى كتابتها بمفردات بسيطة لكنها حقيقية تلامس الواقع بشدة وقريبة من الشباب، مبينا أن ماو لا يطرح قضية موسيقى وصوت أكثر من طرحه أغاني للواقع غالبا ما ينظمها ويغنيها من داخل سيارته. حديث الفنان! وفي حديث للفنان بالإشارة إلى كونه منفياً ولا يستطيع الغناء من الداخل، قال إن تمكنه من العودة إلى البلاد والغناء أمام الملايين لم يكن أن يكون واقعاً إلا أن أشخاصاً دفعوا دماءهم وأرواحهم من أجل الحرية ومن أجل أن نغني بحرية، ولكنه أبدى تخوفه من فض الإعتصام، مشيراً إلى إمكانية غناءه أمام الجناهير إذا تم فض الإعتصام، وأكد في نفس الوقت إستمراره في المقاومة والغناء حتى تتحقق مطالب الشعب السوداني، وصرح أن تداول أغانيه لم يكن إلا جزءا من مكونات الثورة مثل الحراك على الأرض وتجمع المهنيين والموسيقيين والفنانين التشكيليين وآخرين، قائلاً إن "الفنون المختلفة ظهرت كفريق عمل أدى إلى استمرار الثورة". ويمكن القول أنه في اللحظة التي حل فيها أيمن ماو بين الثوار في ساحة الاعتصام بالخرطوم، وحضوره للغناء بين الملايين التي احتشدت أمام المنصة الرئيسية للإستماع إليه، وضجت جنبات الساحة بصوت ماو صادحاً :"رصّاصة حية"، لتنفجر بعده أصوات الملايين مجيبين: "ويقولوا ليك مطاطة"، شكلت تلك اللحظة توقيعاً على دفتر التأريخ الثوري بكتابة إسم لم ينهزم ولم يلنْ ولم يفقد بريقه، أيمن ماو. الوسوم الثورة السودانية السودان