دأبت صحف الخرطوم خلال الأيام الفائتة على متابعة لهيب الأسعار وتوحش الاسواق ورصد الغلاء المتصاعد بسرعة وحق لها أن تفعل فذلك هو هم المواطنين الأول، وعني شخصياً كل ما يلتقيني شخص ويعلم هويتي الصحفية لا يطالبني بشئ غير الكتابة عن غول الغلاء، اذ لم يكن للفقراء ومحدودي الدخل من حيلة لمواجهة هذا الوحش غير أن يبتدعوا بعض الحلول الإبداعية الشعبية، سواء كان ذلك في مجال الطعام الذي ابدعوا فيه عدد من الأكلات والأطعمة فقيرة المحتوى مثل أم بلقسات المكونة من كدارين الدجاج وأطرافه وأحشائه، وساندوتش الموز و المنقة بالشطة وغيرها من أطعمة فقيرة لإسكات قرقرة بطونهم ، أو في مجال الأحذية فاخترعوا الشقيانة وتموت تخلي وأم جنق وغيرها ، بل حتى في مجال الكريمات ومستحضرات تجميل الفتيات ، حيث اجبروا باعة هذه الكريمات على بيعها بأوزان قليلة وعبوات صغيرة جداً لا تتجاوز سعة ملعقة الشاي تقديراً لظروف الشارين، ولهذا السبب اصطلح على تسمية مثل هذه البيوع ( قدر ظروفك ) ،ولكن هذه الظروف تأبى أن تتحسن بل ظلت فى تدهور مستمر لتتوسع تبعاً لذلك سلة السلع المشمولة برعاية آلية ( قدر ظروفك )،ومن السلع التي دخلت مؤخراً ضمن هذه القائمة الخضروات ومكونات ( حلة الملاح ) التي باتت تباع بنظام ( قدر ظروفك ) ..فهل مع استمرار هذا الحال يمكن أن تصدق نبوءة الممثل السوداني غدير ميرغني بأن يصل بنا الحال مع الغلاء المتصاعد الذي استعصى على أي حل، أن يصار إلى تعبئة اللحمة داخل كبسولات صغيرة بعد اجراء بعض المعالجات المعملية والمختبرية عليها، وبدلاً من أن تساق الأنعام إلى السلخانات والمذابح ستحول وجهتها للاصطفاف أمام مداخل المعامل والمختبرات لمعالجتها كيميائياً لتخرج في شكل جرعة دوائية لتعويض فاقد البروتينات بواقع كبسولة ثلاث مرات في اليوم، نعم لقد حق يومها للممثل الفنان غدير ميرغني أن يسخر في احدى المسرحيات التي شهد زمن عرضها أزمة في اللحوم وأسعارها،حتى صارت اللحمة شيئاً نادراً وعزيزاً وغالياً وصعب المنال إلا لذوي البسطة في السلطة والمال في بلد يعد من أغنى بلاد الله بالأنعام والثروة الحيوانية وصيد البر والبحر…. اننا حقيقة لا ندري لهذا الغلاء الجنوني سبباً منطقياً ولا مبرراً مبلوعاً يطفر ويقفز بأسعار السلع والمواد الغذائية والخدمات الطبية والتعليمية الى هذا المستوى اللامعقول، والذي سجلت فيه بلادنا درجة متقدمة في الغلاء من بين الدول الأغلى عربياً، وليست المشكلة فقط في هذا الغلاء المتفاحش، وإنما المشكلة أيضاً في هذا البرود الذي تقابل به السلطات هذه الأوضاع الساخنة التي يكتوي بنارها المستهلكون وخاصة محدودي الدخل والفقراء منهم، حيث لم يبدر من أي مستوى من السلطة حتى الآن أي تدبير عملي ذي فعالية وحضور للتعامل مع هذا الانفلات الذي اجتاح الأسواق، وانما للحسرة، إما أن تسمع منهم آهات وتحسرات يطلقونها مثلي مثلك، أو انتقادات لا تدري لمن يوجهونها، لأنفسهم أم لأهل سلطة آخرين من وراء حجاب لا يعلمهم العامة؟، أو يشنون هجوماً كاسحاً باللسان كأضعف الايمان على من يسمونهم التجار الجشعين والمهربين المخاتلين دون أن يحاربوهم ويحاكموهم.